ما يجري في قطاع غزة حاليا هو حرب من نوع مختلف بعض الشيء عن معظم الحروب السابقة، عنوانها «حرب الرعب»، ويبدو أن فصائل المقاومة تكسبها حتى الآن، فالصواريخ التي أطلقتها ووصلت إلى تل أبيب وحيفا والغلاف الاستيطاني حول القدسالمحتلة، ومحاولة الإنزال البحري قرب عسقلان لاقتحام قاعدة بحرية إسرائيلية، وتفجير نفق قرب معبر كرم أبو سالم كلها مؤشرات تؤكد هذه الحقيقة. حالة الذعر تسود أوساط المستوطنين الإسرائيليين الذين تمتعوا بحال من الهدوء رفعت معدل الدخل الفردي في إسرائيل إلى مستويات قياسية تقترب إلى الأربعين ألف دولار سنويا، بينما ليس لها إلا القليل من الأثر في أوساط أبناء قطاع غزة رغم غارات طائرات ال»إف 16» التي بلغت أكثر من 200 غارة ألقت خلالها 400 طن من المتفجرات. مساء الثلاثاء، اتصلت بالصديق فريح أبو مدين، وزير العدل الفلسطيني الأسبق، ضمن مجموعة من الأصدقاء الآخرين، لاستطلاع الأحوال وردود الفعل على الغارات الإسرائيلية، فقال لي إن المقاهي مليئة بالناس الذين يتابعون مباراة البرازيل وألمانيا في كأس العالم، بينما القذائف الإسرائيلية تسقط بالقرب منهم ولا يعيرونها أي اهتمام. هذا الشعب، الذي يخرج من اجتياح إسرائيلي ليدخل في آخر ومن حصار اقتصادي وسياسي خانق انتظارا لآخر أكثر شدة، لا يمكن أن يهزم، فهذا قدره، واختاره العلي القدير لكي يكون ممثلا لهذه الأمة، وسدا لها في مواجهة هذا العدو الدموي المتغطرس، ولن يهرب من هذه المهمة مطلقا، ولن يتخلى عن قدره ودوره، وهو المؤمن الشجاع. بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، يبحث عن تهدئة، بل يستجدي الوسطاء من أجل الوصول إليها رغم كل جعجعته وتهديداته، بينما يبحث أبناء القطاع عن كسر لحصار عربي أكثر عنفا وإيلاما من الحصار الإسرائيلي، والعيش بكرامة، ولكن دون أن ينسوا المقاومة وحقوقهم المغتصبة في وطنهم وأرضهم في الوقت نفسه. الصواريخ التي بدأنا نحفظ أسماءها، مثلما نحفظ مداها عن ظهر قلب، مثل كلمات أعذب الأغاني إلى قلوبنا، من «R160» أو «إم 75» إلى «فجر 5» و»البراق»، ستصل حتما إلى مطار بن غوريون في قلب تل أبيب، وتعطل الملاحة الجوية الإسرائيلية، ولكن هذه الخطوة ربما تكون مؤجلة إلى حين، وورقة «رعب» أخرى يجري استخدامها في الوقت المناسب، وهو قادم حتما، فأهل المقاومة يحترمون كلمتهم، ويقولون ويفعلون. فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها «حماس» ليست قوة عظمى، ولا تملك جيوشا جرارة وأسلحة نووية وكيماوية ودبابات «ميركافا» ولا صواريخ «كروز»، ولذلك لن تزيل إسرائيل من الوجود في الحرب الحالية، والانتصار «نسبي» هنا، ويكفي أن جميع رؤساء الوزارات الإسرائيليين جربوا حظهم، وحاولوا هزيمة قطاع غزة، الذي لا تزيد مساحته على 150 ميلا مربعا، ووقف إطلاق الصواريخ منه وإنهاء المقاومة فيه، وفشلوا جميعا، وذهبوا وبقيت الصواريخ، مثلما بقيت المقاومة، بكل جبروتها وقوتها وعزتها، ولن يكون نتنياهو استثناء. نصف مساحة فلسطينالمحتلة باتت تحت رحمة صواريخ المقاومة الفلسطينية على تواضعها، والنصف الثاني في الطريق، والمفاجآت واردة، ولن يخشى أبناء القطاع ورجال مقاومته تهديدات نتنياهو بالحرب البرية، بل