منذ زمن بعيد ظل الكتاب يلعب أدوارا طلائعية في حياة الإنسان، ويساعده على التعرف على نفسه وعلى الآخرين. وعلى مر العصور ظهرت ملايين الكتب التي تم تداولها بين الناس، ولكن الكتب التي حافظت على رونقها واخترقت الأزمة والأمكنة قليلة. والسبب في ذلك راجع إلى أن القراءة حاجة قبل كل شيء، ومن ثم فإن القارئ هو من يمنح الكتاب عمرا مديدا أو يقوم بوأده بمجرد ظهوره. وتلك الحاجة تمليها السياقات المختلفة للقارئ الذي يبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلته الكثيرة عما يحيط به. فما الذي يجعل كتابا رأى النور منذ قرون موضوع اهتمام كبير؟ وما الذي يجعل كتابا حديث العهد محل إهمال كبير؟ وحدها «أمهات الكتب» هي التي تحافظ على راهنيتها وتخترق الأزمنة والأمكنة لتحيى بين الناس. كتاب «المقدمة» هو المدخل الذي مهد به ابن خلدون لعمله التاريخي الضخم، الذي يحمل عنوان «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر من ذوي السلطان الأكبر»، واعتبره الكثير من الدارسين مدخلا لأعمال ابن خلدون كلها. وهناك من يعتقد أنه كتاب مستقل بموضوعه وطريقته في التأليف ولا علاقة له بأي عمل آخر إلا من باب الرؤية الخلدونية التي يعكسها. ويستدل هؤلاء على هذا الرأي بالقول إن ابن خلدون لم يستعمل الجهاز المفاهيمي الذي بلوره في كتاب «العبر»، ولكن كل الدارسين المعاصرين يتفقون مع ذلك على أن «المقدمة» فتح جديد في مجال الفكر التاريخي. إن أول ما يسترعي انتباه القارئ وهو يتصفح «مقدمة» ابن خلدون طابعها الموسوعي الذي جعلها تلامس بمعنى ما كل الانشغالات الفكرية والإبداعية التي شكلت مجالات اهتمام العالم العربي الاسلامي في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي). وبقدر ما تعبر عنه «المقدمة» من غنى في الفكر ونجاعة في المنهج، مما انعكس مباشرة على طبيعة الخلاصات التي توصلت إليها، بقدر ما أثارت قديما وحديثا من النقاش الذي وصل إلى حد السجال أحيانا كثيرة. وهو ما يفسر أن هذا العمل، الذي يشهد على عصره أولا وأخيرا، قد تعرض لقراءات متعددة، أفضت إلى نتائج متفاوتة على المستوى المعرفي الذي لم يلغ المستويات الأخرى. ومن هنا يمكن أن ننظر إلى هذا العدد الهائل من الدراسات والأطاريح الجامعية والبحوث الأكاديمية التي أنجزت حول «المقدمة»، والتي لم تستطع، على كثرتها، أن تنتزع الشرعية عن أي قراءة تقترح للكتاب راهنا ومستقبلا، على أنها «قراءات» تعمل كل واحدة منها على اكتشاف جانب من جوانب هذا الكتاب المختلفة. وعندما يصل كتاب ما إلى هذه الدرجة التي يشغل فيها الناس ويقيم الدنيا، مثلما وصلت إليه «مقدمة» ابن خلدون، فإن ذلك يعني مما يعنيه أننا أمام عمل استثنائي يؤسس لما بعده. ما الذي جعل من «مقدمة» ابن خلدون كتابا استثنائيا ومؤسسا؟ إن كتاب «المقدمة» جاء في سياق ثقافي عام، يصطلح عليه اختصارا بعصر الانحطاط، وهو سياق ساد فيه توجه عام يدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد في كل المجالات، ويكتفي باجترار «المجد» الفكري، الذي وصل إليه المفكرون العرب المسلمون قبل هذا التاريخ بقرون. ومن العلامات الكبرى لهذا «الانحطاط» على المستوى السياسي تفكك الدولة المركزية في المشرق والمغرب والاحتكام إلى الحروب من أجل فض النزاعات بين الأسر الحاكمة، وعلى المستوى الاجتماعي اتساع دائرة الحروب القبلية وانتشار وباء الطاعون الذي أودى بحياة عدد كبير من ساكنة الغرب الإسلامي، وعلى المستوى الاقتصادي تأخر في الإنتاج، جعل الفلاحة تكف عن أن تكون مصدرا للثروة نتيجة احتكار «أمراء الحرب» للأراضي الخصبة، وتقلص النشاط الاقتصادي بحكم انعدام الأمن والاستقرار. أما على المستوى الفكري فإن ابن خلدون يلخص ما وصل إليه عصره من انحدار بأن «كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقض العمران فيه وانقطاع سد العلم والتعليم». إن ابن خلدون لم يكن بمنأى عن هذه التحولات، بل كان شاهدا عليها بحكم المناصب السياسية التي تولاها، أو بحكم علاقاته الواسعة مع أصحاب النفوذ من أمراء وسلاطين ومسؤولين ووجهاء. ذلك أن أغلب المصادر والمراجع التي تناولت حياة الرجل تجمع على أنه كان ذا طموح جامح إلى السلطة في شبابه، وربما يعود هذا الأمر إلى أنه ينحدر من أسرة كبيرة نزحت من الأندلس إلى تونس بعد الزحف المسيحي على مناطق شاسعة من «الفردوس المفقود»، واحتل أفراد من عائلته مناصب سامية أهلتهم لأن يكونوا من صناع القرار. ومن ثم