عبد الباري عطوان لا نفهم هذا التضارب في المعلومات والمواقف حول مسألة ترشح المشير عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش والرجل «الأقوى» في مصر في انتخابات الرئاسة المقبلة، فالرجل ترقى إلى الرتبة الأعلى في الجيش وحصل على تفويض من القوات المسلحة وقادتها ويحظى بشعبية ضخمة تدعمها آلة إعلامية جبارة، فليحزم أمره ويتوكل أو يعلن في خطاب عام بقاءه في الجيش ويترك المجال للآخرين المدنيين واضعا حدا للبلبلة والتكهنات. صحيفة «السياسة» الكويتية قالت، يوم الأربعاء، إن المشير السيسي «سيلبي طلب الشعب» ويترشح للانتخابات التي ستجرى في شهر أبريل على أكثر تقدير، ونقلت عن المشير السيسي، في مقابلة أجرتها معه، قوله: «لقد حسم الأمر، وليس أمامي إلا تلبية طلب شعب مصر، وهو أمر سمعه القاصي والداني، ولن أرفض طلبه وسأتقدم لهذا الشعب بتجديد الثقة عبر التصويت الحر». كلام في منتهى الوضوح ويؤكد ما هو مؤكد حتى الآن، لكن المؤسسة العسكرية (الجيش) قالت، في بيان رسمي: «إن ما نشرته جريدة «السياسة» الكويتية مجرد اجتهادات صحافية وليست تصريحات مباشرة من المشير السيسي، وتم تحميلها بعبارات أو ألفاظ غير دقيقة، خاصة بعد نقلها في مختلف وسائل الإعلام». هذا النفي «غير المفهوم» والذي يعكس غموضا مربكا، يمكن النظر إليه من خلال ثلاث زوايا: - الأولى، أن تكون مؤسسة الجيش منقسمة حول مسألة الترشيح هذه، وأن اتصالات مازالت مستمرة في الغرف المغلقة لإيجاد تسوية لهذه المسألة ووضع حد للانقسام؛ - الثانية، أن يكون هناك خلاف حول شخص خليفة المشير السيسي في رئاسة الجيش، ووزارة الدفاع بالتالي، خاصة أن الدستور الجديد نص صراحة على أن اختيار وزير الدفاع حق شرعي للجيش وقادته؛ - الثالثة، أن يكون المشير السيسي نفسه مترددا في خوض انتخابات الرئاسة ويفضل البقاء في الجيش، ليس فقط لصعوبة المهمة، وإنما أيضا خوفا من تأكيد الانطباع الذي يقول إن ما قام به يوم الثالث من يوليوز هو انقلاب وليس ثورة شعبية؛ وقد أكد لي الأستاذ محمد حسنين هيكل، عندما التقيت به في بيروت في أوائل دجنبر الماضي، أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي أكد له أنه لن يخلع البذلة العسكرية أثناء لقائه به قبل ثلاثة أيام من وصوله إلى بيروت، وأكد أن مدة اللقاء امتدت لثلاث ساعات. الاحتمالات الثلاثة غير مستبعدة، ولا نميل إلى تفضيل أي واحد منها على الآخر، فالطريق ممهد للمشير السيسي للتربع على كرسي العرش في مصر إذا أراد، ولا توجد أمامه أية عقبات، فهو الحاكم الفعلي للبلاد منذ يوليوز الماضي، والباقي «واجهات»، بما في ذلك رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور. سمعت باسم «الفريق أول» عبد الفتاح السيسي للمرة الأولى بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي ببضعة أيام، حيث اتصل بي أحد الأصدقاء من المقربين جدا إلى حركة «الإخوان المسلمين»، وقال لي: اِفتح التلفزيون ستسمع خبرا مهما، واحفظ اسم الرجل جيدا؛ ففعلت فورا، وشاهدت الفريق السيسي يؤدي اليمين الدستورية أمام الرئيس مرسي قائدا للجيش. الصديق نفسه قال لي بالحرف الواحد: «لقد حكمنا وأصبح الجيش المصري تحت إمرتنا.. هذا هو المسار الأخير في نعش حكم مبارك.. المشير طنطاوي.. والفريق سامي عنان.. في ذمة التاريخ.. لقد انتهى حكم العسكر، وبدأ حكم الإخوان فعليا». حركة الإخوان المسلمين، ومرشدها العام، ورئيسها المنتخب محمد مرسي، ارتكبوا أخطاء عديدة، لكن الخطأ الأكبر هو اعتقادهم بأن الفريق السيسي سيكون خاتما في إصبعهم، لأنه يصلي ويصوم ويؤدي