السؤال الذي يتردد على ألسنة الغالبية الساحقة من أبناء قطاع غزة الذين يعيشون تحت القصف وتطاردهم القنابل الإسرائيلية من كل الاتجاهات هو: لماذا يعيش الإسرائيليون في أمن واستقرار ورخاء بينما نعيش نحن في فقر وجوع وقصف وإغلاق معابر وانقطاع كهرباء وتلوث مياه؟ يقول أبناء القطاع لمن يتصل بهم قلقا مستفسرا عن أوضاعهم: اِطمئن نحن بخير، سنستشهد واقفين، أنتم الذين يجب أن تقلقوا لأنكم لا تعرفون «متعة» الصمود بشرف وكرامة، ليس في وجه العدوان الإسرائيلي فقط، وإنما في وجه هذه الأنظمة العربية المتواطئة. يؤكد أبناء القطاع، أيضا، أنهم يعيشون حياتهم الطبيعية تحت القصف، يذهبون إلى محلاتهم التجارية، أو إلى البحر لصيد سمكة ضالة، أو إلى الحقل لجني بعض الثمار وحصد بعض قمح وذرة، تعاني سنابله وأكوازه من فقر تربة وعطش مزمن لماء شحيح. قال لي أحد أبناء القطاع بلهجة «فلاحية» أصيلة إجابة عن سؤالي حول بيته الذي دمره صاروخ إسرائيلي قبل ثلاثة أيام وساواه بالأرض: لا بأس سنعود إلى الخيام وسنفترش الأرض ونلتحف السماء، تماما مثلما كان يفعل آباؤنا وأجدادنا في أيام النكبة الأولى، الحجر يمكن العثور عليه، والبيت يمكن إعادة بنائه، لكن المهم ألا تنكسر الكرامة التي هي أعز لدينا من أرواحنا. يتحدث إليك أهل غزة بتواضع الأقوياء ويقولون: أيهما أفضل.. الموت البطيء أم الموت السريع، طالما أن الشهادة باتت حتمية؟ نعم لم تعد الطائرات أو الدبابات الإسرائيلية تخيفنا، ولم نعد ننتظر مساعدة من أحد، ولا نتطلع إلى شفقة أحد. بهذه الروح، وهذه المواقف، الغالبية الساحقة من أهل قطاع غزة مع المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، ويتطابق موقفهم مع مواقف جميع فصائل المقاومة الرافضة لها بقوة وإباء، ويؤكدون أنهم لن يقبلوا العودة إلى الوراء والتضحية بكل دماء شهدائهم حتى يخرج نتنياهو منتصرا، فلا عودة مطلقا إلى الوضع المزري السابق مهما كان الثمن. في الماضي، كان هناك تباين في مواقف أبناء القطاع، فأهل حماس وسلطتها الحاكمة غير أهل حركة «فتح»، والموقفان كانا في تضاد في معظم الحالات، الآن ذابت كل هذه الفروقات والخلافات، وانخرط الجميع في «انتفاضة الصواريخ» في وحدة حال غير مسبوقة، وباتوا جميعا يقفون في الخندق الرافض للمبادرة المصرية التي اعتبروها مذلة ومهينة، ويتحدون الموت ونتنياهو وكل الأنظمة العربية الصامتة، بل والمشجعة لمجازره على أمل الانتهاء من ظاهرة المقاومة التي يمقتونها وتقض مضاجعهم. السلطات المصرية قدمت هذه المبادرة وعبر وسائل الإعلام بعد الاتفاق على بنودها مع نتنياهو، اعتقادا منها أن فصائل المقاومة، التي تخوض حربا تعرف جيدا أنها غير متوازنة، ستتلقف هذه «العظمة» باحتفال مهيب، لأنها ستوقف آلة القتل الإسرائيلية، ولكنها أخطأت وكعادتها دائما في فهم نفسية وشهامة ورجولة أبناء قطاع غزة وطلائعهم المقاتلة. وإذا صحت الأنباء التي تقول إن الرئيس محمود عباس والمجموعة الخانعة المحيطة به هي التي وضعت خطوطها العريضة، فهذا سبب جوهري آخر لرفضها بقوة أكبر، لأن هذا الرجل لا يفهم الشعب الفلسطيني ومشاعره المفعمة بالوطنية، سواء في الضفة أو القطاع، فمن يتنازل عن حقه في العودة إلى مسقط رأسه في صفد لا يمكن أن يفهم هذا الشعب، أو يقدر معنى المقاومة بعد أن فشلت كل رهاناته التفاوضية الاستجدائية. الرئيس عباس طار إلى القاهرة بحثا عن دور بعد أن همشته فصائل المقاومة، وفضحت بصمودها تخاذله وسلطته؛ ولكنه لن يجد هذا الدور، لأنه لا يستحقه، فقد خسر احترام كل المقاومين، بمن فيهم رجال كتائب الأقصى التابعة لحركة «فتح» الذين أظهروا المعجزات في هذا الشهر الفضيل، وأوصلوا صواريخهم إلى القدس وتل أبيب وحيفا وديمونة و»صفد» وكل