فإن ابن خلدون بدأ حياته العملية سياسيا على الرغم من أنه تلقى تكوينا علميا رصينا على يد علماء كبار، كان يؤهله منذ شبابه ليحتل مكانة مرموقة بين علماء عصره. ولكنه لم يتفرغ إلى العلم والتأليف إلا بعد الأربعين حين خذلته السياسة. فقد ولد ابن خلدون في تونس عام 732ه، وأسند إليه منصب كتابة العلامة لسلطان تونس ولما يتجاوز الإحدى والعشرين سنة. وقد سمح له ذلك المنصب بالانتقال إلى مدينة فاس، حيث سيعمق معارفه في مختلف المجالات، ولكن نشاطه السياسي سيؤدي به إلى السجن بمدينة فاس، التي حبس بها لمدة سنتين بتهمة مساعدة أحد الأمراء على الفرار ضمن صفقة تؤمن له منصبا ساميا، ولما فك أسره ازداد شغفه بالسياسة وازداد تقربه من رجالاتها، إلى أن وصل إلى منصب الحجابة بإمارة بجاية. غير أن الصراعات السياسية ستعرض حياته للخطر مرة أخرى عندما نشبت خصومة بين أمير بجاية وبين سلطان قسنطينة، فقرر الانصراف عن ممارسة السياسة والتفرغ للعلم تحصيلا وتأليفا، فلجأ إلى قلعة ابن سلامة، وهناك سيعكف على كتابة «المقدمة». إن هذ التجربة السياسية التي خاضها ابن خلدون على قصر مدتها، ستمنحه قدرة كبيرة على التأمل والتحليل والنظر إلى الأحداث في ترابطها وتشابكها، ومن ثم امتلك صاحب «العبر» منذ ذلك الوقت قدرة كبيرة على التحليل والتركيب سيستغله في كتابة «المقدمة». جميع المصادر، بما في ذلك «المقدمة» نفسها، تؤكد أن ابن خلدون ألف الكتاب أثناء اعتكافه في قلعة ابن سلامة، التي لجأ إليها هاربا من هوس السياسة والسياسيين. ولكن هذه لم تكن سوى كتابة أولى خضعت للتشذيب والتنقيح ثلاث مرات على الأقل من طرف المؤلف نفسه. ظهرت «المقدمة» في العصر الحديث في عدة طبعات تعود أولاها إلى سنة 1858. وقد تأخر ظهور الطبعات المحققة من الكتاب، التي تتداول منها طبعتان، الأولى حققها المصري علي عبد الواحد وافي، والثانية حققها الباحث المغربي محمد الشدادي. تشتمل «مقدمة» ابن خلدون على ثلاثة أقسام رئيسة: القسم الأول عبارة عن مقدمة، والقسم الثاني يشكل تمهيدا سماه «المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها». أما القسم الثالث فيحمل عنوان: «الكتاب الأول في طبيعة العمران وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها، وما إلى ذلك من العلل والأسباب». إن ما ميز الكتاب وجعله يحظى بالاهتمام الواسع من لدن الدارسين العرب والأجانب، أنه يعد أول كتاب عربي يتناول «مفهوم التاريخ» نفسه، وهو ما اعتبر مساهمة في بلورة مفهوم جديد للتاريخ ومنهج جديد للمقاربة التاريخية. ويحدد ابن خلدون مجال الكتاب في أنه «نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق». وقد أدى هذا المفهوم الجديد للتاريخ بالمؤلف إلى شحذ مجموعة من المفاهيم التي تسعفه على تقديم صورة واضحة لما ينبعي أن يكون عليه البحث التاريخي، فتوصل إلى علم جديد سماه علم العمران الذي يتداخل فيه التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بطريقة تقود إلى بناء نظرية تعتمد نسقا منتظما في أفق فكري يتسم بالشمولية. لقد اختلف الدارسون المحدثون في إيجاد مقابلات لعلم العمران كما استعمله ابن خلدون، فمنهم من ذهب إلى أنه مرادف لما نسميه اليوم علم الاجتماع، ومنهم من رأى فيه فلسفة للتاريخ، ومنهم من رأى أنه يعبر عن علم الاجتماع وفلسفة التاريخ معا. وهو ما يدخل في إطار تعدد القراءات التي خضعت لها المقدمة في العصر الحديث. لقد اشتهر ابن خلدون بكتاب «المقدمة» حتى كاد يعرف به، على الرغم من أن له مؤلفات أخرى. فبالإضافة إلى كتاب «العبر» سالف الذكر فإن له مصنفات أخرى منها «التعريف» الذي جمع فيه مذكراته، و»شفاء السائل لتهذيب المسائل» و»إبطال الفلسفة وفساد منتحليها». وحول «المقدمة» انصبت اهتمامات الدارسين المحدثين للفكر الخلدوني. عرف الأربيون ابن خلدون منذ القرن السابع عشر حين ألف جاكوب جوليو كتابا عن «رحلات ابن خلدون»، وفي عام 1812 قام المؤرخ النمساوي هاممر بورشنيفال بترجمة بعض أعماله، وفي سنة 1868 ظهرت بفرنسا أول ترجمة لكتاب «المقدمة» على يد المفكر الفرنسي ماك كاكين دي سلان. وكانت أول رسالة دكتوراة نوقشت عن ابن خلدون أنجزها الدكتور طه حسين تحت عنوان: فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وهي أول عمل دراسي في بابه سيفتح المجال أمام دارسين آخرين لتناول جوانب مختلفة من «المقدمة»، التي ما فتت إلى اليوم تثير شهية الدارسين والباحثين. حسن مخافي