ظلت المنظمات الحقوقية تناضل منذ عقود من أجل التصدي للعنف الممارس على النساء. ولأن المرأة كانت لسنوات عرضة للعنف اللفظي والمادي، فإنها تمكنت بعد معارك كبرى من تحقيق مجموعة من المكاسب الحقوقية، انتهت بتجريم كثير من الأفعال، التي ظلت تستهدف هذا الكائن اللطيف، مرورا بمعبر المناصفة الذي بناه الدستور الجديد. يتحرك العنف عموديا، ويقتحم مع مرور الزمن مجالات كانت محصنة ضد أشكال التعنيف، فانتقلت المرأة من كائن معنف إلى آلية للعنف ضد الرجال، وظهرت على سطح العمل الجمعوي مراكز استماع لضحايا تعنيف الجنس اللطيف وجمعيات لتجفيف دموع ومسح خدوش العنف. زحف العنف على كل المحميات المحصنة، فضرب كائنات كانت ترتدي جلباب المخزن الوقائي، وتحاط بدروع الوجاهة الواقية من كل مداهمة، ولأن الشعب كان يعتبر الوزراء جزءا لا يتجزأ من المنظومة المخزنية، فإن تاريخ المغرب ظل يعطي للوزير حقه من التوقير، فالاحتجاج على هذا الشخص هو «تطاول» على المخزن بمفهومه التقليدي، بل إن الوجاهة بشكل عام كانت ملقحة ضد غضب المواطن. لكن التاريخ المغربي يحفل بكثير من الوقائع التي يمكن تصنيفها في خانة العنف السياسي، ضد المخزن ومن خلاله الوزراء باعتبارهم حاشية السلاطين، بل إن العنف مورس في حق أول سلاطين المغرب وهو مولاي ادريس الأول على يد مبعوث خاص من هارون الرشيد اسمه جرير الشماخ في ما يعرف بواقعة القتل بالشم، لأنه أصبح خطرا على الخلافة في المشرق. وعلى امتداد تعاقب السلاطين على حكم المغرب ظل العنف حاضرا ضد الوزراء لكن في إطار محيط داخلي، لأن الاقتتال بينهم كانت تمليه الرغبة في صعود سلاليم السلطة، وخلال فترات تاريخية متعددة أسقطت دسائس القصور العديد من الوزراء، وحولتهم إلى كائنات بلا قبور، لكن العهد المريني بلغ أقصى حالات «الاقتتال الوزاري»، عندما انتابت وزراء سلاطين بني مرين في آخر عهدهم نوبة الحكم، وبلغ «الطموح» حد خنق الوزير الحسين بن عمر الفودودي السلطان أبي عنان المريني في غفلة من الجميع، لينصب مرشحه أبا بكر السعيد خليفة له. العنف ضد الوزراء مورس من طرف الصدور العظمى (خاصة باحماد والمنبهي)، التي امتلكت في القرنين التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين سياطا لطالما جلدت به وزراء غير مروضين، وأسلحة كاتمة للصوت تفرغ شحناتها في رؤوس أينعت فانتابها عشق السلطة العليا وشكلت خطرا على محمية الصدر الأعظم. في ظل هذه الأوضاع كان المواطن المغربي حريصا على مهادنة الوزير باعتباره جزءا من المنظومة المخزنية، فهو خليفة السلطان في أرضه، وأوامره مستمدة من أوامر السلطان، لكن حين يمارس الوزراء هذا التفويض بجرعات زائدة تظهر أعراض القلق ويصبح جزءا من مكبوتات المواطن البسيط الذي لا حول ولا قوة له أمام سلطة المخزن. حين نقرأ بتمعن تمرد مجموعة من القبائل على المخزن، فإننا سنكتشف بأن الضغط الممارس على البسطاء هو الذي أنتج إفرازات الغضب والاحتجاج ثم العنف، فثورة الرحامنة لم تكن