لم نعرف أن قطاع غزة بات دولة عظمى إلا بعد أن تابعنا حالة الهلع في أوساط القيادة الإسرائيلية والاستعدادات التي اتخذتها، وتتخذها، تمهيدا لغزوه بريا بعد أن واصلت عمليات قصفه طوال الأيام الخمسة الماضية بأحدث الطائرات أمريكية الصنع من طراز «إف 16»، واستدعت أربعين ألفا من جنود الاحتياط. القادة الإسرائيليون يدركون جيدا أن تجارب الاجتياحات والحروب الإسرائيلية السابقة (الرصاص المصبوب 2009 وعامود السحاب 2012) جاءت نتائجها سلبية بالنسبة إليهم سياسيا وعسكريا ولم تحقق أهدافها، مع التسليم بأن الخسائر البشرية في صفوف أبناء القطاع والمدافعين عنه كانت ضخمة. لا يوجد لدى حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى ما يمكن أن تخسره في هذه المواجهة، فالقطاع محاصر ومجوع، من السلطات المصرية والإسرائيلية معا، وقدمت «حماس» كل المبادرات الممكنة من أجل كسر الحصار، بما في ذلك تسليم السلطة إلى الرئيس محمود عباس دون شروط أو مقابل، ومع ذلك استمر الحصار ومعه التجويع، ومنع وصول المرتبات لأكثر من أربعين ألف موظف من سلطتها للشهر السابع ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء، ودون أي رحمة أو شفقة أو اعتبار لشهر رمضان المبارك. هذا الإصرار على إلحاق أكبر حجم من الضرر المعنوي والمعيشي بأبناء القطاع سيحولهم إلى أسود، وسيجعلهم يستميتون في الدفاع عن عرضهم وكرامتهم في وجه هذا العدوان الإسرائيلي العربي المشترك الذي يستهدفهم، ويسعى إلى إذلالهم ودفعهم إلى التخلي عن المقاومة المشروعة بالتالي. لا نعرف ماذا في جعبة حركة «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وباقي منظومة فصائل المقاومة من مفاجآت؛ ولكن بالقياس إلى تجربتي الحرب السابقتين، فإن الصواريخ ستصل إلى قلب مدينة تل أبيب والقدس المحتلتين، وستدفع بالملايين من الإسرائيليين إلى الملاجئ ولن تحميهم «القبة الحديدية»، فقد أطلقت هذه الفصائل مائة صاروخ في اليومين الماضيين، نجحت هذه القبة في اعتراض ستين منها بينما نجح الباقي في الوصول إلى عسقلان وأسدود، والأخيرة مسقط رأس والديّ وأسرتي. وإذا كانت هذه «القبة» تعترض بعض الصواريخ فإنها حتما لن تمنع «مفاجأة» الأنفاق التي يحسب لها الإسرائيليون ألف حساب، ويتحدث عسكريوهم عن احتمال امتدادها من القطاع إلى العمق الاستيطاني الإسرائيلي، وحركة «حماس» اكتسبت الخبرة الهندسية في هذا الميدان من «حزب الله» في جنوبلبنان، وكان أول إنجاز لها خطف الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط من قاعدته قرب معبر كرم أبو سالم جنوب غرب القطاع. السلطات المصرية، التي تعتبر إسرائيل حليفا استراتيجيا، مثلما أكد رئيس مخابراتها أثناء زيارته السرية لتل أبيب قبل أيام، لا يمكن أن تكون وسيطا مقبولا، ونشك في أنها يمكن أن تقوم بهذا الدور أساسا، لأنها، وفي ظل عدائها المستحكم لحركة «حماس» بسبب «إخوانيتها» ودعمها للرئيس المعزول محمد مرسي، تتمنى أن يغرق القطاع ومن فيه في البحر ولا ينجو أحد، طالما أنها ستتخلص من حماس وحكمها وتلتقي في هذه التمنيات مع إسحق رابين وقادة إسرائيل الحاليين، ومات رابين ولم تتحقق أمنياته، وسيموت غيره وستبقى غزة صامدة مقاومة ومتحدية. فهذه السلطات دمرت جميع الأنفاق، وبعضها كان يستخدم في تهريب الأسلحة الحديثة والمتطورة إلى فصائل المقاومة لتمكينها من الدفاع عن نفسها نيابة عن الأمة في مواجهة أي عدوان إسرائيلي، وأغلقت معبر رفح، وما زالت المنفذ الوحيد لأكثر من مليوني مسلم عربي منذ بداية العام وحتى كتابة هذه السطور، وإن فتح فلساعات تعد على أصابع اليد الواحدة ولحالات طارئة، وسط كمّ هائل من الإهانات والإذلال للعابرين. لم أر أو أسمع في حياتي ممارسة مثل هذا النوع من التعذيب النفسي والسادي