يقول بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إن المرحلة الثانية من عدوانه على قطاع غزة، وتمثلت في البدء في الحرب البرية، تأتي بهدف معالجة الأنفاق الهجومية، الأمر الذي يعطي انطباعا بأن المرحلة الأولى، أي الهجوم الجوي، تكللت بالنجاح وأعطت نتائجها، وهذا افتراض غير دقيق، فالغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة منذ عشرة أيام لم توقف إطلاق الصواريخ على تل أبيب والقدس وحيفا وأسدود وعسقلان مثلما توعد نتنياهو، ولم توفر الطمأنينة بالتالي للمستوطنين الإسرائيليين، وشلت الحياة الاقتصادية تماما، ولا نعتقد أن حال المرحلة الثانية من هذه الحرب سيكون أفضل، بل لن نفاجأ إذا كان أسوأ كثيرا. القيادة في إسرائيل، بشقيها السياسي والعسكري، اعتقدت أن فصائل المقاومة المحاصرة في قطاع غزة تعيش عزلة عربية، ووضعها مختلف عن وضع حزب الله في جنوبلبنان لأن مصر لا تقوم بدور داعم للمقاومة ولا تشكل عمقا استراتيجيا لها، مثلما هو حال سورية، بل متطابق مع الموقف الإسرائيلي في الوقت الراهن على الأقل، ولهذا توقعت القيادتان الإسرائيلية والمصرية معا أن ترفع فصائل المقاومة الراية البيضاء بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر من بدء الغارات، وهو ما لم يحدث. ما لا يعرفه نتنياهو ومعظم القادة العرب الذين يصلّون من أجل نجاحه في اقتلاع ثقافة المقاومة من جذورها في قطاع غزة، فرادى كانوا أو مجتمعين، أن الروح القتالية لفصائل المقاومة، إسلامية كانت أو علمانية، في ذروة قوتها وعلوها، والأيام العشرة الماضية كانت شاهدا على هذه الحقيقة، لأسباب عديدة نوجزها في النقاط التالية: - أولا: لأول مرة، ومنذ أن بدأت الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، يتوحد الشعب ويلتف حول فصائل المقاومة، ويبدي استعدادا كبيرا للتضحية غير مسبوق، فأهل القطاع رفضوا كل الدعوات الإسرائيلية التي هبطت عليهم منشورات من السماء أو رسائل نصية تطالبهم بمغادرة أماكنهم، وقررت العائلات البقاء في بيوتها انتظارا للشهادة؛ - ثانيا: القناعة السائدة في أوساط الغالبية الساحقة من أبناء القطاع هي العودة إلى الاحتلال الإسرائيلي ولا العودة إلى الأوضاع المزرية والمهينة تحت الحصار العربي والإسرائيلي معا، ولهذا لم يأسف إلا القليلون جدا على رفض فصائل المقاومة وبالإجماع للمبادرة المصرية التي كانت تريد تكريس الحصار لا رفعه، لسنوات قادمة، ودون أي تغيير، وإن حدث فإلى الأسوإ؛ - ثالثا: أعادت هذه الحرب القضية الفلسطينية إلى الواجهة وسلطت الأضواء عليها مجددا، بعد ثلاث سنوات عجاف من التعتيم والتضليل: التعتيم بسبب الثورات العربية التي أعطت في معظمها نتائج عكسية كارثية؛ والثاني، أي التضليل، الذي يعود إلى غرق السلطة في رام الله في الرهان على وهم المفاوضات وحل الدولتين الخاسر، ومنع كل أشكال المقامة للاحتلال؛ - رابعا: فصائل المقاومة الفلسطينية تقاتل وظهرها للبحر، وليس للحائط لأن هذا الحائط غير موجود في القطاع، الأمر الذي يجعلها في وضعية القائد الفذ طارق بن زياد عندما ركب البحر لفتح الأندلس، أي أنه ليس أمامها (المقاومة) غير القتال حتى الشهادة أو النصر، وليس هناك ما يمكن أن تخسره؛ - خامسا: إذا كانت الحروب هذه الأيام إعلامية بالدرجة الأولى، فإن إسرائيل لم تكسب الحرب الإعلامية الحالية حتما رغم محاولاتها والناطقين باسمها المستميتة لحجب الحقائق وليّ عنقها، واللجوء إلى كل أساليب الكذب والتضليل، وكلما طال أمد الحرب كلما زاد حجم الخسائر الإسرائيلية في جبهاتها على عكس كل الحروب السابقة، فالرأي العام العالمي بدأ ينتفض، والمظاهرات الاحتجاجية تتعاظم في مختلف أنحاء العالم، ومؤشرات التعاطف الشعبي في ارتفاع متسارع، وأنا أعيش في الغرب وأتحدث من خبرة وتجربة ومتابعة، فمجزرة الشاطئ التي ارتكبتها المدفعية الإسرائيلية في حق الأطفال الأربعة هزت ضمائر الملايين ومازالت. الدبابات الإسرائيلية التي تقدمت بضعة أمتار داخل حدود القطاع تتقدمها الجرافات، ربما تواجه مفاجآت عديدة، لأن كل