في الوقت الذي ترتكب فيه الطائرات والدبابات الإسرائيلية مجزرة دموية في حي الشجاعية في قطاع غزة وتقتل العشرات من الأبرياء وتدمر البيوت وتهجر عشرات الآلاف إلى العراء، يخرج علينا جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، بتصريحات يلقي فيها اللوم على حركة «حماس» وحركات المقاومة الأخرى في القطاع لأنها رفضت وقف إطلاق النار، بينما يؤكد رئيسه باراك أوباما على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. هذه المواقف، التي تتسم بالوقاحة وانعدام الضمير، تؤكد لنا مجددا أن الولاياتالمتحدة شريكة في هذا العدوان، ومسؤولة جنبا إلى جنب مع الحكومة الإسرائيلية، إن لم يكن أكثر، عن كل قطرة دم تسفك في القطاع المنكوب. كيري يقول: «إننا عرضنا عليهم وقفا لإطلاق النار ولكنهم رفضوه «بتعنت»»، وبقي أن يكمل كلامه هذا بقوله: ولهذا هذه المجازر وما هو أكثر منها. موقف كيري هذا لم يفاجئنا لأنه جاء محصلة لمواقف أنظمة عربية أرادت فرض اتفاق وقف إطلاق النار على حركات المقاومة الفلسطينية بطريقة مهينة ومتعجرفة من أجل أن ترفضه، وبما يعطي إسرائيل الضوء الأخضر، والغطاء العربي، لارتكاب مجازرها التي نراها على شاشات التلفزة العربية والعالمية. حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى لم تطلب المعجزات، ولم تعرض أي شروط، طالبت فقد برفع الحصار وخروج مليوني فلسطيني من قفصه، والإفراج عن معتقلي صفقة شاليط، وتطبيق بنود اتفاقات سابقة نكثتها إسرائيل، ووقف الاعتداءات، وحرية السفر، والحياة بصورة طبيعية مثل البشر الآخرين، فهل هذا تعنت، وهل هذه طلبات مستحيلة يا مستر كيري ويا مستر باراك حسين أوباما؟ مخجل أن يقف أوباما ووزيره كيري، اللذان أفشل الإسرائيليون مبادرتهما للسلام ونقضوا تعداتهما بالإفراج عن الأسرى وفقا لنصوصها، مخجل أن يتحدثا عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وفي مواجهة من؟ مجموعة من العزل المحاصرين المجوَّعين، وعبر قتل مئات الأطفال والنساء وتدمير آلاف البيوت، وتهجير مئات الآلاف. فإذا كان كيري سيأتي إلى المنطقة ويمثل هذه الروحية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الإنسانية والحس الأخلاقي، فإننا ننصحه بأن يعيد النظر في حضوره وخططه، لأن المقاومة لن تتخلى عن شروطها حتى لو أرادت، لإدراكها أن الشعب الفلسطيني في غزة لن يضحي بدماء شهدائه من أجل هدنة تنقذ إسرائيل وتبرئها من مجازرها، وتعيده إلى وضع الموت البطيء السابق. قطاع غزة يعيش حاليا أروع صور التلاحم بين الشعب والمقاومة على أرضية رفض الإذلال والخنوع، والتصدي للعدوان مهما تعاظمت التضحيات وعدم العودة إلى الوراء، وأنا هنا ألخص مواقف أمهات الشهداء وآبائهم، وأصحاب البيوت المدمرة التي شاهدناها على شاشات الفضائيات بالصوت والصورة، هؤلاء الذين لم أرَ في حياتي معنويات مثل معنوياتهم واستعدادا للتضحية مثل استعداداتهم. الجيش الإسرائيلي والمتواطئون مع عدوانه من العرب يعيشون «حالة سعار» بعد فشلهم في فرض إرادتهم على أبناء القطاع ورجال مقاومته، وإجبارهم على القبول بمبادرة لوقف إطلاق النار صاغ بنودها نتنياهو وتوني بلير وحملها إليهم «ساعي بريد» مصري، منفصل كليا عن الواقع الإقليمي ومتغيراته، وأعمته العنجهية عن رؤية الحقائق على الأرض. حالة السعار هذه انعكست في مجزرة حي «الشجاعية» التي رفض أهلها تحذيرات بإخلاء بيوتهم، وقرروا تحدي الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، في وقفة صمود شجاعة ستدخل كتب التاريخ لكي تدرسها كل الأجيال القادمة، ليس في فلسطين وإنما في العالم بأسره، كأحد فصول الصمود الأسطورية. حاولوا ترويع المدنيين بكل الطرق والوسائل.. استخدموا الطائرات بكل أنواعها، وألقوا فوق رؤوسهم أكثر من ألفي طن من المتفجرات في أيام معدودة، وهددوهم بالدبابات والهجوم البري، فلم يجدوا إلا المزيد من الصمود والمزيد من الدعم للمقاومة والالتفاف حولها، والاعتماد على الله وحده. المجازر، التي استخدمت لإجبار فصائل