في إطار معرض الكتاب والفنون، الذي يقام بمدينة طنجة ما بين 15 و19 أبريل، وتكريما للشاعر الراحل إيمي سيزير، يقدم ماحي بينبين بقاعة لاكروا أعمالا تشكيلية تعرض لأول مرة، إلى جانب أعمال الفنان ويلفريدو لام، وهو من مواليد كوبا عام 1902 وتوفي عام 1982 بباريس، ويعتبر أحد الفنانين السورياليين الكبار. الكاتب والفنان التشكيلي المغربي ماحي بينبين سليل مفارقات خصيبة انتهى به المطاف إلى تبنيها وتحويلها إلى مادة للإبداع الروائي أو العمل التشكيلي. أولى هذه المفارقات مزاوجته بين الكتابة الروائية والعمل التشكيلي، باستثناء الراحل محمد القاسمي، الذي كانت القصيدة تحت توقيعه لوحة والعكس بالعكس. و يعتبر ماحي أحد الفنانين المغاربة القلائل الذين تألقوا عالميا في الميدانين. لا يتعلق الأمر هنا بنزوة أو بميل رومانسي، بل بتوجه وموهبة إلى التعبير عن دواخل ذاتية جريحة ومآس بشرية تتردد يوميا على ناظرنا: قتلى الحروب، غرقى الهجرة السرية، تسكع الأطفال في الأزقة، تفشي العنف على نحو صارخ. أمام نتاجه الروائي والتشكيلي ثمة جاذبية مغناطيسية جلية نقع في أسرها. ولد ماحي بينبين عام 1959 بمراكش، وهي الحقبة المعاصرة لانبثاق الإرهاصات الأولى للفن التشكيلي والآداب المغربية المعاصرة. بعد الجيل الأول لتيار ما سمي بالتوجه الساذج، جاء الجيل الثاني ليكسر إطار اللوحة بمفاهيمها الكلاسيكية، مبتدعا حركات جديدة، ألوانا مغايرة للانطباعية الفولكلورية أو الإكزوتيكية، بحيث تحول مجال اللوحة إلى جسد والعكس بالعكس. كان لتدخل الرسام أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي دور حاسم في إحداث القطيعة وتأسيس تشكيل حديث مفتوح نحو آفاق عالمية. وإلى اليوم، لا يزال الفن التشكيلي المغربي يشتغل على هدي العديد من التيمات والأشكال التي ابتكرها هذان الرسامان. على قرابة من نتاجهما يشتغل ماحي بينبين. بعد الباكالوريا في مادة العلوم، سافر في مستهل الثمانينيات إلى باريس لإتمام دراسته الجامعية. هناك عرف فرنسا ما بعد ثورة مايو بفورتها الثقافية والسياسية، كما عانى قسوة الحياة وهو طالب ثم أستاذ فيما بعد. بدأ ماحي مشواره في الوسط الفني والثقافي ليتعرف على الروائي الإسباني أغوستين- غوميز أركوس الذي نما فيه موهبة الكتابة والفن. وبما أن ماحي كان ميالا إلى الأقاصيص والحكي، فإنه لم يلبث أن ركب بمهارة ودقة قصصا أخاذة بمسحة تتزاوج فيها السخرية بالمأساة وأحيانا بالملهاة. عام 1992 صدرت له عن دار ستوك الفرنسية للنشر رواية «سبات الخادمة»، ثم تلاحقت الإصدارات من خلال نصوص: «أرض الظل الملتهبة» وهي احتفاء بالرسام الجيلالي الغرباوي، أحد أعلام الفن التشكيلي المغربي الحديث، الذي توفي على كرسي وقد كساه الثلج بساحة الشان دو مارس، قبالة برج إيفل. تستعيد الرواية على شكل مونولوج شاعري انزياحات الفنان، الذي زج بجسده في قلب لوحاته ليضع عليها رواسب آلامه، جنونه الإبداعي، عزلته إلخ... «مآتم حليب الرضاعة» « ظل الشاعر» «غبار الحشيش» «أكلة اللحوم» «راوي مراكش»... العودة إلى الأرض-الأم بعد الهجرة والرحيل، براءة الأطفال، صورة الأم في مقاومتها هجران الزوج وتركها وحيدة رفقة أطفالها، موت المهاجرين السريين على متن قوارب مهترئة، إلخ...تيمات تبسطها أمامنا، بشفافية، برقة وبلا تكلف، روايات ماحي بينبين. بموازاة الكتابة الروائية، تابع ماحي بينبين ممارسته الرسم والفن التشكيلي عبر إنجازات حاسمة ومتقشفة للوحات مشبعة بأنوار نهلت انسطاعها من حمرة مدينة مراكش، وهي حمرة أقرب إلى طين الحضارات الأولية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. التمكن من كيمياء اللون كان أحد طموحات ماحي بينبين. استلهم مشغول الصباغين في الساحة المعروفة بنفس الاسم بمراكش وهم يمزجون في أحواض مسحوقات الألوان قبل أن يغطسوا فيها الصوف أو الجلد لنشره وتجفيفه. ثمة كيمياء وحدهم الحرفيون يعرفون أسرارها، يتوارثونها أبا عن جد. تمكن ماحي من سبر هذه الكيمياء التي تمنح رونقا خاصا للوحاته كما تلبس الأناقة للسجاد، للعباءة أو اللحاف. ولما تتدخل نوتة الأبيض، الأزرق أو البرتقالي، أو الأسود المشمع، تكتمل الكيمياء المتميزة لعالم يتأتى مناخه من هلوسة بصرية كثيفة. بعد باريس، انتقل ماحي بينبين إلى نيويورك عام 1994، لتعميق وإتقان البعد الشكلاني وكانت النتيجة أن خلق