كانت الدولة الفاطمية شوكة في خاصرة الأمة الإسلامية، وقد افترى الفاطميون في نسبة أنفسهم إلى فاطمة بنت رسول الله (ص)، فالأصل أنهم أبناء سعيد بن الحسين من أحفاد عبد الله بن ميمون القداح. وقد ذكر بعض الرواة أن أجداد الفاطميين يهود لا صلة لهم بآل البيت. يقول ابن خلكان في «وفيات الأعيان»: «والجمهور على عدم صحة نسبهم وأنهم كذبة أدعياء لا حظ لهم في النسبة المحمدية». أظهر الفاطميون الإسلام إلى أن قويت شوكتهم فأمروا الناس بلعن الصحابة واستحلوا الفواحش والخمر وادعى بعض ملوكهم الألوهية وأمروا الناس بعبادتهم وسفكوا دم كل من لم ينقد لهم، خاصة من العلماء والفقهاء والمحدثين، فقد رأوا في انقيادهم لمشروعهم انقيادا للأمة بأسرها، وقد وصلوا درجة من الطغيان لم يسمع لها مثيل في تاريخ البشرية حتى أن ابن هانئ مدح المعز قائلا: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وقد بلغ ظلمهم للسنة وللمالكية منهم في الشمال الإفريقي مداه في عهد الحاكم بأمر الله ومن قبله المعز الذي بنى القاهرة واختط أهم منشآتها، وقد كان ملكا حازما قوي البأس حريصا على إظهار العدل ليستدر عطف الناس ومحبتهم، لكنه لم يكن متوقفا في دماء العلماء ولا في دماء معارضيه على الجملة، وقد اتخذ وزيرا يهوديا لتدبير شؤون دولته هو يعقوب بن كلس، وكان خبيرا بشؤون السياسة والاقتصاد والحسبة، وإليه يعزى الفضل في تنظيم شؤون الدولة العبيدية الداخلية. وقد استيقن المعز أن شؤون الحكم لا تخلص له ولا يستقر أمره إلا إذا استأصل المذاهب السنية من البلاد، فكان أن سعى إلى نشر مذهبه وشجع على التأليف في عصره وبنى الأزهر ليكون مركزا لإشعاع مذهبه الشيعي وحاصر أئمة السنة، وقد كان العلماء في عصره بين نارين: الدخول في دعوته أو الفرار من سطوته، وليس لهم وراء ذلك غير القتل. وقد اختار بعض العلماء موالاته لما عرف عنه من إكرامه لخاصته والموالين لدعوته. لم يكن سهلا يومها على فقهاء ذلك العصر أن يواجهوه، وكان يحز في نفوسهم ما يرونه من مظاهر الاستبداد والتطاول على شرائع الدين، ومن هؤلاء الإمام أبو بكر النابلسي، وقد كان قواما صواما زاهدا عالما بالفقه والحديث ذا مهابة، مطاعا عند العامة والخاصة. ومثل هذه الصفات تثير مخاوف صاحب السلطان وتدعوه إلى الريبة والشك عادة، وإن كان المعز قد عزم على الفتك بكل من يدعو إلى مذاهب أهل السنة فلا بد أن عزمه على الفتك بأبي بكر آكد، وقد طلبه ففر إلى الرملة بدمشق بعد أن امتد سلطان العبيديين إلى مصر وفلسطين، ثم ما لبث أن ألقى ولاته القبض عليه بعد استيلاء جيوش المعز على بلاد الشام. كان أبو بكر يصرخ في الناس قبل سجنه بأنه إن كانت في كنانته عشرة أسهم سيرمي الروم بسهم وسيدخر تسعة للطاغية (يقصد المعز)، وقد ساقه قائد الجيش جوهر مكبلا إلى المعز فسأله عن مقالته وعن دعوته إلى الثورة على الفاطميين فكان جواب النابلسي: ما قلت هكذا؟ فظن المعز أن النابلسي أصابه الرعب، فاغتبط لذلك وسأله أن يردد عليه ما كان يقول بين الناس وأن يصحح مقالته إن كان الذي بلغه عنه افتراء، فأجاب النابلسي بلهجة الواثق قلت: «من كان معه عشرة أسهم يجب عليه أن يرميكم بتسعة وأن يرميكم بعد التسعة بالعاشر أيضا». فأصيب المعز بالدهشة، إذ لم يكن يتوقع جرأة النابلسي في موقفه ذاك، فسأله عن السبب، فاهتبل النابلسي الفرصة ليؤكد ما كان يدعو الناس إليه، وهو موقن أن موقفه ذاك أبلغ ألف مرة من كل ما كان يقوله عن فساد مذهب العبيديين في المساجد وحلقات الدرس، وما كان موقفه الجريء ليمر دون عقاب فقد أمر المعز بضربه بالسياط فثبت، ثم أمر بسلخ جلده فرفض المسلمون فعل ذلك، إلى أن عرض الأمر على يهودي فقبل فجعل يسلخ جلده عن لحمه وهو صابر ثم سلخه من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه فجعل النابلسي يذكر الله إلى أن بلغ عضده فرق لحاله وطعنه في قلبه ففاضت روحه وهو يردد «كان ذلك في الكتاب مسطورا». قتل النابلسي ولم يشف ذلك غل صدر المعز فحشا جسده تبنا وصلبه على أبواب القاهرة، وكان ذلك عام 367ه، لكنه لم يهنأ بعده بالملك طويلا، فقد أوعز إليه بعض المنجمين بالاختباء لمدة عام ففعل، وما كاد يعود إلى عرشه حتى وافته المنية. يوسف الحلوي