في الجزء الثاني من الحوار المطول مع الكاتب العالمي الطاهر بنجلون يؤكد بأن الربيع العربي مازال مستمرا، وأنه لابد من الاعتراف بحرية الفرد ووجوده وتقدير لصوته ودوره الأساس في بناء الدولة الحديثة. كما أشار إلى أن العدو الكبير الذي ينخر المغرب هو الرشوة معتبرا إياه والمافيا أختان. ومن تم أكد على ضرورة تطبيق القانون وعدم لجوء المواطنين إلى شراء حقوقهم بالمال، فهم يساهمون بهذا السلوك في تخريب بلادهم. أما بخصوص تجربة الأحزاب ذات المرجعية الدينية في الحكم فقال عنها بأنها فشلت في بلدان كثيرة، بما فيها تجربة الديمقراطية المسيحية في إيطاليا التي تبين أنها كانت تتعامل مع المافيا. من جهة أخرى أبدى بنجلون إعجابه بالدستور التونسي الجديد، ودعا إلى النضال من أجل الوصول إلى دستور في مستواه. - ولكن ماذا عن مساهمة المثقفين والكتاب في تغيير هذه الصورة؟ لحسن الحظ فقد كتب عدد كبير من المثقفين والكتاب والصحافيين عن هذه المشاكل ودعوا إلى حلها، وتناولوها بطرق مختلفة. ولكن لا أحد سمعهم. المثقفون يقومون بدورهم. لكن فضيحة تشويه الصورة العربية وتشويه الكائن الثقافي العربي تبقى أمرا واقعا. ثم زد على ذلك فالغرب هو الآخر يقبل الصورة المروجة عنا بسهولة، ولا يسعى إلى تغييرها. فبالرغم من وجود علاقة دبلوماسية وما إلى ذلك فإنهم لا يقدروننا. فهم مثلا لما يستقبلون أهل الخليج، لا يرون فيهم إلا مصالحهم. - وماذا بعد «الربيع العربي»؟ الربيع العربي مازال قائما، ولكن في الوقت نفسه، نرى أن هناك صراعا كبير بين ما أسميه الحداثة والخوف من الحداثة ف»حرية الفرد» غائبة. مازال الشخص كفرد لا أحد يعترف به. لابد من الاعتراف به كمواطن ومكون للدولة. في العالم العربي ما هو مهم ليس الشخص وإنما القبيلة. إن الاعتراف بالشخص يعني الاعتراف بحريته ووجوده وتقدير لصوته ودوره الأساس في بناء الدولة الحديثة. إن الثورة الفرنسية لسنة 1789 هي التي أعطت وجودا للفرد. وأعطت الإمكانيات للشعب الفرنسي كي يدخل في معمعة الحريات العامة وحقوق الإنسان. إن ما يسمى بدولة الحق ولدت من رحم الثورة الفرنسية. ونحن في المغرب نحاول أن يكون للدولة وجود فعلي . لكن للأسف هناك عقليات لم تتقبل بعد بذلك. - كان هناك في فرنسا عصر للأنوار فما هو المانع الذي يجعل من المثقفين من كتاب وشعراء..أن يهيئوا لعصر أنوار في العالم العربي؟ يضحك، لكي تهيئ نفسك لعصر للأنوار يجب أن تستيقظ باكرا. وأن تكون مجندا لذلك منذ سنين وسنين. وتتوفر لك الإرادة القوية جدا لذلك. كما يجب أن تكون على استعداد للنضال الطويل. لكن للأسف هذا غير متوفر عندنا. بل أكثر من ذلك فحتى فكرة الوحدة العربية لم تعد موجودة. فلما تتحدث مع التونسي، يقول لك إنه تونسي، والكويتي يقول لك إنه كويتي وهكذا. ففكرة تكوين وحدة عربية يكون لها وزنها في العالم ولها صوت يسمع في العالم لم تعد موجودة، وهكذا صار كل واحد يدافع عن نفسه فقط. نحن الآن في مرحلة الدفاع عن النفس. - في المغرب مثلا هل يمكن أن يكون،هناك دور للكتاب والمفكرين كما كان الحال في فرنسا مع فولتير وغيرهم فبالرغم من كل ما ووجهوا به لم يغيروا من مواقفهم؟ الله يهديك. نحن مازلنا فقط نتحدث عن أشياء بسيطة، مثل هل تصح الكتابة في هذا الموضوع أم لا. هذا حرام.. وهذا ليس كذلك .. فكيف يمكن أن يكون ذلك؟. إن حرية الفكر لم تعد موجودة. أحيانا تخرج من هنا وهناك بعض الأفكار، لكنها لا تستمر لأنه من الضروري أن يكون من ورائها أناس يمكن أن يرعوها ويعطوها وجودا فعليا. وفي جميع الحالات فالمغرب في وضعية أحسن من عدد من الدول العربية. لماذا؟ هذا راجع بكل صراحة للملك الذي أعطى للمغرب انطلاقة قوية تتجه نحو الحداثة. مثل تغيير المدونة، والدستور الجديد وغير ذلك من الإشارات القوية. لقد دخلنا في مسلسل جديد بالنسبة لتاريخ المغرب. وعلى المغاربة أن يكونوا جديين ويشتغلوا. فالملك يشتغل يوميا بدون انقطاع فهو يناضل من أجل الوطن، وعلينا نحن أيضا أن نكون في المستوى ونقوم بالعمل. لكن للأسف مازالت هناك مجموعة من الأمراض التي تنخر جسم المغرب وعلى رأس ذلك «سرطان الرشوة». فالكثير من الناس مازالوا يعتقدون أن مصالحهم لا يمكن أن تقضى إلا بالرشوة، لذلك فهم يقومون بكل شيء من أجل قضاء مصالحهم. هذا خطير. وللأسف فهذه الفكرة شبه راسخة في عقول الناس. والخطير هو أن البعض يمكن أن يخرق القانون ولا يعاقب. علينا أن نقطع مع فكرة عدم احترام القانون وإلى الأبد. القانون هو القانون، سواء أكنت غنيا أو فقيرا، كبيرا أو صغيرا . ولا يمكن أن تشتري حقك بالمال. فإن كان لك حق في شيء ما، فيجب أن يعطى لك، سواء أكان في العدالة أو الصحة أو غيرها. إن العدو الكبير الذي ينخر هذه البلاد هو الرشوة.. هذا ليس معقولا وليس فعلا حضاريا. ولذلك لابد من مراجعة كاملة لتصرفنا حتى نصل إلى احترام أنفسنا. ونقوم جميعا بمحاربة هذه المصيبة الخطيرة جدا على البلاد. سبق لي أن كتبت مقالا أدعو فيه إلى أن نقوم بمسيرة خضراء جديدة ضد الرشوة، وإني أكرر هذا النداء مرة أخرى. إن الراشي والمرتشي تجب معاقبتهما، فالرشوة عندنا مثلها مثل المافيا في إيطاليا. المافيا والرشوة أختان، ولهما العواقب والنتائج السلبية نفسها على البلاد، وتقف في وجه التطور. المسألة شبيهه بالخشب الذي يعاني من السوسة، فمآله طال الوقت أو قصر هو السقوط. وإذا كان المغاربة يحبون الملك فعلا، فيجب أن يتجلى حبهم في محاربة المظاهر السلبية التي تتفشى في البلاد واحترام عمله والأفكار والقيم التي يعطيها، لكي نسير بالبلاد إلى الأحسن. أنا عانيت في ظل زمن الحسن الثاني، وهكذا فإني لما أقارن بين العصرين أجد أننا تطورنا كثيرا. وإننا محظوظون لأنه عندنا مثل هذا الملك. فهو رئيس دولة يؤمن بالحداثة الكاملة وجدي، ويعمل بشكل يومي .. إذن إذا كان الملك يريد إسعاد المواطن، فعلى هذا الأخير أن يكون في المستوى. وأن يحارب الرشوة والنهب والسرقة. كما أشير من جهة أخرى إلى أننا نسينا كثيرا قيم الأجداد، ولم نعد نحترمها. - كنت متخوفا من وصول الإسلاميين، الآن وبعد مدة زمنية من تسييرهم للشأن العام، كيف تقيم عملهم؟ وهل مازلت متخوفا؟ أنا ومن زمان، كنت أقول إن الإسلام يجب أن يبقى في نطاق الدين وأن نحترمه، وألا نستعمله كدرج للوصول إلى الحكم. لابد أن نمنع منعا كليا استعمال الدين كوسيلة وكأيديولوجية للوصول إلى الحكم. - بمعنى أنك ضد أن تكون عندنا أحزاب ذات مرجعية دينية، وأن تتقدم الأحزاب إلى الانتخابات بناء على برنامج اقتصادي اجتماعي؟ يجب أن يبقى الإسلام بعيدا عن السياسة، ولا يجب أن يستعمل كوسيلة دعائية للحصول على أصوات الناخبين، فالإسلام دين وقيم وروحانية يجب أن نحترمها، وعلينا أن نكون في مستواها. أما عندما نكذب على العباد ب»خرافات» ووعود، ونعتمد على الدين لأغراض أخرى، فهذا يجب القطع معه. أما بخصوص حكومة بنكيران الأولى والثانية فأرى أنها لم تحقق الكثير من الوعود. وأعتقد أن سبب ذلك أنهم لم يكونوا مهيئين من الناحية التقنية للحكم. فعندما يكون هناك خلط بين «المهنة السياسية» التي هي شيء وبين القيم الدينية، تكون هناك صعوبة في تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع. - إذن أنت تريد القول بالفصل بين ما هو سياسي وما هو ديني؟ الدين يوجد في قلب الإنسان. كما أنه لا يجب أن يستعمل المرء إيمانه لإغراض سياسية وحزبية. هذا موقفي من زمان. ولهذا فإننا نحترم الدين ونحترم أفكار المواطن كيفما كانت، وإلا فإننا سنعيش تحت رحمة ديكتاتورية الفكر. - تعني أنه لابد من حرية التفكير والاعتقاد؟ معلوم. التوانسة في هذا الباب تجاوزونا كثيرا فيما يخص دستورهم الجديد. إنه دستور ممتاز، لأنهم أكدوا فيه على المساواة بين المرأة والرجل، كما أفسحوا المجال فيه لحرية الاعتقاد. وهذا شيء جديد. ولذلك علينا أن نناضل من أجل أن نصل إلى هذا المستوى. - هل يمكن أن نقول إن حكومة بنكيران فاشلة؟ لا لا.. ليست عندي معلومات كافية للحكم عليها بصفة موضوعية. لكني أقول مبدئيا، إن الإسلاميين فشلوا في البلدان التي وصلوا فيها إلى الحكم. مثلا الإخوان المسلمين في مصر فشلوا، في الأردن أيضا فشلوا. الدين يجب أن يبقى خارج الحكم. لكني لا أحكم على بنكيران بالفشل لأنه ليست لدي معلومات كافية. ما أعرف هو أنه واجهته عراقيل في الحكومة الأولى، حتى انسحب حزب الاستقلال ..وفي الانتخابات القادمة سنرى ماذا سيقول المغاربة. ولكن أتمنى ألا تشارك الأحزاب التي تعتمد على الدين في الانتخابات المقبلة. - بهذا المعنى فإنك تحب أن تتقدم الأحزاب إلى الانتخابات على أساس برامج اقتصادية واجتماعية وليس اعتمادا على دعوات دينية؟ نعم فالتجارب في هذا المجال محكومة بالفشل. فقد كانت في إيطاليا الديمقراطية المسيحية، لكنهم اكتشفوا أنها كانت تتعامل مع المافيا وهكذا فشلت. - كتبت أخيرا عن السعادة الزوجية والاستئصال و.. يضحك، الأدب يبقى هو الأخير.. -البعض يقول إن الطاهر بنجلون يبقى بعيدا على الوضع السياسي في كتاباته لماذا؟ أنا لا أكتب أدبا سياسيا. إني أتناول بعض ما يعيشه المجتمع وأكتب عنه. فمثلا كتاب «السعادة الزوجية»، فقد تناولت فيه قضية تهم المجتمع وخاصة بعدما تغيرت المدونة في المغرب. فقد لاحظت أن هناك ارتفاعا مهولا في نسبة الطلاق وبالأخص عندما أصبح للنساء الحق في ذلك. وهذه الظاهرة بدت مؤرقة ولذلك فاني تناولتها. المجتمع بدأ يتغير. اليوم انتشر الطلاق بشكل كبير ويخلق مشاكل جديدة في المجتمع المغربي، وعلى هذا الأساس كتبت عن هذا الموضوع. - كنت في لجن تحكيم للأفلام المغربية، فما هو تقييمك لها وبكل صراحة؟ بصراحة ليست لدي معلومات كافية. شاهدت تقريبا سبعة أفلام. أعجبني فيلم»هم الكلاب». والممثل كان ممتازا. ولكن لا يمكن أن أقدم حكما كاملا عن السينما المغربية. لأني لم أشاهد كل الأفلام. شاهدت فيلم «زيرو» و»كازانيكرا». العنف الموجود في هذين الفيلمين موجود في المغرب. لكن حينما نجده مختصرا في ساعة ونصف يقول المشاهد إنه مبالغ فيه. لكن في الحقيقة، هناك عنف في المدن مثل الدارالبيضاء. المدن الكبرى دائما تخلق عنفا خاصا بها. في هذا الصدد أغتنم هذه الفرصة لأشير إلى المشكل الخطير الذي نعيشه، وهو ليس مشكلا سياسيا ولكنه مشكل أخلاقي . إن الأمر يتعلق بهذا الكم الهائل من الجرائم التي تقع في الطرقات المغربية. إني أسميها جرائم، لأن الإنسان عندما لا يحترم قانون السير ويغامر بحياته وحياة الآخرين، فهذا في عمقه إجرام ينتج عنه عدد كبير من الضحايا قتلى وجرحى ومعطوبين، فجل الأسر المغربية اكتوت به. علينا أن نحارب هذا الإجرام. سابقا تكلمت عن مسيرة خضراء ضد الرشوة، والأمر كذلك بالنسبة لحرب الطرقات، فلابد أن نقوم بمسيرة أخرى ضد هذه الجرائم. لقد تجاوزنا في هذا الإطار فرنسا. ففرنسا التي عدد سكانها يتراوح ما بين 67و70مليون نسمة، ولها طرقات متعددة وصل فيها عدد القتلى إلى 3000 قتيل في السنة. وأذكر أنه في 1971لما هاجرت إلى فرنسا كان العدد يصل إلى 13 ألف قتيل. لكن الدولة قامت بمحاربة الحوادث وتقليص عدد الضحايا ومازال العمل قائما من أجل تخفيضه. وقد حدث ذلك من خلال تربية السائقين والاعتماد على الإشهار واستخدام وسائل الإعلام لهذا الغرض.. - وماذا عنا نحن؟ أما نحن فإننا نرى ضحايا تسقط يوميا ولا نحرك ساكنا. هذه فضيحة. فكل الأسر المغربية سواء في البادية أو المدن تعاني من مخلفات حوادث السير. ولهذا يجب أن نحاربها. وأشير إلى أنه إذا بحثنا في الواقع عن السبب العميق لهذه الحوادث سنجد أنه راجع إلى الرشوة. لأنه عندما يشترى الشخص رخصة السياقة، وينطلق في الطريق حتى دون أن يعرف السياقة، فمعنى هذا أنك تدفعه إلى قتل الناس في الطرق والشوارع. وأعرف أن أشخاصا اشتروا رخص السياقة. الناس تنقصهم التربية، ولا يحترمون القانون. فإذا كنا نعيش مع بعضنا فيلزم أن نحترم القوانين. ويجب ألا نتعسف على بعضنا البعض. إننا لا نعرف كيف نتعايش مع بعضنا. وهكذا فإن النتيجة هي ما يقارب 4000من القتلى، إلى جانب العدد الكبير من الجرحى والمعطوبين.. التربية هي الأساس. منذ شهر ونصف تقريبا تم اغتيال سيدة من العائلة، إذ ألقوا عليها حجرا كبيرا في طريق الجديدة. كما أن السلوك نفسه تكرر في الطريق الرابط بين الرباطوالدارالبيضاء. أليس هؤلاء مجرمين؟ وارتفاع جرائم الطرقات ناتج أيضا عن الجهل وعدم الوعي، وهناك كراهية كبيرة للآخرين. ومن خلال هذا الواقع يبدو أننا نسير نحو التشتت وليس نحو التعايش.