« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. في أحد الأيام من عام 1921 كان الفلاح العجوز «ديميتري» يتجهّزْ للذهاب إلى منزل صديقة تاجر الأحصنة (فاسيلي كوماروف)، ليسير إلى هلاكه مُبتسماً مسروراً، حيث رغبته في شراء الحصان الصغير الذي سيقتصر عليه المسافات الطويلة بين مزرعته والبيت الذي يقيم فيه رفقة زوجته وأطفاله الثلاثة، كانت خطاه متسارعة إلى أن وصل إلى عتبات بيت «فاسيلي» وبدأ بطرق بابه، ففتح فاسيلي» الباب واستقبل صديقة الفلاح بوجه بشوش ودعاه للدخول إلى منزله المتسخ، وتبادلا الحديث فيما بينهما معرفا إياه على زوجته صوفيا، داعيا إياه إلى تناول كأس من الشراب الذي يحرص فاسيلي على شربه والإفراط فيه حد الثمالة، وبعد جلسة طويلة كان السيد «ديميتري» قد أصبح في حالة من الثمالة الشديدة، وأدرك حينها «فاسيلي» بأن الفرصة قد أصبحت مواتية للانقضاض على صديقه ديمتري وقتله وتقطيعه وسلبه كل ما يملك من النقود التي جيء بها لشراء الحصان، فاستأذن من ضيفه بحجة أن زجاجة الفودكا قد نفذت وأنه ذاهب لجلب زجاجة أخرى، وترك الضيف مع زوجته صوفيا وهما يتناقشان، لكن بعد فترة قصيرة عاد «فاسيلي» وبيده مطرقة صغيرة، وقد تبددت ملامح وجهه البشوش إلى ملامح مخيفة، وكأنه مجنون، واقترب من ديمتري ووجه ضربة قوية إلى رأسه ليسقط العجوز مضرجا بدمائه، بعد صراخه بدأ جسده يرتجف من شدة الضربة، وفي تلك الأثناء انهال «فاسيلي» على ضيفة بضربة ثانية على رأسه .. وثالثة .. واستمر بضربه، ولم يتوقف إلا بعدما أدرك أنه لا يضرب سوى قطع لحم متناثرة على الأرضية. ففي الوقت الذي اتجهت فيه زوجته وشريكته في عمليات تنظيف أرضية المنزل من الدماء كان فاسيلي قد نجح في نقل الجثة ووضعها على طاولة قذرة في مطبخه الصغير، وبدأ بتقطيعها بواسطة المنشار الذي جلبه للتوْ من فناء منزله، وما أن تخلّص من تقطيع جثته حتى قام بوضعها وبأجزاء صغيرة في حقيبة جلدية، ثم توجه ويداه ملطختان بالدماء إلى أحد أركان المنزل، ليصلي وبخشوع تام من أجل أن يرحم الرب تلك الروح التي قتلها وبدأ يقول» لقد كان عملاً متعباً لكنه استحق العناء، فذلك العجوز كان يحمل معه ثلاثين روبلا «. كان «بيتروف فاسيلي تيرينتيفيتش» قد ولد لإحدى العائلات الفقيرة بمقاطعة فيتيبسك الروسية بدايات العام 1878 حينما وجد والده قد أضحى مدمنا على الكحول والمخدرات، وبات دائم الضرب له ولوالدته حتى أجبره على شرب الكحول ولم يتجاوز عمره السابعة ربيعا، ويبدأ حينها بارتكاب أولى جرائمه، بعد أن قام بقتل أحد أبناء الجيران ويتم الحكم عليه بثلاثة عشر عاما بالنفي إلى أحد معسكرات الأعمال الشاقة (كاتورغا) وينجح في الإفلات من مقصلة الإعدام، كون جريمته ارتكبت وهو في حالة ثمالة من جهة وصغر سنه من جهة ثانية، وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. كانت الحرب الأهلية الروسية على أشدها لحظات الإفراج عن «فاسيلي» في عمر العشرين والتحاقه بجبهة القتال في صفوف الجيش الأحمر الروسي، ويبدأ من خلاله بأولى محاولاته الفاشلة لسرقة أحد مستودعات الخيول العسكرية، ليتم الحكم عليه بالسجن ولمدة عام كامل ويتلقى خبر وفاة زوجته متأثرة بمرض الكوليرا الذي بدأ يضرب المناطق الروسية آنذاك، ويتجه ( بعد الإفراج عنه) إلى الارتباط بزوجته