فوق «كرسي الاعتراف»، يحكي المشّاء خالد مشبال تفاصيل «الرحلة الأسطورية» التي قادته، ورفيق دربه عبد القادر السباعي، من وادي ملوية حتى بحر الإسكندرية، مرورا بتفاصيل مشوقة حينا ومؤلمة أحيانا، من محطاته الجزائرية والتونسية واللليبية؛ كما يتوقف مشبال عند العلاقة التي نشأت بينه وبين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، ولقاءاته بعدد من رموز الحركة الوطنية المغاربية، ونجوم الثقافة والفن والسياسة في مصر. كما يحكي خالد عن عودته في 1958 إلى المغرب واشتغاله في «راديو إفريقيا»، وتغطيته مؤتمر الوحدة المغاربية، وتفاصيل محاورته المهدي بن بركة الذي أحرجه مشبال بأسئلة عن «إيكس ليبان» وعدم تنسيقه مع الخطابي وخلافاته مع حزب الشورى. ولا يفوت مشبال أن يعرض لذكرياته مع المهدي المنجرة الذي دخل في خلاف مع مولاي احمد العلوي الذي كُلف بالتخلص من المحطات الإذاعية الأجنبية الجريئة، وكيف فوض إذاعيو هذه المحطات مشبال لتمثيلهم في مفاوضة المسؤولين. على «كرسي الاعتراف»، يُقر مشبال بماضيه السياسي إلى جانب أبرز القادة الاتحاديين، خلال سنوات الجمر والرصاص.. كما يعترف بكل اللحظات الجميلة والعصيبة التي عرفتها إذاعة طنجة على عهده. - كيف أصبحت نظرة والدك الخباز البسيط إلى ابنه الذي غادره دون سابق إشعار إلى مصر، مشيا على الأقدام، وعاد منها صحافيا ذا علاقة بكبار رجالات السياسة والوطنية والثقافة والفن؟ لقد كان والدي ينظر إلي بافتخار، ولعله كان يرى فيّ تحقق طموحاته التي تبددت لعدة أسباب. كان والدي عبقريا، ورغم أنه كان خبازا بسيطا، فقد كان يحفظ القرآن وتحلو له مجادلة عدد من المتعلمين في تفسير النصوص القرآنية وشرح معانيها، وربما كان قد أخذ ذلك عن أعمامه الذين كان معظمهم علماء من خريجي جامعة القرويين. كما أن والدي كان مواظبا على الاستماع إلى الراديو، وكان من القلائل الذين يتوفرون على جهاز راديو في حومة الطلعة بتطوان، ومازلت أذكر كيف كان عدد من الناس يأتون إلى بيتنا للاستماع رفقته إلى الراديو. وأعتقد أن اهتمامي بالعمل الإذاعي جاء في الغالب من هذا الطقس. ولكي يتمكن والدي من الاستماع بوضوح إلى المحطات الإذاعية العالمية فقد صنع بنفسه هوائيات خاصة له في المنزل كان يربطها بخيوط إلى الجهاز. كما كان والدي مواظبا على قراءة الصحف التي كانت تصدر في تطوان، ومنها جريدة «الريف» التي كان يصدرها التهامي الوزاني الذي كان يتوفر على مطبعة متفرعة عن بيته بزنقة المقدم، وكانت له علاقة بوالدي ترسخت بفعل اضطلاع والدي بإصلاح آليات مطبعته الحجرية. - كيف كان والدك يقوم بإصلاح آليات المطبعة وهو مجرد خباز؟ كان السي التهامي الوزاني يأتي مرارا إلى والدي في محله بالسوق الفوقي فيقول له: «آ السي محمد الغماري شي ماكينة ديال الطبع تخسرت» (الغماري كان لقب والد مشبال نسبة إلى قبيلته غمارة)؛ ورغم أن والدي لم تكن له علاقة بميكانيكا المطابع فإن ذكاءه وعناده في التعلم والتفوق كانا يجعلانه لا ينفك يبحث عن مكمن العطب ويحاول جاهدا إصلاحه حتى ينجح في ما نذر نفسه له. لقد اكتشف السي التهامي الوزاني في والدي ذلك المولوع بالبحث في الميكانيكا، عندما كانا يصليان الفجر معا بمسجد السوق الفوقي، وهذه هي الفترة التي كان السي التهامي يطبع فيها الجريدة. وذات صلاة فجر، أخبر الوزاني والدي بحصول عطب في إحدى الطابعات، فاقترح عليه أن يقوم بفحصها (يضحك) «الوالد مبلي.. فين ما شاف شي حاجة غريبة عليه خصو يقلب فيها»، وبعد مدة من التفحص والعمل في تلك الطابعة «جاب الله التيسير». - ألا يعود ولع والدك بالميكانيكا إلى الزمن الذي قضاه، خلال حرب الريف، مساعدا لأحد تقنيي السلاح ضمن مجاهدي محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما سبق أن حكيت لي؟ في الغالب. وعلى ذكر السلاح، فقد كان هناك في رأس حي الطلعة، مدفع إسباني «يضرب» في الثانية عشرة زوالا، وكنا نسميه «المدفع د النصارى»، وأعلى منه كان هناك مدفع آخر «يضرب» كل يوم جمعة وفي الأعياد وكنا نسميه «المدفع د المسلمين»، وكان يتم حشو المدفع بالخرق البالية يضاف إليها قليل من البارود فتحدث بعد الطلقة صوتا مدويا. وذات جمعة أصيب «المدفع د المسلمين» بعطب؛ وبما أن فرن والدي كان يقع أسفل مكان المدفعين، فقد جاء الشخص المكلف بالمدفع إلى الفرن وحكى لوالدي أنه لا يشتغل. ولما بالوالد من فضول لمعرفة سبب العطل الذي أصاب المدفع فقد تطوع لمعاينته، وبالإصرار والعناد اللذين يتعاطى بهما مع مثل هذه الحالات من الأعطاب المستعصية فقد تعرف على مكمن الخلل وأصلحه قبل أن يتوجه لمرافقه: «اطلق» ف»ضرب» المدفع كالمعتاد،.. (يضحك) ومن عبقريات والدي أنه اخترع هاتفا يربط بين فرنه والبيت. - كيف ذلك؟ كان والدي يحرص على أن يبيت العجين جاهزا ليطرحه في الفرن قبل شروق الشمس، وقد كان الأمر في البداية يتطلب منه الذهاب من البيت إلى الفرن لإيقاظ «المعلم» و»الطراح» اللذين يبيتان في الفرن، ثم يرافق الطراح إلى البيت ويمده ب»القجورة ديا الخبز». وكانت المسافة بين الفرن ومحل إقامتنا تقدر بحوالي 300 متر، عبارة عن عقبة ملتوية وغير آمنة، وكان قد تم اعتراض سبيل والدي مرارا، خصوصا وأنه كان يوجد بجانب الفرن والبيت «رياض مولاي عبد السلام»، ومولاي عبد السلام هذا هو أحد القواد الإسبان، وكان مسؤولا عن عدد من النازحين من الريف بفعل الجوع، فكان منهم من يعترضون سبيل المارة ليلا ويسلبونهم ممتلكاتهم. وهنا فكر والدي في اختراع الهاتف بين المنزل والفرن. - كيف فعل ذلك؟ مدّ مجموعة من الأسلاك ما بين المنزل والفرن، من فوق الأسطح، وجعل عند طرفيهما، في الفرن وفي المنزل، جرسا من النوع الذي كان يرنّ في الساعات المنبهة، على رأس كل ساعة، فكان والدي يدق الجرس عندما يخمر العجين فيأتي «الطراح» ويأخذها. لكنه لاحقا طور الهاتف فلم يعد يقتصر على الرنين، بل أصبح متاحا لوالدي الحديث عبره إلى عماله في الفرن. - كيف؟ أنا بدوري لا أعرف كيف فعل ذلك. المهم أنني وأنا طفل كنت أسمعه يتحدث إلى عمال الفرن قائلا: «فقتو مفقتوشي.. يا الله العجين خمرت». من ناحية أخرى، فكل مفاتيح الإنارة في بيتنا كان والدي يصنعها من القصب، ويصنع منها زرا تضغطه فيشتعل المصباح.