تستهدف السلاطين بقدر ما كانت تستمد شرعيتها من التمرد ضد نظام جبائي سنه وزير، وعلى غرار كثير من حالات التمرد التي أخمدتها السيوف والمدافع، فإن أسباب اندلاعها قرار من أقرب الوزراء إلى السلطان. هناك وزراء سيادة في فترة ما بعد الاستقلال أعجبوا بنمط ترويض الصدر الأعظم للوزراء، فمارسوا هذه الهواية تحت مسمى آخر «حماية العرش» والحفاظ على هيبته، ولنا في رضا اكديرة، الذي ضرب وزيرا سابقا للإصلاح الفلاحي، لأنه لم يصلح مشيته وهو يسير خلف الملك الحسن الثاني، وغارات مولاي أحمد العلوي على أكثر من وزير، ناهيك عن التقارير السرية والعلنية ضد الوزراء الذين لا يسيرون في ركبه. ظل الشعب حريصا على «توقير» المخزن بكل تشكيلاته، من المقدم في أسفل هرم السلطة إلى الملك في قمة هرم السلطة، لهذا غالبا ما كان يمارس العنف اللفظي من خلال الاحتجاج المستتر بعيدا عن خياشيم المخبرين، أو يلجأ إلى النكتة السياسية لتفريغ شحنات الغضب وتصريفها. حتى حين داهمت قوات عسكرية قصر الصخيرات في محاولة انقلابية ضد الملك الحسن الثاني، كان العساكر يسخرون من الوزراء ويتلذذون بوضعية الانبطاح أو الهرولة حين سكت الجميع ونطق الرصاص. التحول الكبير في ثقافة العنف السياسي، نتج عن الربيع العربي الذي جعل المواطن ينتفض ضد الحاكم ويعلن تمرده على كل ما يمت للسلطة بصلة، انتشرت ثقافة الاحتجاج هذه أفقيا وعموديا فأطاحت بزعامات كانت تبدو محصنة ضد غضبات الشعوب، وأصبحت لكل بلد ساحة لممارسة طقوس الاحتجاج والعنف. وأصبحت السجون تستقبل شخصيات وزارية نافذة كان من الصعب تصورها خارج إطارها المخملي. باسم الديمقراطية، مارس كثير من الغاضبين نصيبهم في العنف ضد الآخر، فامتلكوا «حق» تخوين هذا وذاك، فلم يعد الاحتجاج السياسي نتاجا لغضبات ذاتية وجماعية متراكمة، بل تحول إلى طقس سياسوي تحكمه الانقسامات. من السذاجة الإيمان بالعنف كحل للأزمات السياسية، فالديمقراطية مرادف للحوار، والانقسام يتولد عنه عنف مضاد من قوى التطرف، التي تصبح مهنتها اليومية الاحتجاج، ومع مطلع كل صباح تفتح دكاكينها وتعد لافتاتها ومكبرات صوتها وتحشد زبناءها وهي تعرض بضاعة التعنيف. في المغرب ظهرت حركة 20 فبراير، خرجت إلى الشارع معلنة تصديها للحكومة بكل وزرائها، بل إن فصائل منها طالبت بإسقاط مستشاري الملك ورفعت صورا ولافتات غير مسبوقة في تاريخ الحركات الاحتجاجية في المغرب. كان الخطاب واضحا وغامضا في نفس الوقت، الإطاحة بالمفسدين دون الحاجة لصكوك اتهام ملموسة. لكن ما يحسب للربيع العربي ولحركة 20 فبراير، التي أطفئ لهيبها وهي في مرحلة الحبو، هو انتهاء زمن التوقير الذي استفاد منه الوزراء والمصطفون في خندق المخزن، وأصبحت هذه الفئة عرضة لعنف الشارع، رغم أن أغلب وزراء الحكومة الحالية من إنتاج الشارع نفسه. لا يمكن لوزير في الحكومة الحالية أن يلقي خطابا في الشارع العام لأنه يعرف أن العنف هو عملة رائجة، وأن الخصوم السياسيين يعتبرون منصات الخطابة فرصة