يوم الثلاثاء (21/1/2014) وأنا أكتب هذه المقالة، علمتُ بأن انفجارا وقع بسيارةٍ قادها انتحاري في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت. وفي اليوم ذاته أيضا وأنا أستمع إلى أخبار انفجار الضاحية، والقتلى في اشتباكات طرابلس، علمت بأنّ الغد أو بعده سيحمل أخبارا عن انفجارٍ في منطقةٍ سنيةٍ أو قصفٍ عليها، كما حدث لعرسال بعد انفجارٍ بالهرمل، وكما حدث لطرابلس بعد انفجارٍ بالضاحية! إن التفجير في مقابل التفجير هو الفصل الجديد في مسلسلٍ طويل الأمد بدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وبعده توالت الاغتيالات إلى أن جرى احتلال بيروت عام 2008، فتوقفت أحداث القتل لسنتين ونصف على إثر اتفاق الدوحة، وظهر ال«س + س»، أي المبادرة السعودية لإحداث مصالحة بين بشار الأسد وسعد الحريري الذي خَلَف والدَهُ في زعامة السنّة بلبنان. وقتها، جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز مع بشار الأسد إلى بيروت وجمع بالقصر الجمهوري الأطراف الشيعية والسنية لصنع مصالحة ثلاثية: الأسد + نصر الله + الحريري. وبعد انتخابات عام 2009 والتي فازت فيها قوى 14 آذار بزعامة سعد الحريري للمرة الثانية، شكّل الحريري حكومة وحدةٍ وطنية كان لحزب الله وحليفه الجنرال عون حصةٌ وازنةٌ فيها. لكنّ الإيرانيين ارتأوا عام 2010/2011 هم وحليفهم الأسد عدم السير في المصالحة المرتَقَبة، فأسقطوا حكومة الحريري بانقلابٍ دستوري رجَّح كفتهم فيه النائب وليد جنبلاط والرئيس نجيب ميقاتي صديق الأسد. وتزامن هذا الانقلاب مع زيارةٍ من قبل الحريري للولايات المتحدة لمقابلة الرئيس أوباما، كما تزامن مع صدور القرار من المحكمة الدولية الخاصة في لبنان باتهام أربعة من حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتزامن الانقلاب المذكور أخيرا مع اتفاق أمريكي - إيراني لا يتعرض بمقتضاه الإيرانيون بسوء للانسحاب الأمريكي من العراق، ووضع المالكي في سُدّة السلطة لصالح الطرفين، وعدم تحرش حزب الله بإسرائيل، وإعادة السفير الأمريكي إلى دمشق، والسماح للحزب بالاستيلاء على حكومة لبنان. وما هي إلاّ أشهُر قليلة على حكومة ميقاتي حتى اندلعت الثورة في سورية على بشار الأسد، وتدخّل الإيرانيون والروس لمساعدة بشار، ثم تدخَّل المالكي، ثم تدخل حزب الله، ثم تجددت الاغتيالات بقتل اللواء وسام الحسن رئيس شعبة المعلومات بقوى الأمن الداخلي، وأخيرا الدكتور محمد شطح مستشار الحريري. وعلى وقع الثورة السورية وتدخل حزب الله بقواته إلى جانب الأسد، بدأت التفجيرات والتفجيرات المضادة، وازداد التوتر في طرابلس بين مسلحي العلويين ببعل محسن، ومسلَّحي السنة في حي باب التبانة المجاور. لكن ليس هذا فقط، فبسبب الضغوط الشديدة على مُدُن السنة وشبانهم في طرابلسوبيروت وصيدا وعرسال ومجدل عنجر وأماكن أُخرى نتيجة انتشار «سرايا المقاومة» في تلك المدن والبلدات، وضغوط مخابرات الجيش والأمن العام بحجة مكافحة الإرهاب، حدثت عدة «تمردات» كان إخمادها وما يزال يجري بالاشتراك الظاهر أو الخفي بين مخابرات الجيش وأمن الحزب، ومدفعيته وسرايا مقاومته، ودائما باسم مكافحة الإرهاب، ومنع «الفتنة» السنية الشيعية! لقد كان المقصود من حكومة ميقاتي إزالة زعامة آل الحريري، وشرذمة أهل السنة مناطقيا، وتصعيد زعامات بديلة محلية يساعدها الحزب وأنصار بشار الأسد في أوساط السنة. بيد أنّ فشل الحكومة في السياسة والاقتصاد وكسْب وُدّ أهل السنة، وتردّي الأوضاع الأمنية والمعيشية، وتدفق النازحين السوريين إلى لبنان وتركُّز أكثرهم (وقد زاد عددهم على المليون) في المناطق السنية؛ كُلُّ ذلك فَتَّ في عَضُد ميقاتي، وأرغمه على الاستقالة. ورغم أنّ كلَّ الكُتَل النيابية تقريبا أيَّدت تكليف تمام سلام بترؤس الحكومة الجديدة، فإنه عجز عن التأليف خلال تسعة أشهُرٍ مضت على تكليفه! وخلال تلك الفترة، بل وقبلها أيضا، كان تيار المستقبل يدعو إلى تشكيل حكومة من غير الحزبيين (تكنوقراط)، تتولى إدارة الشأن العامّ. أمّا القضايا الكبرى التي