كل لون شكله الخاص، هندسته المتميزة. كانت سنوات نيويورك ثرية بلقاءات حاسمة في المسار الفني لماحي. عرف المعرض الأول الذي أقامه بغاليري «ستيندال» بسوهو نجاحا ملحوظا لدى النقاد وأرباب الغاليريات. أول لوحة بيعت من المعرض اقتناها متحف غوغنهايم. بعد هذه المرحلة المفعمة بالنور والرؤى وكثافة الألوان، عاد إلى باريس عام 1999 ، ليلتقي بالرسام الإسباني ميغال غالاندا، الذي لم يتردد في مرافقته في تجربة ثانية جديدة، شملت التشكيل، الرسم، الطباعة الحجرية. تركز المشغول الفني على تجربة الأقنعة. الأقنعة بما هي رغبة في طمس الهوية، إرادة للانتحال، أداة للرهبة، ازدواجية للذات. في رمزية الانزياح والإخفاء والطمس اندرجت الكثير من أعمال الرسامين. جاءت المعارض التي نظمت في أكثر من عاصمة تجسيما لفكرة أن الأقنعة ملازمة لكل حضارة، لكن الإنسان الذي يتحرك بأقنعة خفية، لا ينتبه جيدا إلى واقعيتها المادية. بعد أزيد من 3 سنوات من العمل المشترك، اتفق الاثنان على وضع حد لتجربتهما، وفي نفس السياق، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 قرر ماحي بينبين العودة نهائيا إلى المغرب والاستقرار في مراكش، مدينته الأصل. عاد بعد أن أثبت جرأة استيتيقية، موهبة روائية وقدرة فائقة على تركيب شبكة من الأصدقاء، خصوصا أن الجميع يعرفه بسخائه وروح دعابته، الشيء الذي يفتقده العديد من الفنانين. حتى في سنوات الاغتراب، لم تغب عن ناظر ماحي المفارقة الباصمة لذاكرته، التي تمثلت في تجربة الانفصام التي عرفها جراء مجالسة والده الدائمة للملك الحسن الثاني، فيما الأخ الأكبر قابع في غياهب سجن تزمامارت الشنيع، حيث اعتقل لمدة 18 عاما رفقة ضباط قاموا مدفوعين بمآمرة انقلاب ضد الحسن الثاني. اختفى الأخ لتعيش الأم رفقة أطفالها في ترقب عودته يوما ما. كانت تنصب على الطاولة «صحنه المفقود» في انتظار عودته من سجن الموتى الذي جسده تزمامارت. تتأتى تجربة تفصيل الأجساد في العالم التشكيلي لماحي بينبين. من هذا الموروث الذي صرفه في الرسومات، المنحوتات وفي لوحات بحجم كبير، انبثقت في البداية أجساد مفككة الأطراف. في البداية جاءت الوجوه على شكل أقنعة كبلت أفواهها بسياج أو أسلاك سميكة، أو حبال متينة. تعبر لوحات ماحي بينبين عن مرحلة أضحى فيها الجسد ذليلا بفعل هيبة السطوة والخوف. رافقت أشغاله بطريقتها الخاصة ما سمي بآداب وفنون السجون، وهو نتاج روائي، تشكيلي يعتبر شهادة أو صك اتهام في حق «سنوات الرصاص» التي عاشها المغرب. الأعمال التشكيلية لماحي لا تنقاد لبلاغة أيديولوجية أو سياسية ضيقة، بل تحاول بدءا من تجربة عائلية ترجمة انمحاء إنسانية الإنسان، تشييء جسده، كائنه. يتجلى عنف التشظي في الوجوه المجوفة و كأنها نحتت بشفرات حادة، في الأعضاء والأطراف المبتورة الساقطة في الفراغ، أو الآيلة إلى السقوط. إن كانت ثمة قرابة بين معالجة ماحي بينبين وطريقة الفنان محمد القاسمي للأجساد فيتحدد ذلك على مستوى «سلخ» الجلد، مسح الهوية، مع فارق هو أن ماحي بينبين دفع بالتشظي إلى منتهاه: فقس العيون، تسييج الأفواه، شق الأجساد وتركها تحلق أو تتهاوى في مجالات الفراغ. في لوحاته الأخيرة، يلاحظ نوع من اللطف في حركية الأجساد التي وجدت نوعا من التعاضد باستناد بعضها إلى بعض. إذ بدل الأجساد الضخمة، الثقيلة، تعرض علينا في هذه الأعمال أجساد بحجم آدمي معقول، انبثقت سابحة في ألوان نورانية بيضاء، هي مزيج من الصلصال والجير والشمع. هل تحرر الجسد من أغلاله الخفية والظاهرة؟ هل خرج إلى النور بعد أن كان مكبلا ومسيجا تحت سطوة وهيبة العنف؟ توحي أعمال ماحي بينبين بهذا الانطباع، مع إحساس غريب وهو أنه في طرس اللوحات لا يزال خاتم الخرق، الانتهاك، نشطا في صمته الخافت والخفي. بعد التروما (الصدمة)، يمكن للجسد الآن أن يخرج إلى النور، متطهرا، نافضا أغلاله. وإن ركز نشاطه على العمل التشكيلي، نظرا للطلب الذي أبدته العديد من الغاليريات والمؤسسات العالمية لعرض أعماله، مثل بيينالي سان-باولو بالبرازيل، قاعة باب الرواح بالرباط، بيينالي البندقية في شهر يونيو القادم، لم يعلق ماحي الكتابة الروائية، بل يركب على مهل وبشذرات لعمل روائي جديد سيكون مستهلا لحكي عالم جديد مغاير لما كتبه إلى الآن. ويكون بذلك قد شدد على توجه المفارقات الذي يعتبر إحدى خصيصات أفقه الفني والإبداعي.