سانحة للممارسة هذا الطقس الدامي. عانت بسيمة الحقاوي من العنف اللفظي لكثير من المعاقين، الذين اقتحموا مقر وزارتها كما فعلوا مع سابقتها، ولم يسلم مصطفى الخلفي، رجل التواصل في حكومة بنكيران، من عنف الطلبة الذين تهجموا عليه في الحرم الجامعي ومنعوه من تقديم عرض أمام طلبة جامعة ابن زهر، ولأن الجامعة تغلي فإن وزير التعليم العالي لحسن الداودي يتفادى ولوج الجامعات المغربية تفاديا لغضبة الطلبة وفصائلهم. ولم تسلم حرمة البرلمان من العنف، ففي سابقة خطيرة، تعرض الحسين الوردي وزير الصحة، إلى تعنيف لفظي وتهجم من قبل بعض نقابيي الصيادلة، وهو يهم بالدخول إلى قاعة اجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية، كان المشهد غريبا على البرلمانيين وهم يشاهدون اقتحام العنف لمؤسسة تشريعية. لكن المفارقة الغريبة هي تعرض وزير ينتمي بدوره لحزب التقدم والاشتراكية لعنف مادي، استهدف نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، الذي تعرض للرشق بالحجارة خلال مشاركته في تجمع سياسي في مدينة آسا، والأغرب في النازلة أن المعتدين ينتمون إلى نفس الحزب لكن في تيار مناوئ. علال الفاسي يتعرض لتعنيف طلابي لم يكن الصراع الطلابي حاضرا في المشهد السياسي قبل الاستقلال، لسبب بسيط هو أن الجامعة المغربية لم تنشأ إلا في سنة 1957، أي جامعة محمد الخامس في الرباط، لكن الحركة الطلابية المغربية كانت حاضرة في الجامعات الفرنسية، وفي ثانوية مولاي يوسف بالرباط إلا أنها كانت حركة جنينية، مع حضور محتشم في الجامعات المشرقية كالقاهرة ودمشق. لذلك «تركز دور الطلبة المغاربة في فترة الحماية على مساعدة الحركة الوطنية المغربية في التعريف بقضية المغرب وضرورة تمتيعه بالاستقلال»، كما يقول الباحث المغربي محمد ضريف، الذي يؤكد بأن هذا التنظيم لم يكن معارضا للقصر بدليل تعيين ولي العهد الأمير الحسن الثاني رئيسا شرفيا له. لكن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب انتابته هزة عصفت بتماسكه، حين تأرجح بين تيارين متصارعين داخل حزب الاستقلال، بين فكر المهدي بن بركة وفكر علال الفاسي، الذي انتهى بانشقاق الحزب العتيد، وظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وحين تخندق الحزب الجديد في خندق المعارضة، وجد في الحركة الطلابية سنده، مما جعل الهاجس السياسي يسيطر على الهاجس الطلابي، فبادر حزب الاستقلال في بداية الستينيات إلى تشكيل فصيل مضاد أطلق عليه اسم الاتحاد العام لطلبة المغرب، وهنا بدأت نعرات السياسة تقتحم الحرم الجامعي. ووصل الأمر إلى حد اعتقال قيادات التنظيم الموازي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية انتهى بمصادرة نشاطاته سنة 1973، لكنه ظل حاضرا في المشهد السياسي في ظل ازدهار سلعة اليسار الشيوعي، ولم يرفع عنه الحظر إلا بعد خمس سنوات. في ظل هذا الصراع، تعرض علال الفاسي للتعنيف اللفظي، حين حضر إلى جامعة محمد الخامس بالرباط في بداية