المدن الفلسطينية المحتلة التي لم يستطع الرئيس عباس الوصول إليها كسائح رغم التنسيق الأمني وكل التنازلات الأخرى التي قدمها إلى الإسرائيليين. وعندما نقول إنهم حققوا المعجزات فإننا نشير إلى عجز إسرائيل وكل أجهزتها وجواسيسها ومخابراتها عن كشف أو ضرب منصة إطلاق واحدة، أو نفق من أنفاق غزة تحت الأرض التي تشكل عالما آخر بني بسواعد المؤمنين المقاومين الذين تخرجوا من أكاديميات العزة والكرامة. المعتدلون والمحللون العقلاء في السلطة وأروقتها ومركز أبحاثها، يخطِّئون حركات المقاومة لرفضها المبادرة المصرية من منطلق حرص مزور، ويقولون إن نتنياهو سيستغل هذا الرفض لمواصلة العدوان والحصول على شرعية وغطاء دولي؛ وردنا عليهم: متى غاب الغطاء الدولي عن جرائم نتنياهو ومجازره؟ وهل كان هذا «الرفض» موجودا عندما أرسل طائراته أمريكية الصنع لقصف القطاع، وقبله قانا في جنوب لبنان؟ ثم متى التزم الإسرائيليون باتفاقات هدنة مع الفلسطينيين أو اللبنانيين؟ السلطات المصرية لم تكلف نفسها الاتصال بحركة حماس أو أي فصيل فلسطيني آخر مقاوم، ووضعت المسدس في رؤوس قادة هذه الفصائل، وقالت لهم إما أن تقبلوها كاملة دون أي نقاش أو نعطي الضوء الأخضر الشرعي لنتنياهو لقتل الآلاف من أبناء القطاع، وعليكم تحمل المسؤولية، ونفضت يدها من مبادرتها، ولجأت إلى توني بلير، مجرم الحرب، لعله يعيد صياغتها بطريقة أكثر سوءا. هل هذا منطق؟ «أشقاء»، هل هذا هو موقف دولة عربية كبرى ونعول عليها وعلى جيشها وشعبها لنصرة المظلومين المحاصرين؟ هل هذه مصر التي تغلق معابرها وحدودها في وجه أشقائها، وتمنع وصول من يريد التضامن معهم في محنتهم من العرب والأجانب؟ لا نعرف ما هو شعور الرئيس عبد الفتاح السيسي وهو يرى أشلاء أطفال شاطئ غزة الذين قصفتهم الطائرات الإسرائيلية بصواريخها وهم يلعبون الكرة، فهل هؤلاء دروع بشرية؟ أو هل تابع مثلنا الطائرات الإسرائيلية من طراز «إف 16»، وهو الرجل العسكري، وهي تلقي حممها فوق رؤوس الصائمين في منازلهم المتهالكة؟ فهل تحركت نخوته العسكرية؟ لا نعرف موقف الزعماء العرب وهم يسمعون ويقرؤون الإنذارات الإسرائيلية لإجلاء مائة ألف فلسطيني من منازلهم تمهيدا لقصفها، وهل سألوا أنفسهم أين يذهب هؤلاء؟ وإلى أي مكان في قطاع لا تزيد مساحته على 150 ميلا مربعا، حدوده مع العالم الخارجي محكمة الإغلاق؟ ويشكل أكواما من اللحم البشري مكدسة فوق بعضها البعض في أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان! ثم أين يذهب الجرحى والأطباء في مستشفى «الوفاء» في غزة استجابة لطلب إسرائيلي بالإخلاء؟ إلى المقابر؟ تخيلوا هؤلاء الجرحى المقطعة أرجلهم، والمفتوحة بطونهم، والذين يعيشون على محلول معلق في أسرتهم، تخيلوا هؤلاء يغادرون المستشفى حتى تقصفه الطائرات الإسرائيلية؟ أبناء قطاع غزة رفضوا هذه الأوامر «الشيلوكية» الإسرائيلية، وبقوا في منازلهم ومستشفياتهم وفضلوا الشهادة على المغادرة، في واحدة من أروع المواقف المتحدية في تاريخ هذه الأمة. نشعر بالغضب ونحن نرى وبعض الحكومات العربية وغير العربية (تركيا) تتبارى في ما بينها من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ويحاول كل طرف إفساد مبادرة الطرف الآخر أو عرقلتها، لصالح إنجاح مبادرته أو فرضها بقوة التدمير والقتل الإسرائيلية بدلا من توجيه الإنذارات بإرسال الجيوش وإعلان الحرب إذا لم توقف إسرائيل مجازرها، أو حتى إغلاق سفارة إسرائيل فيها كأضعف الإيمان. عزاؤنا وسط هذا الظلام الحالك أن هناك رجالا في قطاع غزة نذروا أرواحهم ودماءهم من أجل نصرة قضايا هذه الأمة العادلة، وليهنأ الزعماء العرب في قصورهم، ولتهنأ جيوشهم في ثكناتها الفارهة المكيفة. عبد الباري عطوان