تجرى العملية الانتخابية، في فترات مختلفة محددة بنص القانون، بغية القيام بتجديد النخب على المستويين الترابي والتشريعي، وذلك من خلال الاحتكام المباشر إلى صناديق الاقتراع التي يستطيع من خلالها الناخب التعبير عن اختياراته بمنح صوته، في آخر المطاف، لمن سيمثله على مستوى المؤسستين الترابية والتشريعية. تعد العملية الانتخابية بمثابة تجسيد حقيقي للأسس الديمقراطية في تدبير الشأن العام، وهو أمر لا يمكننا أن نفهم من خلاله إلا ضرورة تحري هاته العملية، باعتبارها تجليا خالصا للممارسة الديمقراطية- لكل المقومات الأخلاقية، كالشفافية والمساءلة والمحاسبة. وهذه كلها أمور لا يمكنها أن تجد طريقها إلى التطبيق الصحيح إلا إذا وجدت الظروف الملائمة والمرتبطة لزاما بالصرامة في تطبيق القانون من بداية العملية الانتخابية إلى نهايتها. لقد تعددت الدراسات التي تطرقت لإشكالية العملية الانتخابية، وخاصة في بعض الدول التي لازالت ترزح في براثن الأمية والتخلف، وأبانت أن هذا العامل (تفشي الأمية والتخلف) يكون مسؤولا عن تجذر شخصانية الانتخابات، حيث لازال الناخب يتعاطى مع المنتخب من خلال شخصه لا من خلال برامج الحزب الذي ينتمي إليه، الأمر الذي يؤثر سلبا على النتائج المرجو حصدها من وراء الانتخابات، هذا بالإضافة إلى استفحال بعض الممارسات المشينة، من قبيل تفشي مظاهر الرشوة والزبونية والمحسوبية، والتي يرتفع مستوى التعامل بها إبان الذروة الانتخابية، وهذه كلها سلوكيات تنحرف بالعملية الانتخابية عن تحقيق أهدافها النبيلة المتجلية في تحقيق التداول بين المواطنين في المسائل المرتبطة بتدبير الشأن العام، وهذا الانحراف لا يميز بين دول متقدمة وأخرى متخلفة فكلاهما سيان. والانتخابات في المغرب، كما في غيره، تشكل قطبا أساسيا لتحريك دواليب الشأن العام، فقد استطاعت من خلالها بلادنا، ومنذ حصولها على الاستقلال، التخلص من آثار الاستعمار الغاشم والمضي قدما نحو الانخراط في مسلسل الإصلاح الديمقراطي للدولة من خلال دسترة أدوار الأحزاب السياسية، وذلك بإسناد مسؤولية تأطير المواطنين إليها، ومن ثمة تمكينهم من ولوج الحياة السياسية وعبرها الفعل الانتخابي. كما أنه لا أحد يمكن أن يجادل في التغيرات الدستورية الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب، والتي جعلت بلادنا محط أنظار دول خبرت الممارسة الديمقراطية لسنين طويلة. غير أنه بالرغم من هاته المكاسب المشرفة فإن واقع الممارسة الانتخابية لازال يصم مشهدنا السياسي بالعار، والمتجلي أساسا في عدة مظاهر، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: - استفحال ظاهرة السمسرة الانتخابية، وكأننا أمام سوق رائجة تتم فيها المزايدة في الأثمان، وهي سلوك خطير يضرب عرض الحائط بمقومات الديمقراطية الانتخابية، إذ يفتح الباب على مصراعيه أمام "مالين الشكارة" لتوجيه العملية الانتخابية تبعا لميولاتهم الربحية في أغلب الأحيان؛ - ضعف تأطير الأحزاب السياسية للمواطنين، مما لازال يكرس لتجذر ظاهرة الأمية السياسية، ويؤثر سلبا على مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المغربية؛ - شباب ونساء استطاعوا الظفر مجانا بمقاعد برلمانية، لكننا لا نرى لبصمتهم أثرا، مما يدعونا إلى مراجعة هاتين اللائحتين، إذ من اللازم على المرشحة أو المرشح إقناع المناضلين داخل الأحزاب السياسية التي ينتمون