الستينيات، لتقديم محاضرة استجابة لفصيله الطلابي الجديد، الاتحاد العام للطلبة، لكن «لينام» رفضت اقتحاما سياسيا للحرم الجامعي، رغم أنه يغلي بالنقاشات السياسية، وتحرشوا به لفظيا ومنعوه من بدء عرضه، وأمام إصراره على الاستمرار، اضطر المعارضون إلى قطع التيار الكهربائي عن المدرج، لكن الاستقلاليين الذين حجوا بكثافة إلى الجامعة، أشعلوا الشموع وطالبوا علال الفاسي بإكمال عرضه وسط شعارات طلابية تؤرخ لصراع انتقل من مربع السياسة إلى المشهد الطلابي. الآن وفي ظل تعدد الفصائل الطلابية، يجد الوزراء، والسياسيون على الخصوص، صعوبة في ولوج الحرم الجامعي الموجود تحت سيطرة العدليين والقاعديين والميثاقيين والتجديديين والوحدويين والأمازيغيين وغيرهم من الكيانات الطلابية، حيث تعرض العديد من الوزراء للعنف اللفظي والجسدي في الجامعة، آخرهم الوزير مصطفى الخلفي في رحاب جامعة ابن زهر بأكادير. «استهداف» قبر إدريس البصري من المفارقات الغريبة، أن يتعرض الرجل القوي في عهد الحسن الثاني، إلى العنف وهو يرقد في مثواه الأخير، فبعد مرور ستة أشهر على دفنه، اكتشفت أسرة الوزير السطاتي، سقوط من شاهد القبر في مقبرة الشهداء بالرباط. ولأن القضية تتعلق بعنف ظاهر على الشاهد الحامل لاسم الراحل وتاريخ ولادته ووفاته، فإن أسرة البصري شكت في الأمر، واعتقدت أن الانتهاك تم بفعل فاعل، لاسيما وأن المسألة تعدت تحطيم جزء من القبر إلى نبش وتخريب مع سبق الإصرار والترصد. على الفور أبلغت الدائرة الأمنية الرابعة بالعدوان، وفتح تحقيق في النازلة انتهى باعتقال شخص قيل إنه الفاعل الحقيقي، وأنجز على الفور محضر إدانة اعترف فيه «المتسكع» بانتهاك حرمة القبر، كما تم وضع عناصر سرية بالمقبرة لمراقبة المترددين على القبر. وحسب جريدة الاتحاد الاشتراكي، فإن «متشردا كان قد تسلل إلى داخل المقبرة في غفلة من الحراس، وكان في حالة غير طبيعية، فبدأ يتمايل بين القبور وخاصة قريبة العهد بضم جثامين أصحابها، فتعرضت بعض أجزاء القبور إلى التلف». ونفى المصدر أن يكون قبر الوزير السابق مقصودا، وأضاف أن الجاني تم تقديمه إلى النيابة العامة بتهمة انتهاك حرمة المقبرة، وأخلي سبيله. إحكام المراقبة على قبر إدريس البصري، قاد إلى أشياء أخرى، ذلك أن شابا ضبط وهو ينصت للقبر، ويضع أذنيه على ما تبقى من الشاهد، وحين تم ضبطه، برر ذلك برغبته في التأكد من صحة الأخبار التي راجت في مواقع اليوتوب والتي قالت إن أصواتا تصدر من قبر ادريس البصري، تكشف عن محنة الرجل. وزراء يتجرؤون على السلاطين عاشت الدولة المرينية في نهايتها حالة من التمزق والشتات لم يسبق لها مثيل، خاصة في السنوات الأخيرة من القرن الرابع عشر الميلادي، بسبب الدور القيادي الذي أصبح للوزراء، نظرا لما راكموه من تبعية قبلية وأملاك حولتهم إلى سلاطين صغار. وأيضا لتدخل جهات خارجية كانت تسعى إلى خلق التفرقة داخل كيان دولة على حافة الانهيار. وصل الاستهتار وتدني هالة المخزن حدا لا يطاق، حتى