يستحكم فيها الخلاف، فيمكن إحالتُها على الحوار الوطني برئاسة رئيس الجمهورية. لكنّ حزب الله كان مصرا -ويا للعجب- على إقامة حكومة شراكةٍ مع تيار المستقبل وسعد الحريري. بيد أنه ظلَّ مصرا، أيضا، على أن يكون له ثلثٌ معطّلٌ فيها، والوزارات التي استولى عليها بالتعاون مع الجنرال عون وبري وجنبلاط في حكومة ميقاتي. ولذا فإنّ الرئيسين سليمان وسلام ظلا يُراوحان بين هذا الطرح أو ذاك على مدى التسعة أشهر السابقة! أما الجديد الذي طرأ وجدَّد الأمل في إمكان تشكيل حكومة أخيرا، فيتمثل في موافقة حزب الله المفاجئة على حكومةٍ متوازنة، ليس فيها ثلثٌ معطلٌ لأحد، كما الموافقة على المداورة في الوزارات، والموافقة أخيرا على التفاوُض على العودة (إعلان بعبدا) الذي يقول بتحييد لبنان في النزاع السوري. وهذا يعني خروج حزب الله وقواته من سورية في أمدٍ منظور! لماذا هذا التحول في موقف الحزب، وهذه الاستماتة للتشارك مع تيار المستقبل في حكومةٍ كان قد رفضها رفضا باتا من قبل؟ تبدو هذه «التنازُلات» غير مفهومة، خاصة وأنّ الحزب مستميتٌ في دعم بشار الأسد، ومصرٌّ على اتهام المملكة العربية السعودية برعاية «التكفيريين» الذين يقومون بالتفجيرات في مناطقه، ومُصرٌّ ثالثا ورابعا على أنّ تيار المستقبل، والسنة بعامةٍ، يدعمون ويغطّون المفجِّرين، خاصة وأنه ظهر بين الشبان الانتحاريين ستة لبنانيين للمرة الأُولى! هناك من يقول إنه تظاهُرٌ وحسب بسبب الفشل في حكومة اللون الواحد التي أقامها، ولبدء جلسات المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري. وهناك من يقول إنّ هناك سياسة إيرانية جديدة تُجاه لبنان بخاصةٍ لإثبات حُسْن النوايا على مشارف تنفيذ الاتفاق المؤقت حول النووي مع المجتمع الدولي. لقد التقط الرئيس سعد الحريري هذه الإشارات، واعتبرها منفذا للضوء يمكن من خلاله العمل على إنقاذ لبنان، وهي مسؤوليةٌ لا يجوز التردد في تحمل أعبائها، وقال إنّ خطوته هذه تستند إلى أربعة عوامل: الأوضاع الأمنية والمعيشية المتردية ومشارفة المؤسسات على الانهيار، ودخول لبنان في دوامة الحرب في سورية بسبب إرسال الحزب بقواته لمقاتلة الشعب السوري إلى جانب الأسد، وفتح الباب لتوافُقٍ على انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية لأنّ مدة الرئيس الحالي تنتهي بعد ثلاثة أشهرٍ ونصف، والتخلُّص من حكومة ميقاتي ذات اللون الواحد والتي ما تزال تُصرِّفُ الأعمال. إنّ الدخول في حكومةٍ مع الحزب أو في مواجهته، في ما يرى الحريري، يُخرج النزاع من الشارع المتوتّر إلى طاولة مجلس الوزراء. بيد أنّ هذه «الشراكة» إن كانت فلن تكون على حساب مبدأين أساسيين: عدم النصّ في البيان الوزاري على مثلث: الجيش والشعب والمقاومة. والنصّ فيه على اعتبار «إعلان بعبدا» أساسا وقاعدة. وقد اختلف الرئيس الحريري مع العديد من حلفائه في قوى 14 آذار، لأنه وافق على أن تكون المفاوضة على المبدأين المذكورين بعد تشكيل الوزارة وليس قبلها كما طالبوا ويطالبون! قد تتشكّل الحكومة وقد لا تتشكّل؛ فالتفاصيل كثيرةٌ والشيطان كامنٌ في التفاصيل. بيد أنّ المملكة العربية السعودية، والدوليين (وعلى رأسهم الفرنسيون والأمريكيون والبريطانيون) يبدون مهتمين بمنع انهيار لبنان تحت وطأة سلاح الحزب، والتدخل في سورية؛ كما يبدون مهتمين بألا يحدث فراغٌ في رئاسة الجمهورية اللبنانية، كما حصل في المرة السابقة. لقد ضعُف السنة كفريقٍ سياسي في السنوات الأخيرة، وفقدوا حتّى حقّ الفيتو كما يقال، وانتشر القتل والاغتيال في صفوفهم، والقاتل واحدٌ ومعروف. بيد أن الإيرانيين وبشار الأسد فشلوا رغم ذلك في إدارة الدولة اللبنانية في غياب السنة وغياب تحالف قوى 14 آذار الذي أخرج الجيش السوري من لبنان عام 2005. لكنّ وقائع الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع، وبسبب موقف الحريري، أعادت المبادرة إلى أيديهم، فهل يتغير السلوك الإيراني بالفعل؟! ثم على فرض التغيير أو التفكير في ذلك، هل يقبل بشار الأسد، ويقبل الحرس الثوري قبل ذلك؟