حتى وإن كان منتظرا منذ مدة، فإن رحيل الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز عن سن 87 سنة، يمنح نفسا آخر لهذا الكاتب الذي بدأ حياته الأدبية من العاصمة الكولومبية بوغوطا، في زمن الديكتاتوريات المقيتة، كصحفي روبورتاجات وتحقيقات في صحيفة صغيرة، سرعان ما سيشد إليه الانتباه بفضل التحقيقات المدوية التي كانت تفزع وتخيف رموز النظام العسكري في بلده. ففي تلك السنوات الصعبة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي تحول ماركيز وغيره من رفاقه في كولومبيا وبلدان أمريكا اللاتينية، التي كانت ترزح تحت نير الديكتاتوريات، إلى ظاهرة ثقافية وسياسية وإعلامية مؤثرة. واستطاع هؤلاء المثقفون أن يكونوا في الصف الأول لشعوبهم، معبرين عن الحاجة القصوى إلى الحرية والديمقراطية. فماركيز لم يمارس الصحافة ولا الكتابة الروائية للربح أو للفرجة أو لتزييف حقائق التاريخ ولا للتستر على ناهبي ثروات شعبه أو لتبرير الفساد وجعله يتجذر أكثر، بل مارس الفعل الإبداعي والعمل الصحفي انطلاقا من الإحساس بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، باعتباره ابن شعب فقير يجري استرقاقه يوميا في معتقلات العمل الكبرى وتحت نير التسلط الأعمى للطبقات الحاكمة. في كل أعماله كان هذا الكاتب المدوخ يتمتع بتلك العين اليقظة، وظل أسلوب التقرير الصحفي يرافقه في متونه الروائية، رشيقا وممتعا ومدهشا ومؤثرا فكريا وأخلاقيا. وبقدر ما حكى عن الشعب وعن الحب وعن طاقة العشق، حكى أيضاً عن الحرية وفن الحياة، وجعل مركبا الخير والشر يبحران معا في نفس اللجة، لكنه في كل ذلك لم ينس الديكتاتور، لقد قام بتشريحه من الداخل بمبضع الجراح الماهر. كان بفضل مراسه السياسي يعرف نفسية الديكتاتور المنهزمة، لذلك دفع قراءه في جميع أنحاء العالم إلى عدم الانخداع بالنياشين الثقيلة ولا بالأوسمة البراقة ولا بالرتب العسكرية التي يمنحها الديكتاتور لنفسه في لحظات الجنون الأعمى. ونبه القراء إلى أن الديكتاتور، الذي لا يتورع عن التجني على حرمة البحث العلمي بأن يخلع على نفسه الرتب العلمية الفخرية حتى ينضم إلى مصاف العلماء، قد يركب حيلا غاية في السذاجة، بأن يتظاهر بأعمال البر الإحسان، حتى ينظم إلى فلك الفضلاء. وهو رغم المظاهر الخداعة التي يتلون فيها، والعطاء الزائد لحاشيته ليكسب ولاءها، والهراوة الغليظة التي يستعملها في حق معارضيه، يعيش حياته قلقا مفزوعا مرهوبا متوجسا، وليس هناك ما هو أكثر قسوة، حسب ماركيز، من وحدة الديكتاتور. في كل أعماله، جسد ماركيز هذا المنحى الراديكالي في الكتابة وفي الإيمان بالشعب، ولو أراد أن يبيع معتقداته أو يتاجر فيها لكان مجرد ورقة رديئة مرمية في مزبلة التاريخ. انظروا إليه في إحدى أقصر رواياته «يوميات بحار غريق» كيف جعل من مجرد غرق سفينة تجارية لنقل البضائع تابعة للحكومة الكولومبية في عهد الديكتاتور، بابا لكشف الفساد المستشري في النظام الحاكم القائم على التهريب، حيث تتحول الدولة من حامية للاقتصاد الوطني إلى «المهرب الأول». الحكاية سيرويها البحار الوحيد الناجي الذي كان على ظهر السفينة، والذي حولته الحكومة الفاسدة في محاولة لإرشائه إلى «بطل قومي». لكنه في لحظة صحوة ضمير، سيحكي للصحافي الشاب، الذي كان يتعقب القصة، الرواية الأصلية. لاحقا، سيلتقي الكاتب الفعلي، كما في الرواية، بالبحار، كانت قد نزلت عليه لعنات الحكومة بعد اعترافاته تلك، ليتحول من بطل قومي إلى مجرد شحاذ في طرقات بوغوطا. يعلمنا ماركيز شيئا مهما وثمينا، أنه مهما كانت درجة تعتيم الأنظمة القمعية والشمولية والاستبدادية سيأتي لا محالة من يقول الحقيقة، وهذا هو الخيط الناظم الذي يلخص كل أعمال ماركيز وأدبه المقاوم. كما أنه يؤكد على حقيقة أخرى: لا تنخدعوا بعيون الديكتاتور المطبقة، فالديكتاتور لا يستطيع أن يحلم!