أصبح الوزراء يتجرؤون على السلاطين، ويتخذون قرارات مؤثرة نيابة عنهم، مستغلين انشغال السلاطين بإطفاء الفتن هنا وهناك. ومن تداعيات هذا الوضع تهجم الوزراء على السلاطين وأبنائهم، بل إن الوزير الحسين بن عمر الفودودي قد بلغ به التهور حد التعجيل بقتل أبي عنان المريني خنقا في غفلة من الجميع، لينصب مرشحه أبا بكر السعيد، لكن قراره لقي معارضة من وزير آخر وهو ابن ماساي. وحين اشتد الصراع حول كرسي الرئاسة دخل على الخط مرشح آخر وهو أبو سالم إبراهيم المدعوم من ملك قشتالة. ومن طرائف هذا الصراع، أن أول قرار اتخذه أبو سالم إبراهيم، بعد الجلوس على كرسي السلطان، هو الإجهاز على الوزير الفودودي، لكنه سرعان ما وجد في مواجهته وزيرا فودوديا آخر اسمه عمر بن عبد الله الذي بادر إلى التحالف مع القشتاليين وأطاح بالسلطان، وقبل أن يندلع الصراع استبدله بشقيقه أبو عمر الذي عاد من قشتالة حيث كان يقضي عقوبة حبسية هناك، إلى أن اختل عقله ولم يتمكن من تدبير شأن البلاد مما دفعه إلى تفويض كل اختصاصاته للوزراء الذين عادوا إلى مكانتهم كآمرين ناهين. جاء في «مجمل تاريخ المغرب» لعبد الله العروي، إشارات حول هذه الواقعة التي تكشف عن العنف المتبادل بين الوزراء والحكام، «حين اعتلى عرش بني مرين السلطان أبو فارس عبد العزيز، أواخر سنة 1366 ميلادية، حاول التخلص من الوزراء المستبدين وإعادة الهيبة للدولة، فأبعد الطامعين من الوزراء والكتاب، إن لم يأمر بقتلهم، لكن السلطان توفي سنة 1372 وخلف ولده محمد السعيد، لكن الوزراء عادوا من جديد إلى التنافس والتدافع وانتهز أمراء غرناطة هذا الوضع للتدخل في شؤون المغرب الأقصى». لم ينته الأمر عند هذا الحد بل ظل الاقتتال بين الوزراء سمة الأيام الأخيرة من حكم بني مرين. رصاصة من عبيد السلطان تنذر الوزير بن الغازي كان سلاطين المغرب يبتكرون أساليب عدة لإعادة بعض الوزراء إلى صف المخزن، كلما لاحظوا خروجا عن النص. غالبا ما تتم المقاربة التأديبية وفق منطق «الطهي على النار الهادئة»، وأحيانا بلفت النظر ويذكر بالضوابط التي تحكم العلاقة بين الوزير والسلطان، وحين يتماهى الأول في جلباب السلطة، يتحول التنبيه إلى ضرب على القفا أو إطلاق عيارات نارية، كما حصل للوزير محمد بن الغازي الزموري، الذي بايع السلطان المولى عبد الرحمن وأعاد الود إلى علاقته بالقصر الذي قبل مصاهرته، لكن المقربين من السلطان أبلغوه أن الوزير تجاوز الخط المسموح به، وأنه يقول كلاما يسيء للجالس على العرش، فما كان من السلطان إلا أن أعطى تعليماته لتأديب الوزير وإعادة لسانه إلى ثغره. ويجمع الباحثون في تاريخ مغرب ما قبل الحماية، على غضب المولى عبد الرحمن من ابن الغازي الذي اعتاد «أن يحضر بالغداة والعشي إلى باب السلطان كغيره من كبار الدولة ووجوهها على العادة في ذلك، فلما كان في بعض الليالي وهو راجع إلى منزله رصده أحد العبيد بالطريق فرماه برصاصة فأخطأه، فوصل إلى منزله وقد ارتاب بالسلطان فمن