أحيانا يراودنا شعور بإلقاء تحية الصباح على أول شخص نلتقي به. هكذا ولمجرد كسر الجليد والذهاب نحو الآخر بدون أحكام مسبقة وبدون مصلحة معينة. فقط تحية صباحية لتذكير الآخرين بأنهم موجودون بيننا ولديهم حضور، وأننا نفكر فيهم رغم أننا لا نشترك معهم أية علاقة أخرى غير باب مقابل لبابنا في العمارة، أو نظرة عابرة في حافلة عمومية، أو زحاما في صف أمام مستشفى. تحية إذن للسجين الذي سيغادر زنزانته هذا الصباح دون أن يجد أحدا بانتظاره أمام الباب. للأم التي تحمل طفلها المحموم فوق ظهرها وتقف حائرة أمام باب المستشفى الحكومي بانتظار دورها للدخول، دون أن تدري أن اليوم يوم إضراب عن العمل. للبنت المرتبكة التي يوشوش لها مستخدمها في مصنع النسيج كلاما وقحا في أذنها بينما هي تتحمل وتشتغل خافضة رأسها وتفكر في دواء والدها المريض بالربو. للعسكري الذي لم ير أبناءه أشهرا طويلة، والذي عندما يشتاق إليهم يخرج صورهم من جيبه ويقبلهم واحدا واحدا ثم يعتدل في وقفته تحت الشمس حتى لا يمر جنرال ما ويضبطه متلبسا بتهمة الحنين. للموظف البسيط الذي ينتظر الساعة السادسة لكي يذهب إلى باره المفضل لكي يغرق بقية يومه في الشرب، وحيث يحكي قصة حياته للمرة الألف للبارميطة السمينة التي تبتسم طيلة الوقت من فرط التعاسة. للحارس الواقف ليلا أمام أبواب الشركات الرأسمالية المتوحشة، لسيجارته الرخيصة التي تتدلى من شفتيه، ولكأس الشاي البارد الذي يقاوم به وحشة الليل وقسوة الطقس. للعاهرة التي يحكي لها زبونها ثقيل الدم نكتة سخيفة في مطعم تافه، فتضحك بتصنع إلى أن تسعل وتغرورق عيناها بالدموع، فتتوقف فجأة وهي لا تدري هل الدموع التي في عينيها بسبب الضحك أم بسبب الحزن. للخادمة الشقية التي تشاهد بطلتها المفضلة في المسلسل المكسيكي وتبكي بحرقة بسبب ما يحدث لها، ما يحدث للبطلة في المسلسل طبعا وليس للخادمة في بيت سيدتها. لسائق الشاحنة المسافر نحو مدينة بعيدة في الجنوب، إلى ظهره المبلل بالعرق ولنظرته الضائعة في الغروب، لصوت المذياع الذي يصاحبه ولامرأة وحيدة تركها خلفه يفكر فيها طيلة الطريق. للقاضي الذي يبدأ نهاره بتطليق زوجين. للطبيب الجراح الذي يفعل كل ما بوسعه لينقذ طفلا مريضا فيفشل في إعادته إلى الحياة، ويعود منكسر الخاطر إلى البيت في المساء، يحتضن أطفاله بين ذراعيه ويفكر في أم الطفل الذي مات أمامه هذا الصباح، ماذا تراها ستحضن بين ذراعيها بعد اليوم. للممرضة التي يرتعش قلبها عندما تصلها رسالة غزل من خطيبها على هاتفها النقال، وفي الوقت نفسه تصلها آهات امرأة ترقد في جناح القلب. لشرطية المرور الغاضبة من وقفتها تحت أشعة الشمس التي تفسد بشرة وجهها، ومن بعض الرجال الذين يفسدون مزاجها ولا يعيرون اهتماما لصفارتها. للجنرال العجوز المشغول طيلة الوقت بمراجعة حسابه البنكي، حيث العائدات الشهرية لأساطيله، لضغطه العالي وسرطان البروسطات الذي يزحف نحوه مثل عنكبوت عجوز، للياليه الفارغة من الدفء وقلبه المهجور الذي لم يعد يطرقه أحد. للثري الذي يقضي حياته خائفا من الفقر، وللفقير الذي يقضي حياته حالما بالثروة. للرجال والنساء المسنين الذين تخلى عنهم أبناؤهم في دور العجزة، لجلستهم الطويلة تحت الشمس فوق مقاعد إسمنتية، لنظراتهم الضائعة عندما يسمعون أن أحدهم لم ينزل هذا الصباح للحديقة لأن سيارة نقل الموتى أخذته إلى مقبرة الضاحية. للصياد الوحيد الذي يدخن لفافة تبغه أمام البحر ممسكا قصبته التي تحركها ريح المساء، منتظرا أن تبتلع طعمه سمكة في المحيط قبل أن يحل الظلام، لخطواته المتعبة وهو يعود إلى البيت من دون صيد، سعيدا مع ذلك بنفسه لأنه أعاد سمكة صغيرة إلى البحر. للمرأة رقيقة الصوت التي تعتذر نيابة عنا في الهاتف عندما لا نكون متوفرين. للعلبة الصوتية التي تسكن داخلها، مرتاحة الصوت رغم الضيق. للمؤذن الذي يصعد صومعته ساعة الفجر لكي يوقظ النائمين للصلاة، لصوته الرخيم الذي يدغدغ المسامع، ولخجلنا الشديد من أنفسنا عندما يصل إلى آخر الأذان ويقول «الصلاة خير من النوم»، فيما نحن غارقون في النوم. للمعلمة الشابة التي تتسلق الجبل لكي تصل مدرستها التي عينتها فيها الوزارة، لجلستها الحزينة في الفصل بعد ذهاب التلاميذ إلى بيوتهم، للأرقام العشوائية التي تركبها على هاتفها وتتصل بها ثم تقطع، لعل وعسى يتشجع أحد ويكلمها فتشعر أخيرا بأنها موجودة في هذا العالم. للواقفين في الصفوف الطويلة لطالبي التأشيرة نحو الغربة في المدن الحزينة، لقلقهم الصباحي وهم ينتظرون جوازاتهم، لحقائب سفرهم التي جمعوها منذ سنوات طويلة، لأملهم في وطنهم الذي خاب. للجالسين في قاعات الاستقبال في انتظار نتائج تحاليلهم، للقادمين من القرى البعيدة إلى العيادات بدون إفطار من أجل الفحص، للداخلين هذا الصباح إلى جناح الجراحة. للذين يستعدون هذا الصباح لركوب قارب باتجاه الضفة الأخرى للحياة، للذين تطفو جثثهم الآن فوق مياه المضيق، للذين وصلوا فقط لكي يدفنوا في مقابر الغرباء. لساعي البريد الذي يترك لنا الرسائل تحت الباب دون أن نراه، لرجل النظافة الذي يمر في الفجر بصمت لكي يفرغ سطل القمامة. لفصل الربيع الذي يزورنا هذه الأيام، لكل الورود التي ستنفتح فوق الروابي، لكل الأعشاب البرية التي ستنمو فوق قبور الأحبة الراحلين. للوطن الجريح، لأبنائه الذين ينامون على رصيفه، لأبنائه البعيدين الذين يبعثون إليه بمصروف الجيب كل شهر، لأبنائه اليائسين الذين يحرقون كبده بين وقت وآخر. إليهم كلهم، وإلى كل الآخرين أيضا...