بات واضحا أن معظم الاتصالات والوساطات التي تجري حاليا، سواء كان محورها باريس أو واشنطن أو القاهرة تتركز حول نقطة واحدة أساسية وهي «شراء» سلاح المقاومة تحت عنوان رئيسي وهو إعادة إعمار قطاع غزة وتحسين الظروف الاقتصادية لأبنائه، في تطبيق «حرفي» لما يجري حاليا في الضفة الغربية، وبما يخلق «وحدة حال» وليس «وحدة مقاومة». المعادلة السابقة، التي تتحدث عن «تهدئة مقابل التهدئة»، تجاوزتها الأحداث وباتت من الماضي، والشيء نفسه يقال عن الصواريخ والأنفاق؛ المعادلة الجديدة ترتكز على مفهوم قديم متجدد «السلام الاقتصادي مقابل الأمن»، والأمن هنا لإسرائيل ومستوطنيها، وهي المعادلة التي ترسخت بعد القضاء على الانتفاضة الثانية، وتشكيل قوات الأمن الفلسطينية وفق تعليمات وتصورات الجنرال الأمريكي دايتون لحماية إسرائيل ووأد المقاومة. الصمود الأسطوري، الذي أظهره رجال المقاومة والخسائر السياسية والاقتصادية ومن ثم العسكرية التي أوقعوها بإسرائيل وقواتها، فاجأ بنيامين نتنياهو مثلما فاجأ قيادته العسكرية، وحتى أمريكا نفسها، فمقتل أكثر من سبعين عسكريا إسرائيليا بينهم ضباط كبار، وظهور أسلحة متطورة، وإدارة الجناح العسكري لحركة «حماس» والفصائل الأخرى، والجهاد خاصة، المعركة بطريقة عجزت عنها جيوش عسكرية متضخمة بالرتب والنياشين، وخريجي كليات عسكرية شهيرة، مثل «ويست بوينت» الأمريكية و»سانت هيرست» البريطانية، كل هذا أصاب الإسرائيليين بحالة من الرعب من المستقبل وليس من الحاضر فقط، فعندما يتوقف مطار تل أبيب عن العمل وتلغي شركات عالمية كبرى رحلاتها، فهذا من أعظم الانتصارات المعنوية التي تحققت في هذه الحرب والحروب الأخرى. قبل عامين، وأثناء حرب «عامود السحاب» حسب التسمية الإسرائيلية، لم تكن هناك حرب أنفاق ولم تكن الصواريخ المصنعة محليا على هذه الدرجة من الدقة، ولا التكتيكات العسكرية في فنون المواجهة، ولم تطلق فصائل المقاومة طائرات دون طيار، وعلينا أن نتخيل كيف سيكون عليه الحال بعد عامين، أو خمسة أو عشرة؟ إنها معجزة يقف خلفها رجال قل نظيرهم. نتنياهو، حتى كتابة هذه السطور، لم يحقق إنجازا واحدا، إلا إذا اعتبرنا قتل الأطفال وتدمير البيوت إنجازا، فلم يوقف عدوانُه الصواريخَ، ولم يدمر الأنفاق، ولم يغتل مسؤولا واحدا من الصف الأول لحركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو الفصائل الأخرى، ولم يكسر عزيمة أهل غزة والتفافهم حول مقاومتهم رغم تضخم أعداد الشهداء وحجم الدمار. إسرائيل، وبعد عشرين يوما من عدوانها على قطاع غزة أو مجازرها التي ارتكبتها، باتت بلا أصدقاء، أو تراجع عددهم بشكل كبير، وأصبحت مكروهة في أوساط حلفائها في الرأي العام الغربي، ومن طالع تغطية الصحف البريطانية الداعمة عادة لإسرائيل ظالمة أو مظلومة، وهي دائما ظالمة على أي حال، يرى الفرق الكبير في التغطية بين الحروب الماضية والحرب الحالية. في حرب «الرصاص المصبوب» عام 2008، لم يدخل مراسل أجنبي واحد قطاع غزة أثناء العدوان، وسمحت لهم السلطات الإسرائيلية بتغطية الحرب من تلة صغيرة مطلة على القطاع من مسافة ثلاثة كيلومترات، ويعتمدون في معلوماتهم على الرواية الرسمية الإسرائيلية المضللة. في هذه الحرب، دخل كبار الصحافيين الأجانب إلى القطاع، وبثوا نشرات أخبارهم من وسط الدمار ومن عنابر الجرحى في مستشفى الشفاء، وتحدثوا عن الأسلحة المحرمة دوليا التي استخدمت، وصوروا أشلاء الأطفال الذين مزقت جثامينَهم الطاهرة القنابلُ الإسرائيلية. جون سنو، الصحافي الأشهر في بريطانيا، أقام استوديو بث مباشر لنشرته الإخبارية في القناة الرابعة المستقلة من وسط أحياء غزة المدمرة، وقال إن الجيش الإسرائيلي «الحضاري» يعطي الأسر ثلاث دقائق إنذارا قبل تدمير بيوتهم، وهي كافية فقط للنجاة بأرواحهم وبملابسهم التي يرتدونها؛ أما صحيفة «الديلي تلغراف» اليمينية فقد نشرت صور وأسماء الأطفال والنساء الشهداء في