ادعاءات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بمعرفتها للقطاع وجغرافيته، من خلال تقنياتها الفنية العالية وشبكة جواسيسها، ثبت زيفها، هذا أولا، ولأنه لا أحد يعرف ماذا يجري تحت أرض غزة من أنفاق، ثانيا. منذ عشرة أيام والطائرات الإسرائيلية، بطيار أو بدونه، تجوب سماء القطاع، ولم تنجح في ضرب منصة صواريخ واحدة، ولم تقتل قياديا واحدا من حركة «حماس» أو غيرها، و»تشاطرت» على بيوتهم وأطفالهم فقط تعبيرا عن يأسها وإجرامها معا عندما قصفت هذه البيوت. هاتفت ظهر الجمعة الدكتور موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في القاهرة، مستفسرا، فقال لي إن جميع قادة حماس السياسيين لا يعرفون مطلقا التجهيزات العسكرية للجناح العسكري للحركة تحت الأرض بالذات وهو من بينهم، وإن صناعة الصواريخ مستمرة ولم تتوقف رغم القصف المتواصل، وأكد لي أن أي مبادرة لا تلبي شروط المقاومة وترفع الحصار مرفوضة من أي جهة جاءت، وقال لو فتحت مصر معبر رفح بشكل طبيعي لما احتاجت إلى إطلاق مبادرتها أساسا، ولكنها تحدثت عن كل المعابر الإسرائيلية ولم تتطرق مطلقا لمعبر رفح، وتجاهلت مبدأ التشاور مع فصائل المقاومة. فصائل المقاومة تخوض «حربا استشهادية» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولا تأبه للنظريات والحسابات «العقلانية» لمن نسميهم ب»عجائز الغجر» في بلادنا الذين يدعون الحكمة والتعقل، فقد واجهت العدوان الإسرائيلي أربع سنوات عام 2006 وعام 2008 وعام 2012 وحاليا 2014، أي بمعدل عدوان كل عامين، ولم تحترم إسرائيل اتفاقا، ولم يحتج ضامنو هذه الاتفاقات من دول الجوار على انتهاكاتها، والأكثر من ذلك تحمّل هذه الفصائل المسؤولية عن العدوان لأنها قالت «لا» كبيرة مصحوبة بالصواريخ لكسر هذا الوضع المخجل. فاجأنا طلب الرئيس محمود عباس من لوران فابيوس، وزير خارجية فرنسا، إقناع أصدقائه الأتراك والقطريين بالضغط على حركة «حماس» للقبول بالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، مثلما صرح وزير الخارجية الفرنسي في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد اللقاء بين الاثنين في مطار القاهرة، مصدر المفاجأة أن الرئيس عباس كان في طريقه إلى أنقرة للقاء المسؤولين الأتراك فلماذا لا ينقل هذا الطلب إليهم بنفسه؟ ولماذا يوسط فابيوس. إذا كان هدف المبادرات المصرية والتركية هو التهدئة مقابل التهدئة، فإن هذه النتيجة لا تحتاج إلى وساطات ومبادرات، فيكفي أن تعلن فصائل المقاومة في بيان مشترك عزمها على وقف إطلاق الصواريخ في ساعة محددة، ليلتزم نتنياهو وتتوقف الغارات، وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من حصار وتجويع وإذلال. إسرائيل اختارت الحرب، وأعدت لها العدة بشكل جيد، واستغلت جريمة مقتل المستوطنين الشبان الثلاثة «الغامضة» كغطاء للعدوان، إلا ما معنى اعتقال أكثر من 700 من النشطاء السياسيين من حركتي الجهاد وحماس، بمن فيهم الأسرى المحررون في صفقة شاليط التبادلية، غير «تجريف» الضفة من هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا قادة لتحرك جماهيري صاخب ضد عدوانها الحالي. العدوان الجوي لم يوقف صواريخ المقاومة، والهجوم البري سيفشل في تركيع أبناء القطاع حتما مثلما فشلت كل الاجتياحات السابقة، فقد ذهبت أنظمة عربية، وذهب قادة إسرائيليون، وبقيت المقاومة وصواريخها وثقافتها وستبقى طالما هناك احتلال. الدكتور أبو مرزوق قال لي، في ختام المكالمة بيننا، إنه عندما يستشهد مقاتل في غزة لا يبكي زميله لفقدانه وإنما لأنه لم يستشهد معه أو قبله. هذه الروحية المجبولة بالكرامة والفداء، التي باتت نادرة هذه الأيام، توجد بكثرة في قطاع غزة، ولهذا ترتجف الدبابات الإسرائيلية ومن يحتمون في جوفها وهي تتقدم في أراضيه ببطء شديد خوفا وقلقا. في جميع الاجتياحات السابقة كانت المقاومة تسعى إلى التهدئة وتتسرعها.. في هذا الاجتياح ترفضها ولا تابه لها وأصحابها.. إنه انقلاب في كل المعادلات يؤشر على مرحلة مختلفة حافلة بالمتغيرات. عبد الباري عطوان