إليها ببرامجهما، ومن ثمة تفعيل آليات التصويت المباشر من أجل اختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم داخل قبة البرلمان، ولم لا داخل الجماعات الترابية في المستقبل القريب؛ - لازال منطق القبيلة يتحكم في رسم ملامح الخريطة الانتخابية ببلادنا، وهو أمر لم يعد ملائما لعصر العولمة القاضي بالتنافس والتباري من أجل الظفر بالمقاعد الانتخابية من قبل من هم الأصلح؛ - استمرار عملية شراء الذمم، وخاصة إبان الذروة الانتخابية، الأمر الذي يعكس أن ظاهرة الرشوة لازالت مستفحلة في مجتمعنا، مما يدعونا إلى البحث عن الوسائل الكفيلة بمواجهتها والتخفيف من تداعياتها، ولم لا القضاء عليها، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه -من وجهة نظرنا- إلا عبر توخي التطبيق الصحيح للمساطر القانونية، بما يستدعيه من استحضار البعد الزجري في هذا التطبيق من خلال معاقبة كل الجناة وجعلهم عبرة لمن يعتبر... إلخ. إن العبور بمشهدنا السياسي إلى بر الأمان، ومن ثمة تمكينه من لعب أدواره الدستورية بطريقة صحيحة، مقرون ب: - ضرورة إلزام الدولة للأحزاب السياسية بتقديم نسب وإحصاءات المواطنين الذين تؤطرهم، الأمر الذي سيمكن من رصد مكامن الخلل التي لازالت تهيمن على العملية الانتخابية وتؤثر سلبا على نتائجها؛ - ضرورة إحداث وحدات للمراقبة والتفتيش، يتم تكليفها بمتابعة واقتفاء أثر الفساد الانتخابي؛ - تفعيل مضامين التقارير الوطنية والدولية المرتبطة بالفساد الانتخابي، وتجنيد وسائل التواصل السمعي البصري، المقروء والرقمي، من أجل تحسيس المواطنين بخطورة ظاهرة الغش الانتخابي، وكذا تعريفهم بالعقوبات التي تلحق كل مخالفي القاعدة القانونية المنظمة لهذا المجال؛ - تنظيم ندوات وطنية ومحلية وإقليمية وجهوية، قوامها التحسيس بمخاطر الظاهرة، ومن ثمة تنوير الرأي العام بأن من يشتري ذمتك اليوم سيبيعك غدا؛ - تفعيل الأدوار الدستورية التشاركية للمجتمع المدني، بما يجعله يقظا خاصة وسط الأحياء والمدن القصديرية، من أجل تحسيس المواطنين ورفع عرائض وشكايات ضد كل المتلاعبين بالشأن الانتخابي؛ - تجنيد المدارس والجامعات من أجل محاربة ظاهرة الغش الانتخابي، ولمَ لا إدراج برامج تكوينية عنوانما قيم المواطنة الحقة... إلخ. إن بلوغ مرامي الديمقراطية الحقة لا يمكن أن يتحقق بتاتا بمعزل عن تنمية الشعور بالانتماء الوطني المقرون بتنمية الأخلاق والسلوكيات في تصريف الممارسات التي تعتبر العملية الانتخابية أحد أعمدتها. إن العملية الانتخابية ليست ظرفية وإنما هي حتمية ومصيرية، وتقتضي منا التحلي بالحزم والصرامة الضروريين لتطبيق القانون بما يستدعيه من ردع لكل من تسول له نفسه العبث بمصير المشهد الانتخابي المرتبط مباشرة بهموم وانشغالات المواطن، قضايا لا يمكننا الوصول إلى حلها إلا عبر تخليق الحياة السياسية والانتخابية وجعلها بمثابة نواة حقيقية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة. إن تخليق الحياة السياسية، من وجهة نظرنا، هو الحل الأوحد لحل إشكالية الغش الانتخابي المقرون باستعمال الرشوة وجميع طرق التدليس والاحتيال، لأن الوقاية خير من العلاج والتحسيس خير من العقاب؛ فلنسع جاهدين، أحزاب سياسية ومواطنين، من أجل القطع مع هاته الظاهرة الخطيرة وتعويضها بسلوك انتخابي قوامه الشعور بالانتماء الوطني والوعي بحقوق وواجبات المواطنة. العباس الوردي