في أي معابر حدودية أخرى غير قطاع غزة ومعبر رفح، ولا أعرف ماذا فعل هؤلاء للنظام المصري الحالي حتى يعاملوا بمثل هذه الطريقة ومن قبل أناس من المفترض أنهم من أشقائه وأبناء عقيدته، غالبيتهم حركة «حماس» التي يعلن الحرب عليها. انتقدت الرئيس حسني مبارك وسياساته لأكثر من ثلاثين عاما، ومازلت، وسأظل، ولكن هذا النظام لم يدمر نفقا واحدا، وأبقى على المعبر مفتوحا وسمح بمرور الأسلحة والمعدات العسكرية والأموال لأهل القطاع دون توقف، وانتقادي له كان بسبب ظلمه واضطهاده لشعبه وعلاقاته بإسرائيل وتقزيم مصر ودورها، وهي العلاقات التي يستمر فيها النظام الحالي ويعززها ويوقع اتفاقات غاز معها تمتد لأكثر من عشرين عاما. حركة «حماس» يجب ألا تقبل الانخراط أو التعاون مع أي وساطة مصرية إلا إذا رفعت السلطات المصرية الحصار عنها، وفتحت معبر رفح طوال العام دون إغلاق، وعاملت أبناء القطاع كبشر، والشيء نفسه يجب أن يطبق على حكومة نتنياهو فلا تهدئة من أجل التهدئة، وليتفضلوا ويحتلوا القطاع، وسيذوقون العلقم الممزوج بالدم الذي دفع رابين مكرها إلى مائدة المفاوضات، وجعل أرييل شارون يهرب بقواته ومستوطنيه مقرا بالهزيمة من طرف واحد ليموت مقهورا فاقد الوعي في غرفة العناية المركزة. نتنياهو يهدد بتدمير البنى التحتية لفصائل المقاومة في القطاع، ما هي هذه البنى التحتية، ناطحات سحاب أم مفاعلات نووية أم مصانع لإنتاج الطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة أم محطة الكهرباء اليتيمة المعطلة بسبب نقص الوقود لتشغيلها بسبب الحصار أم معامل تنقية مياه المجاري التي أكلها الصدأ وحل البحر مكانها مكرها؟ نسأل نتنياهو: ما هي خططه للقطاع بعد الغزو، ونحن نعرف أنه لن يجرؤ على البقاء في القطاع، ومن سيحكمه في حال القضاء المفترض على حركة «حماس»؟ هل سيستطيع الرئيس عباس أن يملأ هذا الفراغ، وهل سيكرر تجربة السلطة وقوات أمنها الفاسدة في القطاع مجددا؟ وهل سيجد من يرحب به، فليجرب هو الآخر وسنرى. لدي أهل وأقارب في القطاع، وبعضهم ينتمي إلى حركة «حماس» والبعض الآخر إلى حركة «فتح» والبعض الثالث موزع على حركة «الجهاد» وفصائل أخرى، والشيء الوحيد الذي يجمع عليه هؤلاء دون تردد هو نجاح شرطة «حماس» في فرض الأمن وحكم القانون، وكانوا يخشون أن تؤدي المصالحة إلى عودة السلطة والفساد والفوضى الأمنية. نتنياهو سيفتح على نفسه وعلى الجار المصري جحر ثعابين اسمه الفوضى، وسيحول قطاع غزة فعلا إلى جنوبلبنان، فليس هناك أصعب من حكم القطاع والسيطرة على شبابه المتعطش للمقاومة والشهادة. نشك في أن ينجح نتنياهو هذه المرة في ما فشل فيه كل من سبقوه، أي القضاء على المقاومة، فهذه مزروعة في جينات كل إنسان فلسطيني وتتوارثها الأجيال، والوحدة الوطنية الفلسطينية التي تتعاظم حاليا في مختلف الأراضي المحتلة وتنعكس في انتفاضة ثالثة هي الحاضنة لهذه المقاومة «المقدسة» وليس التنسيق الأمني وفق قاموس الرئيس عباس ومفرداته المكروهة. الشعب الفلسطيني يثور من أجل كرامته ويقدم الشهداء ويتصدى للعدوان في غزة، والرئيس عباس يخاطب مؤتمرا ل»السلام» في القدسالمحتلة تنظمه صحيفة إسرائيلية. التنسيق الأمني «المقدس» لم يسمح لعباس بالذهاب إلى القدسالمحتلة لتعزية أسرة الشهيد محمد أبو خضير، بئس هذا التنسيق. أهل القطاع سيدافعون عن أنفسهم بشجاعة وبطولة، ولا ينتظرون أحدا كي يهب لمساعدتهم ونجدتهم ويرصد المليارات لتسليحهم بأوامر أمريكية، فليس لديهم أي خيار آخر في ظل هذا التغول الإسرائيلي والتواطؤ العربي المخجل، وسيخرجون رافعي الرأس من رماد أي عدوان إسرائيلي جديد مثلما فعلوا في كل «العدوانات» السابقة، ولن يخذلهم الله جل وعلا وهم الصائمون المؤمنون المتعبدون في شهر التضحية المبارك. عبد الباري عطوان