تكمن أهمية دراسة المجتمع المدني في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، على حد سواء، جنبا إلى جنب مع الدولة في الدفع بالمجتمع إلى الأمام؛ فالمجتمع المدني يقوم بوظيفة مهمة في حماية أفراد المجتمع من تعسف الدولة وسطوتها، خاصة عندما تستخدم أجهزتها القمعية؛ كما نؤكد أن المجتمع المدني في علاقته بالدولة يخدم كافة فئات المجتمع ويتقاسم الأعباء مع الدولة، ولاسيما في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... التي يعيشها العالم اليوم. وقد شكل موضوع المجتمع المدني، سواء نظريا أو عمليا، موضوعا ذا أهمية كبرى للسياسيين والباحثين، وذلك باعتبار أن المجتمع المدني أداة قوية للاختراق والضغط والوصول إلى المعادلات الاجتماعية الصعبة، فقد يصل، في حده الأقصى، إلى التأثير في صياغة شكل الدولة نفسها واختيار النظام السياسي وانتخاب الحكومة ومحاسبتها، بينما يقتصر أداؤه، في حده الأدنى، على السخط الصامت. فالمجتمع المدني يمثل "مجموعة من الأفراد والمنظمات والهيئات التطوعية المؤسسية التي تقوم على قاعدة التعاقد، والمستقلة عن سلطة الحكومة، والتي يتبنى أعضاؤها أهدافا مشتركة يحققونها عن طريق العمل الجماعي في مجالات مختلفة، اقتصادية وثقافية ودينية وفنية واجتماعية وإنسانية.. وغيرها، بالاعتماد على أنفسهم دون الاعتماد الكلي على الدولة إلى الحد الذي تصبح فيه تلك المنظمات والهيئات والجمعيات بمثابة قوى اجتماعية لا تنفصل عن الدولة ولكنها بمثابة عين عليها، وتسير هذه المؤسسات على أهم مبادئ الديمقراطية". 1. وقد برز هذا المفهوم خلال النصف الثاني للقرن الثامن عشر نتيجة التحولات في الفكر السياسي وانتقالات أوربا من فترة الاستبداد إلى فترة الديمقراطية البرجوازية، حيث بزغت شمس النهضة الفكرية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر لتزدهر في الربع الأول من القرن السادس عشر. في هذه الحقبة بسنواتها القصيرة، جاء اختراع الطباعة التي عدّها مارتن لوثر: (من أسمى فضائل الرب على عباده)، كما تم اكتشاف البوصلة والبارود، وجاءت الاكتشافات الجغرافية (اكتشاف أمريكا سنة 1492م)، واستتبع ذلك بروز التيارات الفكرية من العقلانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فالتنوير في القرن الثامن عشر، والعلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهكذا... والمجتمع المدني، كمفهوم وكما هو متداول، ولد من رحم العقد الاجتماعي، فهذا توماس هوبس (1588 - 1679م) في منتصف القرن السابع عشر راح يعني بالمجتمع المدني المجتمع المنظم سياسيا عن طريق الدولة القائمة على التعاقد، فالمجتمع المدني بهذا يضم المجتمع والدولة في الفكر الغربي، بل هو الأساس للدولة، إذ ظهر المجتمع المدني في خضم النهضة الأوربية وبالتزامن مع انتصار الثورات البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تلك الانتصارات التي توجت بتشكيل دول حديثة، فتنحت الإقطاعية مع قيمها إلى متحف التاريخ، كما انزوت الكنيسة كحليف مؤازر لها فاقدة دورها ومكانتها... أما فكريا، فقد تزامن هذا مع ظهور العقلانية كفلسفة في القرن السابع عشر. وقد عنت العقلانية، من ضمن ما عنته، تحكيم العقل بدل تحكيم النص والهوى. وتعود العقلانية كمصطلح فلسفي إلى ديكارت (1596 - 1650م) وفرنسيس بيكون (1561 - 1626م)؛ ثم إن العقلانية هي ضد التفكير الأسطوري في الحقبة التي سبقت الثورات البرجوازية وإبان نشوبها، برز تيار اجتماعي سياسي وفلسفي في أوربا باسم التنوير، ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان من أبرز أعلامه فولتير (1694 - 1778م) وجان جاك روسو (1722 - 1778م) اللذين تصديا لأنظمة الإقطاع وجور الملوك، كما ناضلا ضد الأوهام الدينية. وامتدت هذه الحركة الأدبية والفلسفية إلى الثورة الفرنسية (1789م)، حيث أورد جان جاك روسو في "عقده الاجتماعي" مفاهيم ومصطلحات أصبحت شائعة ومتداولة حتى تاريخ اليوم مثل: الدستور، الشعب، الأمة، حقوق الإنسان، القانون، المواطن، المساواة، الحرية، الحقوق الطبيعية للفرد،... إلخ. ويرى بعضهم أن المجتمع المدني خرج من (العقد الاجتماعي) لروسو؛ والعقد الاجتماعي، كمفهوم، جاء استخدامه من قبل بعض المفكرين لتفسير أصل الدولة والقوانين والأخلاق. لكن برحيل غرامشي في الثلاثينيات من القرن العشرين (1937م) اختفت الدعوة إلى المجتمع المدني بأوربا التي انشغلت بالحرب الكونية الثانية، لتعود مجددا في نهاية السبعينيات في سياق أحداث بولونيا وحركة التضامن وزعيمها التاريخي "ليش فاليسا"، ثم ازداد ضجيج الدعوة في الثمانينيات مع أحداث أوربا الشرقية في عام 1989م التي هدفت إلى تقويض النظام الاشتراكي. وللحقيقة، نقول ليس كل من دعوا إلى المجتمع المدني في أوربا الشرقية كانوا ضد الاشتراكية، بل جلهم أراد إصلاح النظام القائم، والخلاص من البيروقراطية والجمود والتحجر، والتحرر من الخوف المستبد بهم، وبالتالي عدم تجرئهم على قول كلمة الحق، أو التحرر من حالة التملق والتزلف للأعلى صاحب النفوذ، واختفاء النقد الهادف للأسباب ذاتها... وإذا كان قيام الدولة الحديثة في أوربا قد جاء نتيجة انتصار الرأسمالية على الإقطاع، فإن تطور مفهوم مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة العربية مازال في مخاض عسير تتقاذفه المصالح والتكتيكات السياسية والصراع الطبقي والفئوي والإيديولوجي. وعلى العموم، فقد برز هذا المفهوم مع بداية ظهور معالم الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر مع قيام دولة محمد علي باشا في مصر والتأثر بحملة نابليون على مصر عام 1798م وما جاءت به من مضامين الحداثة الغربية. ولعل ظهور هذا المفهوم في تسعينيّات القرن العشرين وانتشاره بقوّة يعتبر نوعا من قبيل التعويض عن نكوص سياسي أصاب المثقف العربي، وأدى إلى استقالته من السياسة جرّاء انحسار الأفكار اليسارية والقومية، لهذا جاء معظم مَن تبنى هذا المفهوم من اليسار والحركات القوميّة، ورأى أن ذلك ترَافق مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومع الأزمة التي عصفت بالعالم العربي غداة احتلال الكويت في سنة 1990، ثمّ توقيع اتفاق أوسلو (بين القيادة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي) في سنة 1993. وفي خضمّ هذه الأحداث التي جعلت كثيرا من المثقّفين ينسحبون من السّياسة، حاول بعض اليساريين السابقين اختزال المجتمع المدني في ما يسمى "المنظمات غير الحكومية". لكن، ها هو المثقف اليوم يعود إلى ممارسة السّياسة مع اندلاع الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وينخرط في الحراك الثوريّ بأفكاره ومواقفه، وبجسده أيضا. إن المجتمع المدني هو، بدون سياسة وخارج سياق النضال في سبيل الديمقراطيّة، إجهاضٌ للمعنى التاريخي للمجتمع المدني. إن هيئات المجتمع المدني، التي تعتبر كشريك جديد في التنمية المستدامة، تلعب في بلدان المغرب العربي دورا محوريا في عملية البناء والتعمير الاجتماعي، بل إن تلك الأهمية تعاظمت في العقود الأخيرة من القرن العشرين