لا نبالغ إذا قلنا إنهم ينتظرونها ويستعجلونها، فقد خاضوها في الماضي، وسيخوضونها في الحاضر، ويستعدون لها في المستقبل، فطالما استمر الاحتلال ستستمر الحروب بأشكالها كافة، والزمن في صالح أصحاب الحق وإن طال. نقولها للمرة الألف: إنها حرب عض أصابع، وقدرة أهل فلسطين، وقطاع غزة بالذات، على التحمل أكبر بكثير من قدرة أعدائهم الإسرائيليين، فلتطل الحرب، وسنرى من يصرخ أولا ويستنجد بالوساطات لوقفها، مثلما حصل في حرب «عمود السحاب» في عام 2012، وقبلها «الرصاص المصبوب»، فها هو إيهود أولمرت، قائد الأخيرة في السجن، وها هي تسبي ليفني تتلاشى سياسيا. الفلسطينيون لم يعودوا يعولون على القادة العرب، ولا يتابعون تصريحات السيد نبيل العربي، أمين عام الجامعة العربية، ولا يرجون خيرا منه أو من جامعته أو من اجتماع وزراء خارجيتها الذي سيعقد في تونس الأسبوع المقبل، ويرون في لاعبي الجزائر الذين أهدوا إنجازهم الكروي في مونديال كأس العالم وتبرعوا بمكافأتهم المالية (9 ملايين يورو) لأبناء القطاع المحاصر عنوانا للشرف والرجولة والبطولة والتضامن والأخوتين العربية والإسلامية، ويقدرون مبادرتهم الرجولية أكثر من جميع مبادرات الزعماء العرب، بما في ذلك مبادرة الهوان المسماة مبادرة السلام العربية. لم نسمع أي رسالة تضامن من «أصدقاء الشعب الفلسطيني» أو دعوة إلى اجتماعهم أو أي حديث عن أسلحة نوعية أو غير نوعية، ولم نقرأ عن أي دعوة إلى الجهاد نصرة لأهل غزة من بعض الدعاة وأنتم تعرفونهم واحدا واحدا، هل لأن حركة «حماس» متهمة بالانتماء إلى الإخوان المسلمين التي صدر فرمان باتهامها بالإرهاب وخشية من بطش السلطان وقمعه، ولكن نذكرهم جميعا بأن أهل القطاع بشر، وغالبيتهم العظمى ليست من منسوبي «حماس»، والمقاومة «فرض عين» على الجميع مثلما يقولون، ولكن في أماكن أخرى في ما يبدو. المقاومة للاحتلال الإسرائيلي يجب أن تكون فوق كل الخلافات السياسية، وزعيمة لكل المقاومات الأخرى، وتستوجب إسقاط كل الخلافات والحواجز المذهبية والعرقية، والتوحد خلفها، والقتال تحت مظلتها. مصر الشقيقة الكبرى تغلق معبر رفح أمام المئات من الجرحى الذين تعجز مستشفيات القطاع الخالية من الأدوية والمعدات عن استيعابهم، مثلما تغلقه أمام الأطباء وشحنات الأدوية القادمة من الاتجاه الآخر تلبية لنداء الواجب، فأين الإنسانية والعروبة والإسلام، ولا نقول أكثر من ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الرئيس عباس يقول سنذهب إلى مجلس الأمن، وسننضم إلى منظمات الأممالمتحدة، وسنقدم طلبا إلى محكمة الجنايات الدولية، وسندين العدوان، يا رجل افعل شيئا، وتوقف عن استخدام حرف «س» هذا، احترم دماء الشهداء وأنين الجرحى، افعل شيئا يرتقي إلى مستوى تاريخ حركة «فتح» المشرف التي تتزعمها وبفضلها وصلت إلى هذا المنصب الذي تتربع عليه، ولا تريد مغادرته. غزة هاشم بن عبد مناف، وقوم الجبارين، ستظل عنوانا للشموخ والصمود والتضحية والمقاومة، ولهذا هي مستهدفة دائما، فشلت كل عمليات التجويع والقتل في تركيعها، وستظل كذلك، أبية رافعة الرأس، ورافعة راية المقاومة، مثلما فعلت لأكثر من ثمانية آلاف عام ونيف، فبقيت وذهب كل الغزاة. عبد الباري عطوان