كلما ركبت الطائرة في اتجاه باريس لا أنسى أن أحمل معي الجرائد المكتوبة بالعربية، لأن الخطوط الجوية الفرنسية والمغربية، على حد سواء، لا تقترحان على الركاب سوى الصحف المكتوبة بالفرنسية، لأسباب مجهولة. وكل مرة ألاحظ إقبالا كبيرا على اليوميات العربية، إلى درجة أن الصحف التي أحملها معي لا تكف عن التجول بين المقاعد والركاب طوال الرحلة، لذلك أتوجه من هذا المنبر إلى جمعيات «الدفاع عن اللغة العربية» بأن تنقل معركتها إلى «السماء» كي لا أظل وحدي أؤمِّن هذه الخدمة لزبناء بنهيمة الكرام، خصوصا أن الموقف يصبح مزعجا في بعض الأحيان، كما حدث الثلاثاء المنصرم. كعادتي، بعد أن حشرت «الصاكاضو» في المكان المخصص للحقائب داخل الطائرة، وضعت حزمة جرائدي أمامي وشرعت أقرأ كي أطرد الخوف، وأنسى أنني في السماء ويمكن أن أكمل المشوار إلى أعلى في أي لحظة... ما إن أقلعت الطائرة حتى فوجئت بالشاب الذي يجلس قربي يدس يده بين صحفي، مثل لص، ويختار العنوان الذي يناسبه دون أي حرج. بدأ ب«المساء» ثم عرج على «أخبار اليوم» و»الأيام»... صنع ذلك بعفوية مدهشة، دون أن يطلب إذنا من أحد، إلى درجة أجبرتني على الابتسام، فيما ظل هو يقطب جبينه طوال الرحلة، كأنه يستعيد كل مرة شيئا سرق منه، أو كأن الأخبار التي يقرأ تزعجه أكثر من اللازم. حاولت أن ألتمس له العذر: ربما فكر أن الصحف الموجودة في الطائرة ملك للجميع أو اعتبر -لأسباب لا تخلو من وجاهة- أنه ليس مجبرا على طلب الإذن كي يقرأ يومية مغربية، لو كان الأمر يتعلق ب«لوموند» أو «لوفيغارو»، لاختلفت القصة... بالقرب منه، تجلس زوجته في حجاب تركي أنيق، كأنها هاربة من «حريم السلطان». ما إن ينهي صحيفة حتى يمد إليها بها ويأخذ أخرى، بعد أن عرجا على كل الجرائد، أخرجا قلما وشرعا يفتكان بالكلمات المتقاطعة في حماس منقطع النظير. فكرت أن ألقنه درسا في «الأدب الكلاسيكي»، بأن أقول له «شكرا» حين يعيد الجريدة إلى مكانها أو أطلب منه إذنا قبل أن أفتح إحداها على سبيل السخرية، لكنني عدلت عن ذلك، بعد أن تذكرت ما كان يردده أحد الفكاهيين الفرنسيين: «أتجنب الحديث مع الأغبياء كي لا يتعلموا مما أقوله»، ثم إنني وجدته كثير الانسجام مع جهالته، ولم أرد أن أنغص عليه هذه النعمة التي مدحها أبو الطيب المتنبي قبل قرون: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله // وأخو الشقاوة في الجهالة ينعم»... ضحكت وأنا أتذكر موقفا طريفا مع صديق بخيل. كنا نثرثر بشكل حماسي في أحد المقاهي وكان أحدنا يضع «مارلبورو» على الطاولة، فجأة رفع البخيل السبابة والوسطى وهو يطلب سيجارة بصوت خفيض، أشعل له صاحب العلبة واحدة بمنتهى اللياقة، قبل أن يستمر في الحديث. بعد خمس دقائق، كان النقاش مايزال حاميا حين رفع البخيل أصبعيه مجددا يطلب سيجارة أخرى، دون أن يتكلم هذه المرة، مد له صديقنا العلبة وهو يواصل الكلام الذي طال لأكثر من ساعة، وخلال ما تبقى من الحديث كان البخيل يمد يده مباشرة إلى العلبة ويدخن بشراهة دون حرج. فجأة، نهض صاحب «المارلبورو» وودعنا دون أن يأخذ معه ما تبقى من سجائر، وبعفوية مد له البخيل العلبة قائلا: «نسيتي الباكية ديالك؟» وما كان من صاحبنا إلا أن رد عليه في خليط من الضحك والغضب: «منين جاتني؟ الباكية ديالك هاديك ماشي ديالي!». وانصرف إلى حاله، تاركا بخيلا في غاية الإحراج وطاولة بكاملها تهتز من الضحك!