نتيجة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم ككل والدول المغاربية التي ليست بمعزل عن تلك المتغيرات، بفعل المصالح المشتركة التي تربطها بالبلدان الأخرى. فعلى المستوى الاقتصادي، تخلت الدولة عن جزء كبير من الدور الذي كانت تشغله اقتصاديا واجتماعيا بفعل الضغوط القادمة من المؤسسات المالية الدولية نتيجة للأزمة الاقتصادية التي أثرت على غالبية الأنظمة السياسية العربية، وهو ما أدى إلى خفض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية وبرامج الرفاهية الاجتماعية، نلمس هذا بشكل جلي بالمغرب بعد انتهاج سياسة التقويم الهيكلي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، مما أفسح المجال أمام شريك آخر كي يتحمل جزءا من مسؤولية الخدمة الاجتماعية وهو المجتمع المدني، خاصة وأن تلك الضغوط الاقتصادية صاحبتها تحولات ديموغرافية واجتماعية فرضت احتياجات جديدة، فضلا عن النمو الحضري الذي لم تواكبه تنمية اقتصادية. وقد أشفعت كل تلك التحولات بالدور الذي لعبته المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والذي تجاوز مجرد الضغط من أجل تطبيق برامج التحرير الاقتصادي والتكيف الهيكلي إلى البحث عن فاعلين جدد غير حكوميين يتم التعامل معهم، إضافة إلى الدور الذي لعبته الأممالمتحدة للتأكيد على ضرورة مشاركة المجتمع المدني في صياغة الخطط التنموية ووضع السياسات الاقتصادية. وبالفعل، اتجهت هذه المؤسسة إلى التعامل بشكل مباشر مع المنظمات غير الحكومية أو هيئات المجتمع المدني لسد الفجوة التي تركتها الدولة، إنقاذا لضحايا التحرير الاقتصادي. وبالمغرب ومع مجيء حكومة التناوب، في تسعينيات القرن الماضي وتدشين مؤسسات رسمية لحقوق الإنسان، ابتداء بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم، وترسخ هذا التوجه مع إطلاق المفهوم الجديد للسلطة المبني على محاولة إعطاء الأولوية للتنمية البشرية والاقتصادية، تأكد هذا المنحى مع تصاعد الحراك الاجتماعي العربي الإقليمي والوطني الداعي إلى تحقيق الديمقراطية وإسقاط الفساد. ولقد جاء الدستور المغربي لسنة 2011 ليشرعن تمكين المواطن المغربي من المشاركة في صناعة القرار العمومي عبر مجموعة من الآليات، حيث سعت الدولة بكل هذه الإجراءات إلى التنازل عن بعض اختصاصاتها أو، على الأقل، إلى إشراك الفاعلين المدنيين في بعض المجالات. وهذا يأتي في سياق عالمي لتراجع الديمقراطية التمثيلية نتيجة لتزايد عيوبها، وبروز الديمقراطية التشاركية، المبنية على الإشراك اليومي للمواطنين في تدبير شؤونهم والحق في الحصول على المعلومة، والتوزيع العادل للمرافق العمومية على عموم التراب الوطني، والمساواة في تقلد المناصب العمومية، والشفافية والمحاسبة وحكم القانون والنزاهة وخدمة المصلحة العامة، والمساواة بين المواطنين في الاستفادة من خدمات المرافق العمومية. فقد ميز دستور 2011 بين كل من دور المجتمع المدني كمؤسسات وهيئات منظمة ومعترف بها، ودور المواطن الفرد في المشاركة في صناعة القرار العمومي، والتي هي "اختيار واع اتخذه الفاعل (فرد أو مجموعة) من بين مجموعة من الاختيارات التي تعرض أمامه بشكل علني بهدف حل مشكلة ظهرت أثناء المناقشة"؛ فعلى مستوى علم السياسة، يظهر الاهتمام الحديث بموضوع القرار منطلقا من مفاهيم أساسية، أهمها: الإرادة العامة والنشاط العام، حيث يقدم فقهاء القانون الدستوري مقاربة قانونية مؤسساتية لعملية صناعة القرار التي ارتبطت لفترة طويلة بمؤسسات الدولة. عبد الله شخمان *أستاذ باحث