الفروض في أوقاتها، ولكن غاب عن ذهن صاحب القرار في الحركة أن الغالبية الساحقة من سكان مصر يؤدون الفروض وأن التقوى لا تعني «الأخونة»، وإلا لكان يونس مخيون، زعيم حزب النور السلفي، هو الحليف الأول للإخوان المسلمين، وليس أكثر المصريين حماسا للانقلاب العسكري وتولي المشير مرسي رئاسة الجمهورية مثلما هو حاصل حاليا. بعد ستة أشهر على الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، يمكن القول إن مصر تعيش في «مناخ أزمة» لم تحجبه «هيستيريا» المشير السيسي والتفاف قطاع عريض من الشعب حوله لأسباب عديدة، أبرزها كونه «المخلِّص» من حكم الإخوان المسلمين في نظر هؤلاء، ولعب الإعلام دورا كبيرا في تكريس هذه الصورة، مثلما لعب دورا أخطر في تعميق أجواء الأزمة بالتالي. الشعب المصري سريع الغضب وسريع الرضى وطيب القلب، علاوة على كونه عاطفيا مثل كل الشعوب العربية الأخرى، عاطفيا في معظم خياراته، ولا بد أن المشير يعرف صفات شعبه جيدا، وهذا ما يدفعه دائما إلى الاعتراف بصعوبة مهمة تولي القيادة في هذا الظرف الحرج. أزمة مصر الحالية تتمثل في حال الانقسام السياسي والمجتمعي، وهي «أم الأزمات» كلها، وتتفرع منها كل المشاكل والأزمات الأخرى، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية الطاحنة؛ وفي ظل حالة «العناد» التي نراها من جانب القوات المسلحة من حيث عدم بذل جهود أكبر لتحقيق المصالحة الوطنية عبر حوار معمق مع الآخر «المُقصى» بضم الميم وفتح الصاد، أي الإخوان، سيظل المستقبل غامضا، فمثلما لا توجد غير الحلول السياسية للأزمة السورية، ليس بديل عنها أيضا في مصر لرسوها على بر الأمان. مصر استعادت كرامتها وحريتها من خلال ثورة يناير المجيدة، ولكنها فقدت هيبتها واختلت بوصلتُها واهتزت هويتها، بعد «الثورة» الثانية في يونيو، ومن يقول غير ذلك يحجب الشمس بغربال مثلما يقول المثل المصري الشهير. التحدي الاقتصادي لمصر معروفٌ وكُتبت فيه المعلقات، لكن التحدي الأخطر والمرتبط عضويا بالتحدي الأول (الاقتصادي) هو التحدي الأمني، وقد يكون العنف والإرهاب في سيناء هو أحد فصوله، لكن الخطر الأكبر هو القادم من الغرب، من ليبيا على وجه الخصوص، فعندما ترضخ السلطات المصرية وجيشها لميليشيا مسلحة وتفرج، فورا وبطريقة مهينة، عن «أبي عبيدة الزاوي»، رئيس غرفة عمليات طرابلس، بعد اقتحام سفارتها وخطف خمسة دبلوماسيين كرد مباشر، هنا الأمر يستحق الكثير من المراجعة للأولويات الأمنية قبل الاقتصادية، أو الاثنتين معا وبالتوازي. المشير السيسي، رئيس مصر المقبل حسب كل التوقعات، يجب أن يدرك أن مصر ليست جزيرة منعزلة عن محيطها العربي، وهذا المحيط ليس دول الخليج فقط، وإنما هناك ليبيا وفلسطين والأقصى وكامب ديفيد، وخطر كبير اسمه إسرائيل أيضا، وهذه الكلمات «المفتاح» هي التي جعلت من «قدوته» جمال عبد الناصر بطلا عربيا وعالميا. عندما يصحح المشير السيسي عقارب بوصلته باتجاه فلسطين وكل العرب الآخرين، ويركز على أولويات الأمن القومي المصري، ويبدأ في ترتيب جبهته الداخلية بالحوار والمصالحة والتخلي عن العناد، يمكن القول إن مصر تسير في الاتجاه الصحيح، سواء كان رئيسا أو قائدا للجيش. أتمنى، في نهاية المطاف، ألا يخلع المشير السيسي بذلته العسكرية، وأن يقود البلاد من موقعه إلى الديمقراطية الحقيقية والدولة المدنية، لا دولة القمع ومصادرة الحريات والقضاء غير العادل، وهذا رأي شخصي لا أتردد في قوله وإن اختلف معي الكثيرون. الجيش المصري يجب أن يظل فوق الجميع، وأن يتمسك بدوره في حماية الأمن القومي لمصر والعرب وجمعيا.