عندما يقول جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، يوم الثلاثاء، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتصل به طالبا مساعدة واشنطن من جديد للتوسط في وقف إطلاق النار في غزة، فهذا يعني أنه رفع الراية البيضاء وأدرك أنه لن يحقق أي انتصار، صغير أو كبير، في عدوانه الوحشي. نتنياهو ذهب إلى «المنقذ» الأمريكي صاغرا متوسلا مستسلما، متخليا عن غروره وغطرسته، والفضل في ذلك يعود إلى إبطال قطاع غزة الذين فاجؤوا العالم بأسره بإدارتهم الرائعة لهذه الحرب، وصمودهم المشرف في وجه العدوان، وصناعتهم العسكرية المتطورة، واعتمادهم على أنفسهم، ودماء شهدائهم، وإدارة الظهر لكل المتواطئين من العرب وأموالهم وترسانات أسلحتهم التي لا تستخدم إلا في قتل الشعوب. نتنياهو الذي هدد بتوسيع هجومه البري، وأرسل طائراته الحربية المثقلة بالصواريخ والقنابل لارتكاب مجزرة راح ضحيتها عشرة أطفال شهداء، أدرك أنه مهزوم في هذه الحرب، فقرر الهروب وتقليص الخسائر. اعتقد نتنياهو أن الحرب سهلة، ومثل سابقاتها، قصفا جويا مكثفا وقتلا للمئات من الأبرياء، ثم بعد ذلك يأتي العرب في معسكر «الاعتدال» وأدعياء الحكمة والواقعية والحرص على السلام لوقف إطلاق النار؛ ولكنها المرة الأولى، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي يرفض فيها رجال المقاومة كل عروض وقف إطلاق النار التي لا تلبي شروطهم كاملة في رفع الحصار والتصدي للعدوان الذي استعدوا له جيدا رغم الحصار والجوع وحملات التشويه والتضليل الإعلامية المكثفة. نقطة التحول الرئيسية تتمثل في هذا الالتفاف الشعبي غير المسبوق، ومن كل التوجهات، حول المقاومة، وإظهار أقوى صور الاستعداد لتقديم التضحيات والصمود في مواجهة العدوان، معززة بالتكافل الاجتماعي والاعتماد على النفس والإيمان بالنصر. الأنفاق ظلت وستبقى شامخة على حالها، عنوانا للإبداع والعبقرية الفلسطينية، والصواريخ مازالت تهبط كالمطر، وستظل، على المستوطنات الإسرائيلية والمدن الفلسطينية المحتلة في تل أبيب وحيفا ويافا والقدس وعسقلان وأسدود، وتهدد بإغلاق مطار تل أبيب في أي لحظة، وستكون أكثر دقة في إصابة أهدافها، وتحمل رؤوسا أكثر تدميرا. الخوف كل الخوف من المتواطئين العرب الذين يخافون من ثقافة المقاومة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، لكننا على ثقة بأنهم سيصابون الآن، وبعد رفع نتنياهو راية الاستسلام وطلبه طوق النجاة من كيري الذي كان يسبه بالأمس، بحالة من الاكتئاب والانكسار ف»بطلهم» الإسرائيلي لم يحقق طموحاتهم في القضاء على هذه الظاهرة، ونزع سلاح المقاومة، وإغراق أبناء القطاع في السلام الاقتصادي، لأنهم وبكل بساطة يجهلون هذا الشعب ولا يعرفون عزيمته الجبارة وحالة الاعتزاز والثقة بالنفس التي يتمتع بها. فالوزير كيري جعلنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من أن يسلب بعض العرب هذا الانتصار المشرف للمقاومة، عندما قال إن «هناك مفاوضات جديدة ستجري في القاهرة وستكون بأكملها دون أي شروط مسبقة، ولن تعرقل قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها»، فقاهرة اليوم ليست القاهرة التي عرفناها وأحببناها، قاهرة حرب السويس وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر. الوسطاء العرب صمتوا طوال الأسابيع الثلاثة الماضية من عمر العدوان، انتظارا لانتصار نتنياهو، وتوقعا لرفع أهل غزة الرايات البيضاء، وعندما طال انتظارهم نطقوا، نطقوا كفرا بتوجيههم اللوم إلى الضحية وتبرئة الجلاد، مثلما سمعنا على لسان الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق. نتنياهو تراجع بطريقة مذلة ومهينة عندما شاهد جنوده وضباطه يتساقطون مثل الذباب في هجمات المقاومة التي خرج عليهم رجالها من تحت الأرض، وقاتلوا برجولة لم يتعود عليها هؤلاء ولم يحسبوا حسابها، ومعركة مستوطنة «نحال عوز» شمال قطاع غزة التي اقتحمها رجال المقاومة وقتلوا عشرة من الجنود الإسرائيليين وأصابوا العشرات خير شاهد. مهندسو معجزة الأنفاق، الذين لم يدرسوا في جامعات سانت هيرست وسانت بونيت العسكريتين أو جامعة الإمبيريال كوليدج المدنية وتخرجوا من أكاديمية الكرامة الأعرق تحت الأرض، سيعيدون بناء ما دمرته إسرائيل وطائراتها فوق الأرض، وسيفرضون شروطهم كاملة، وستكون إنجازاتهم ورجولتهم هما الضمانة الوحيدة لإلزام نتنياهو، هذا إذا بقي في السلطة، بتلبية شروط أو بنود أي اتفاق جديد. عندما يحمل الآباء جثامين أطفالهم الطاهرة إلى مقابر الشهداء، صادحين بالدعم للمقاومة ورجالها، ومستعدين لتقديم ما تبقى من أبنائهم فداء للوطن، فهذا شعب لا يمكن أن يهزم. فالشرعية هي المقاومة والمقاومة هي الشرعية، وعملية التغيير بدأت، وستنطلق من مقابر الشهداء وانفاق غزة، وبسواعد رجالها، الذين حققوا معجزة الانتصار في زمن التخاذل. شكرا لابطال غزة الذين غيروا كل المعادلات، واعادوا الكرامة الى هذه الامة، وضربوا اروع الامثلة في الصمود وكسر حاجز الخوف والرهبة، واثبتوا ان الارادة القوية، والعزيمة الصادقة، والسباق نحو الشهادة، اقوى من كل طائرات امريكا، وقبب اسرائيل الحديدة، ودبابات "الميركافا". نتنياهو ويعالون جرى تلقينهم اصعب الدروس، واحترقت اصابعهم في غزة، وسيحسبوا الف حساب في المرة القادمة قبل ان يفكرا بتكرار عدوانهم مرة اخرى. عبد الباري عطوان