لحظات قبل أن يضرب مدفع الإفطار، كان الكبار يطلبون منا أن نخرج كي نترقب الأذان أمام الباب، رغم أن باستطاعتهم سماعه في التلفزيون، على القناة الوحيدة التي كنا نلتقطها بالأبيض والأسود في تلك الثمانينيات البعيدة، قبل أن تنقسم على نفسها وتتكاثر مثل البكتيريا ويصبح لها اسم يحيل على الصقيع (القطب العمومي). قبل «الأولى» و»الثانية» و»الرابعة» وبقية الأرقام التي يصعب تذكر القنوات التي ترمز إليها، كانت «التلفزة المغربية» تحمل تسميات أكثر مرحا: بالإضافة إلى «التلفزيون» أو»التلفزيو»، كما ينطقها الكثيرون، كان بعض الآباء لا يعترفون بوجود اختراع اسمه «الكاميرا» ويصرون على تسميتها «الإذاعة»، ودون أن يشعروا بأي تناقض يقولون لك: «شعل آولدي داك الراديو نتفرجو على الخطبة!»، فتذهب مسرعا كي تضغط على زرّ «الريكيلاتور»، ذلك الجهاز الغريب الذي يشبه بطارية السيارة، ويدعي الكبار أن بدونه «سيحترق» التلفزيون في حال انقطاع الكهرباء، لأسباب لا تستطيع عقولنا الصغيرة استيعابها. كان التلفزيون حيوانا أليفا يعيش معنا في البيت، ورغم أن الإرسال كان يبدأ في السادسة مساء، فإن كثيرا من الأسر كانت تفضل ألا تبالغ في إنهاكه بالعمل ساعات طويلة -كي تقتصد في فاتورة الكهرباء- وتكتفي بمشاهدة «الأخبار» و»المسلسل العربي» أو «الشريط الدولي المطول»، ثم تترك الجهاز «يرتاح»، كأي حمار تحرص العائلة على راحته لأنه مصدر رزقها الوحيد. وإذا أصيب بعطب في يوم من الأيام، يكفي أن تشبعه ضربا كي يستأنف العمل... وهناك من كان يسمي «التلفزة المغربية» ب»الرباط» نسبة إلى صفتها الرسمية، وثمة من يطلق عليها «دار البريهي»، وهم بصفة عامة «المثقفون» و»المناضلون» الذين كانوا يعتبرون ما ينشر في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» «سنّة مؤكدة» ينبغي اتباعها، وكانت الصحيفة يومها تشن حملة على ما تسميه «عمالة دار البريهي» لرفع وصاية الداخلية عن «الإعلام»، أيام كان كل شيء بالأبيض والأسود، بما في ذلك السياسة. ساعات قبل الإفطار، كانت «دار البريهي» تبث أدعية حزينة على نغمات الناي، في انتظار فقرة الذروة التي تنتظرها المملكة بكاملها: «أذان المغرب حسب توقيت الرباط وسلا وما جاورهما»، فيما نحن الصغار نتربص ب»المغرب» أمام عتبة البيت، نترقب أن تخرج حشرجات المؤذن من البوق «المخرشش»، كي نعود مسرعين إلى البيت حاملين النبأ السعيد: «كيودن، كيودن...» ويبدأ قرع «الزلايف» و»الكيسان». لا أستطيع الآن أن أحسم بدقة في ما إذا كان الكبار يرسلوننا لنترقب «المغرب» خارج البيت كي يختصروا بضع دقائق من الصيام، لأن الأذان في مدينتنا الصغيرة كان يسبق «أذان الرباط وسلا وما جاورهما»، أم كانت مجرد حيلة لكي يرتاحوا منا قليلا، و»يفرقوا الصيام» دون أن نضايقهم بطلباتنا التي لا تنتهي، أمام مائدة يسيل لها اللعاب. لم يكن الإفطار يكاد يبدأ، في عائلاتنا كثيرة العدد، حتى تشرع قبيلة من الأطفال في التسابق والصراخ: واحد يريد الحليب وآخر يريد العصير وثالث يريد «الحريرة» ورابع يحتج لأنه يفضل البيض مقليا وليس مسلوقا... كان التلفزيون في رمضان يعني «المسلسل العربي» قبل كل شيء، التسمية التي كانت تطلق على الدراما المصرية، أيام كان عبد الله غيث وعفاف شعيب وليلى طاهر ومحمود ياسين أفرادا من العائلة. حين ينقطع البث، بسبب سوء الأحوال الجوية، وتفوتنا حلقة من المسلسل، تصاب المدينة كلها بانهيار عصبي. لا أعرف هل كنا سذجا إلى ذلك الحد أم إن الزمن تغير، لكن تلك المسلسلات كانت تسحرنا بشكل غريب، كبارا وصغارا، عيوننا كانت تتبلل ونحن نشاهد البطل يتعذب في الظلام! بعد «المسلسل العربي» ننصت بخشوع ل»المسيرة القرآنية»، في انتظار «محمد يا رسول الله» وحكايات الأنبياء المشوقة: الديكورات سخيفة، و»البيروكات» على رؤوس الممثلين مضحكة، والماكياج مفضوح... لكن الفرجة مضمونة مائة في المائة، وحدها أغنية الجينيريك تحرك في عيوننا بركا من الدموع، وتزرع الإيمان في قلوبنا الصغيرة. خلال تلك السنوات البريئة، لم تكن مشاهدة التلفزيون في رمضان تقل خشوعا عن «صلاة التراويح»!