الثانية صوفيا الأرملة والأم لولدين لم يتجاوزا سن الخامسة وتصبح شريكته في جلّ جرائمه المستقبلية في العاصمة موسكو التي ارتكبها تحت مسمى تاجر الأحصنة، يترصّد الضحايا ويأتي بهم إلى منزله الذي أضحى أشبه بالمجزرة الحقيقية نظير القطع البشرية والدماء التي بدأت تغطي أرجاء المنزل بعد تقطيعها ووضعها في حقيبة سوداء ورميها كالعادة في مياه النهر، في عملية لم تتجاوز النصف ساعة لكل ضحية حتى قتل أكثر من 37 شخصا مع نهاية العام 1922. مع مرور الأيام بدأت الشكايات والبلاغات تتزايد من طرف السكان المحليين بعد مشاهدتهم لحقائب جلدية سوداء تطفو على مياه نهر موسكو، وهي تحتوي على أحشاء بشرية مقطعة إلى أجزاء صغيرة جداً، وبدأت حالة الرعب والذعر تدب في موسكو لحظات إدراك الشرطة بأنها تتعامل مع سفاح دموي، فأطلق فلاديمير لينين أوامره الشخصية بتحويل القضية إلى الضباط الأكفاء في جهاز تشيكا ( جهاز المخابرات السوفيتية) في الوقت الذي لم يتوقف فيه «فاسيلي» عن جرائمه حتى جاء بلاغ من إحدى السيدات ( أولغ تيميشينكو) قريبة أحد الضحايا، تفيد فيه بأن قريبها قد همّ بالدخول إلى منزل «فاسيلي» دون أن يعود، وأنها انتظرته لساعات طويلة، حينها انطلقت أجهزة الشرطة سريعا لتحصل على مبتغاها، بعد أن وجدت «فاسيلي» وقد بدأ بتقطيع الرجل الضيف إلى جانب تقطيع زوجته التي قتلها بسبب شجار بينهما، وحاول قتل أحد أبنائها الذي فرّ إلى الخارج واحتمى بالشرطة، ليتم القبض عليه سريعا بعد العثور على آثار ثلاثة وثلاثين ضحية مخبأة في باحة منزله الخلفي. يتحدث مجدي كامل في كتابه( أشرار التاريخ) عن «.... ارتياح «فاسيلي» وعدم شعوره بالخوف أو الارتباك حتى لحظات اقتياده من طرف الشرطة، إذ بدأ يقول: «إنني أصنع وجبة الغداء من هذا اللحم البشري الطازج الذي لا يصلح إلا للأكل فقط، دعوني أقدم لكم وجبتي الساحنة»، وعندما تم سحبه وجرّه من أحد العناصر صرخ قائلا:»إذا كنتم لا تريدون انتظاري حتى وجبة الغذاء، فدعوني على الأقل أرتدي معطفي الصغير...فالبرد قارس في الخارج»، حينها اقتيد «فاسيلي» سريعا إلى أحد مراكز الشرطة القريبة التي أمرت بإحالته على المحكمة التي أصدرت الحكم في حقه بالإعدام، بعد ثبوت جرائمه التي تجاوزت ثلاثة وثلاثين جريمة قتل، في اللحظات التي كانت الشرطة لا تزال تعتقد بأن جرائمه لم تتجاوز السبعة والعشرين فقط، وعندما سأله القاضي لماذا قتلت هؤلاء الناس، أجاب مُبتسما من أجل المال. ويضيف الكاتب «... كان الجميع يعتقد أن «فاسيلي» هو شخص يعاني من اضطرابات نفسيه خاصة بعد رباطة جأشه وضحكه المتواصل وعدم اكتراثه لارتكابه تلك الجرائم المُتعددة....لكن التقرير الطبي والفحص النفسي أثبت أنه عاقل تماما ويدرك جيدا تداعيات أفعاله، وعندما تلقى «فاسيلي» خبر إعدامه بالرصاص ليلة 18 حزيران/ يونيو 1923 أجاب غاضبا بالقول «.. : (يجب أن تكرّموني لأني قتلت البرجوازيين الأنذال)، ثم أضاف قائلا وهو ينظر إلى ضبّاط المخابرات الذين ألقوا القبض عليه: يمكنكم الاستفادة من خبراتي بدل إعدامي ... فقط أعطوني مطرقتي الصغيرة وأعطوني أي سجين لليلة واحدة وسأجعله يعترف بأنه ملك إنجلترا ! . وفي صباح اليوم التالي كان العنوان الرئيسي لمعظم الصحف هو خبر إعدام أول سفاح في تاريخ الاتحاد السوفييتي. معادي أسعد صوالحة