يحكي شريط سينمائي فرنسي بديع، إلى كان عقلي ينفعني، قصة بلدٍ مُتَخَيَّل قررت حكومته إحراق الكتب، كل الكتب بدون تمييز، فالتهمت النيران أحلام الشعراء وقصص الرواة واجتهادات المفكرين والعلماء والفلاسفة. لكن محاولة محو الذاكرة الإنسانية باءت بالفشل الذّريع حين توصلت مجموعة من المقاومين إلى حلّ يتمثل في أن يحفظ كل فرد منهم عن ظهر قلب كتابا بحذافيره. وتخلى المقاولون عن أسماء الكتب التي يحفظونها ويستظهرونها في كل لحظة وحين حفاظاُ عليها من مغبَّة النّسيان. في السبعينيات المغربية، صادرت الحكومات المتعاقبة الكتب والأدبيات التي تحمل أفكارا «هدّامةّ» في نظر تلك السلطات. وهكذا كانت تتِمُّ مطاردة الكتب الماركسيّة اللّينينية أو الماوية، وحتى الكتب الآتية من أمريكا اللاّتينية وغيرها، وجاء الدور اليوم على الكتب الشيعية. وفي هذه الحالات، اعْتُبِر امتلاك تلك المؤلفات بمثابة صَكّ اتهام يؤدي بصاحبه إلى التهلكة. وفي نفس الحالات، لم يتفضل أيّ مسؤول حكومي ولم يتواضع لكي يشرح لنا أسباب النزول، ويوضح طبيعة الأخطار المحدقة بنا إذا ما غامرنا بمطالعة هذه النوعية من الكتب التي سُمِح بنشرها وتوزيعها والتشجيع على قراءتها في فترات زمنية محددة قبل أن يتم حَظْرها وملاحقة قرائها في أوقات لاَحقة. اطلع تقرا الكتوب نزل شكون قالها ليك. قِيل لنا، على امتداد عقود، إن المغرب أرض التسامح والتعايش مع كافة الأديان والمذاهب والكتب السماوية وحتى مع الثقافات الأخرى، لكن العجيب.. أين اختفى هذا التسامح؟ ربما ليفسح المجال لحرب شرسة وهجوم عنيف على كتب بعينها. ولعلّ الجواب، الأقرب إلى «المنطِقْ»، عن تساؤلاتنا هو أن هذه الحكومة حريصة على صحتنا العقلية والفكرية، لذا فهي تنصحنا باتباع حِمْيَة (رجيم) تقينا من كولِسترول هذا النوع من الكتب، وقد سبق لحكوماتنا أن حاربت و«اعتقلت» كتبا سنية، كل واحد يتسنى نوبته. ولعل الأمور لن تتوقف عند هذا الحد، خصوصا وأن تاريخنا يُعيد نفسه باستمرار عكس ما يعتقده كارل ماركس الذي جزم بأن التّاريخ لا يعيد نفسه أبداً. (ولكن التاريخ ربما يُعِدُّ نفسه) ففي عهد وزير داخلية «قوي جدّاً» بظلمه، صدر أمر بمنع كافة المحلات الثقافية المغربية دفعة واحدة. وقد «نجح» الوزير «الواعر»، على ما يبدو، في خلق تقليد اتبعه الخلف، على ما يبدو، بل وأبدع فيه أيَّما إبداع. فعِوضَ منع الصّحيفة والمجلة، يتمُّ منع الصّحافي نفسه من الكتابة لعدة سنوات، أو يتم إغراق المنشأة الصحافيّة الناشئة في بحر متلاطم الأمواج من الغرامات الغليظة والثقيلة، وذلك للقضاء عليها...ولعلهم يخططون لمتابعتها بتهمة جديدة تُسََمّى «الشِّيُعُوعِيَّةّ»، أي خليط كيميائي عجيب من الشيوعية والشيعية. وحتّى لا نظلم أحداً، فإنَّ أرض التسامح والتعايش تتسامح إلى حدّ مثير للاندهاش مع عشرات المنشورات الأجنبية التي تغرق أكشاكنا يوميّاً والتي تخصصت في الهجوم المنهجي والعنصري الفاضح على الإسلام والمسلمين في كل أٍجاء العالم، وتفننت في تبخيس حضارتهم والعمل على شيطنتِها، وتقديم «الحضارة» الصهيونية كبديل وكمحاور وحيد أوحد للغرب. والأدهى من ذلك ما تنشره مجلات أسبوعية باريسية ذات ورق صّقيل وذات توجه صّهيوني مسموم. وقد تصدّى لها بعض الشرفاء من الكتاب الفرنسيين لفضح عنصريتها البغيضة. ولكن هذه المَزلاّت، «بغيت» نقول المجلاّت، تحظى بالدّعم المادي والمعنوي من أرض التّسامح التي لا تحسن دبلوماسيتها القطيعة إلا مع أقطار تبعد عنها بآلاف الكيلومترات، وتفضل أن تعوم في «بحرين» عوض أن تعُوم في بحرها. والخوفُ من أن تستفحل ظاهرة القطيعة مع دول الشرق والغرب إلى درجة سنفيق معها ذات صباح لنجد أنها قطعت علاقاتها مع المغرب.. الشقيق، إذا لم تكن قد قطعتها منذ زمن بعيد!