صفحتين وبطريقة غير مسبوقة في العالم الغربي. لي قريب يقيم في مخيم الشاطئ في غرب مدينة غزة، قال لي في مكالمة هاتفية إن المشكلة الكبرى التي يواجهها هي كيفية إجلاء والدته ووالده المقعدين على كرسيين متحركين في حالة طُلبت منهم المغادرة قبل قصف المنزل، فكل واحد منهما يحتاج إلى أربعة رجال لحمله، ولذلك وكَّل أمره وأمرهما إلى الله ولن يغادر المنزل. نحن الآن نتابع مسلسلا مرعبا من القتل والدمار، ولكننا في الوقت نفسه نتايع «مزادا» موازيا لثمن التخلي عن سلاح المقاومة والصناعات العسكرية التي أذهلت العالم بتقدمها، وقد وصل هذا المزاد الذي يقوده جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، إلى خمسين مليارا، ومن الواضح أن دولا عربية خليجية هي التي ستغطي هذا المبلغ كاملا، تماما مثلما غطت حروب تدمير العراق. لا نجادل مطلقا في أن أهل قطاع غزة يحتاجون إلى هدنة مع إسرائيل توقف سفك الدماء ومسلسل الدمار، تحقق لهم مطالبهم العادلة، وأبرزها رفع الحصار؛ لكن الهدنة الأهم المطلوبة حاليا هي بين معسكرين عربيين يتقاتلان في ما بينهما عبر «أسلحة» المبادرات لوقف إطلاق النار، وبما يصب في نهاية المطاف في إطالة أمد الحرب والدمار وزيادة عدد الشهداء، وخدمة مشاريع نتنياهو. الأمير تركي الفيصل، رئيس جهاز المخابرات السعودي الأسبق، فجعنا عندما نشر مقالا في صحيفة «الشرق الأوسط أون لاين» يوم الجمعة، حملّ فيه حركة «حماس» مسؤولية ما يحدث في قطاع غزة من مجازر «لتكرارها أخطاء الماضي وغطرستها عبر إرسالها الصواريخ عديمة الأثر إلى إسرائيل». أقول فجعنا لأن الأمير حمّل المسؤولية للضحية وكأنه يبرئ الجلاد بصورة غير مباشرة، وهذا أمر صادم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنه جاء من فم رجل استشهد والده لأنه أعلن «الجهاد» لتحرير القدسالمحتلة، واستخدم سلاح النفط لنصرة أشقائه المصريين والسوريين أثناء حرب رمضان أكتوبر عام 1973. حماس حركة مقاومة، مثلها مثل كل الفصائل الأخرى، تأسست من أجل التصدي لاحتلال يحتل الأرض والمقدسات، بعد أن فشلت كل البدائل «السلمية» العربية الأخرى، وآخرها مبادرة السلام العربية التي احتقرتها إسرائيل وبالت عليها. السؤال الذي نتمنى أن نتلقى عنه إجابة من الأمير الفيصل وكل الذين يقفون في معسكره، هو عن أسباب صمتهم ولأكثر من ثمانية أعوام على الحصار الإسرائيلي الخانق المذل لأكثر من مليوني فلسطيني عربي مسلم، وإغلاق المعابر لأشهر متواصلة، وهل كانوا يتوقعون أن يبقى أبناء غزة في هذا الوضع المذل المزري إلى ما لا نهاية حتى يثبتوا أنهم عقلاء وغير متغطرسين أو متهورين؟ هل قرأ الأمير التقارير الإخبارية الإسرائيلية الموثقة التي تحدثت عن إحصاء السلطات الإسرائيلية للسعرات الحرارية التي كانت تسمح بدخولها إلى القطاع للرجل والمرأة، وبما يكفي لبقائهم على قيد الحياة فقط؟ فماذا فعل العرب، معتدلين كانوا أو متطرفين، لوقف هذا الإذلال وأعمال التجويع لأشقائهم في القطاع؟ العدوان على قطاع غزة يجب أن يوحد العرب جميعا خلف واجب التصدي له، ووضع كل الخلافات والمماحكات جانبا؛ ولكن هذا لم يحدث للأسف، بل ازدادت هذه المماحكات والمناكفات القبلية العشائرية العربية سخونة على حساب أشلاء الشهداء الأطفال. سلاح المقاومة لا يباع، تماما مثل حق العودة، والأرض الفلسطينية المقدسة، مهما بلغ حجم المليارات التي يعرضها السمسار الأمريكي وشريكه الأوربي، ولو كان أبطال المقاومة يبحثون عن المال والعيش الرغيد لما تحولوا إلى مشاريع شهادة، وحملوا راية «الجهاد» في وقت يتآمر فيه أشقاؤهم العرب عليهم مع العدو الإسرائيلي. رسالتنا إلى الأشقاء العرب أن يصمتوا وأن يوفروا نصائحهم إذا كانوا لا يريدون الوقوف في معسكر الشهداء والمدافعين بشرف وكرامة عن القطاع في مواجهة العدوان الإسرائيلي الشرس والهمجي، فأهل غزة لا ينتظرون منهم شيئا غير كف شرهم عنهم. عبد الباري عطوان