المقاومة على القبول بالمبادرة المصرية ورفع الرايات البيضاء، لم تعط ثمارها مع شعب «عنيد» في الحق، وكريم جدا في العطاء، وعزيز في الحفاظ على كرامته الوطنية قبل الشخصية. المقاومة الفلسطينية، وبعد 12 يوما من المواجهات، بدأت توجع المعتدي الإسرائيلي وتلحق به الخسائر البشرية القاتلة رغم دباباته المحصنة والغطاء الجوي الذي يحميها، ودون أن تتوقف هذه المقاومة عن إطلاق الصواريخ على تل أبيب وديمونة والقدس وعسقلان وأسدود وكل المستوطنات الإسرائيلية. رجال المقاومة يقتلون جنودا ويدمرون دبابات وعربات مصفحة، بتفجير أجسادهم الطاهرة، هذا هو ميزان القوى ومعاييره المختلة التي تحكم هذه الحرب، ولكن الإرادة تظل أقوى من كل الطائرات والدبابات، فإسرائيل ليست أقوى من أمريكا التي هزمت في العراق وتهزم في أفغانستان. المنطقة العربية تشهد حاليا حالة استنفار قصوى، حيث تتعاظم الاتصالات واللقاءات والجولات والزوار، والهدف منها جميعا ليس إنقاذ أهل غزة وإنما إنقاذ إسرائيل وجيشها وقيادتها السياسية قبل العسكرية من خلال الضغط على فصائل المقاومة بالتهديد والوعيد، وإزهاق أرواح المئات من الأطفال والنساء والعجزة، ولكن كل هؤلاء المنخرطين في هذه اللقاءات، فلسطينيين كانوا أو عربا، لا يستطيعون فرض «شروطهم» على أهل القطاع ورجاله، لأنهم أصحاب اليد العليا المكللة بالصمود والتضحية، فالذي سيقرر هو المقاتل على الأرض، الذي لم يبدأ هذه الحرب ولكنه هو وحده الذي يستطيع أن ينهيها ووفق شروطه، ويدرك جيدا أن عامل الزمن لصالحه، فهو يقاتل دفاعا عن نفسه وأرضه وعرضه. الحرب مازالت في بداياتها، ومثلما يتحدث نتنياهو عن مرحلة أولى وثانية وثالثة، فإن كتائب القسام وسرايا القدس والناصر صلاح الدين وأبو علي مصطفى وأبو الريش وشهداء الأقصى وجهاد جبريل والقائمة تطول، تملك مراحلها أيضا، مثلما تملك نفسا طويلا وقدرة أكبر على تقديم التضحيات. يوم السبت قالوا إنهم يريدون وقف إطلاق الصواريخ، واليوم يقولون إنهم يريدون تدمير الأنفاق، فماذا سيقولون ويطلبون غدا؟ تحويل أبناء الشعب الفلسطيني إلى عبيد ونسائهم إلى سبايا للاحتلال الإسرائيلي ليس أمامهم إلا الخنوع للسيد الإسرائيلي في ظل مباركة عربية؟ يتهمون «حماس» وفصائل المقاومة باستخدام المدنيين دروعا بشرية، وهل هناك في غزة غير كتل اللحم؟ وحتى لو كان هذا صحيحا، وهو ليس كذلك حتما، فجميع المقاتلين تحت الأرض أساسا وليس فوقها، فإن إسرائيل هي التي تستخدم المدنيين كدروع بشرية فعلا لحماية دباباتها وعرباتها المصفحة، وتسفك دماءهم وتزهق أرواحهم كورقة ضغط في محاولة يائسة لفرض شروطها من موقع القتل والترهيب. الجميع، بلا استثناء، سقطوا في اختبار الكرامة في غزة، ابتداء من الرئيس محمود عباس وسلطته وانتهاء بالنظام العربي، سقطوا جميعا بشكل مخجل ومهين، وسيسقط معهم نتنياهو وكل جنرالاته، وستكون المنطقة العربية بعد صمود أهل غزة غيرها قبله، فقد عادت ثقافة المقاومة أكثر قوة وصلابة وعمقا، فالصمود والبطولات والتضحيات هي مفردات التغيير وأدواته وليس الخنوع والاستسلام للأعداء. فعندما لا تجد جثامين الشهداء مكانا في ثلاجات مستشفيات قطاع غزة، وعندما تنعدم الأدوية الأساسية، ناهيك عن الأسرَّة لتضميد جراح المصابين بشظايا القصف، فإن هذا عار على كل الزعامات العربية. كانت أمام الجنرال السيسي، رئيس مصر الجديد، فرصة ذهبية للتصالح مع نفسه وضميره والأمة بأسرها ومحو الكثير من الخطايا، وإعادة الهيبة والمكانة إلى مصر العزيزة علينا جميعا، بإدارة أزمة العدوان والتصدي برجولة وشجاعة، وإظهار معدن الشعب المصري الأصيل، ولكنه للأسف لم يفعل، ولن يفعل، وأضاع هذه الفرصة التاريخية، التي قد لا تتكرر، لأنه أخطأ الحسابات وأساء التقدير واستمع إلى من لا يجب أن يستمع إليهم، فتركيع أهل قطاع غزة، الذين هزموا الإسكندر المقدوني، ليس بالأمر السهل. فلسطين هي بوصلة الشرف والكرامة والعزة والوطنية، ومن يحدْ عنها سيلفظه شعبه والتاريخ معا، والحكيم من اتعظ بغيره. عبد الباري عطوان