دونه من أهل الدولة وحملته دالته على أن أطلق لسانه وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وبلغ ذلك السلطان فأغضى له عنها ثم أفضى به التهور إلى أن انقطع عن الحضور بباب السلطان غضبا على الدولة فأطال له السلطان الرسن كي يرجع فلم يرجع وبلغ السلطان أنه يحتال في الفرار فعاجله بالقبض عليه وبعث به إلى جزيرة الصويرة التي هي سجن أهل الجرائم العظام فسجن بها مدة ثم أصبح ذات يوم ميتا». ظل سجن جزيرة الصويرة معتقلا للخارجين عن طوع السلاطين، خاصة الوزراء والولاة والحاشية، لذا وصفه كثير من المؤرخين، بمعتقل البطانة. ما قام به عبيد المولى عبد الرحمن، أخذ صيغا أخرى، لاسيما في تأنيب الوزراء، فالتعليمات التي وصلت إلى الجندي المكلف بالتصفية، لم تأت رأسا من السلطان بل من كبير الوزراء. الوزير بوطالب يعنف البصري يحكي عبد الهادي بوطالب في سيرته الذاتية، عن تعرضه لهجوم كاسح من طرف مجهولين خلال حملته الانتخابية التشريعية لعام 1963، وهي السنة التي مني فيها ثلاثة وزراء بهزائم في المباريات الانتخابية، وهم المحجوبي أحرضان ويوسف بن العباس ومحمد بن هيمة ومولاي أحمد العلوي وإدريس السلاوي ثم عبد الهادي بوطالب طبعا. «أذكر أننا لما دخلنا الانتخابات وتقدمت في مدينة المحمدية لأترك المجال لوزراء آخرين ليترشحوا في الدارالبيضاء، كنت أعتبر أن المحمدية كانت من المراكز الحساسة عندنا في حزب الشورى والاستقلال. وأذكر بكل شفافية وصدق أنني كنت أذهب للمحمدية لأقوم بحملتي الانتخابية وأنا وزير على متن سيارتي الخاصة وبسائق غير موظف في وزارتي. وكنت أخطب في التجمعات الانتخابية، ولم يسبق لي أن طلبت من رجال السلطة في المدينة أن يناصروني. وخضت المعركة الانتخابية في مواجهة الاستقلالي ابن العربي. وكان من يعارضونني يرجمون بالحجارة من يتجمعون حولي وأنا أخطب. ولم تتدخل الشرطة التي كانت موجودة في المكان لحماية من كانوا يهاجمون حملتي الانتخابية. لقد كانت هناك عصابات تناهض أن تجري الانتخابات في هدوء وسلام». التزمت السلطة حيادها السلبي فلم تتدخل حتى ضد المجرمين الذين حولوا منصة الخطابة إلى حطام. لكن بوطالب لم يتعرض فقط لهجوم «مجرمي الحملات الانتخابية»، بل اعترف بوجود ملاسنات بينه وبين ادريس البصري وزير الداخلية، الذي كان يعشق ترويض الوزراء، ففي حوار لعبد الهادي، قيد حياته، مع الشرق الأوسط، أكد الواقعة وقال إنها جزء من العنف الممارس على الوزراء من وزارة السيادة، «لقد جرى بيني وبينه خلاف كان سببه إعداد وزارة الداخلية مشروع القانون الانتخابي المغربي عندما أعد مشروع دستور سنة 1996 للاستفتاء. وكان مشروع القانون الانتخابي الذي أعده خبراء وزارة الداخلية محررا باللغة الفرنسية فقدمه إدريس البصري إلى جلالة الملك في جلسة عقدها مع المستشارين أحمد رضا كديرة، وإدريس السلاوي وأنا، وحضرها أيضا مولاي أحمد العلوي وزير الدولة آنذاك. وبعد أن ألقى جلالة الملك على المشروع نظرة سريعة سلمه إلي ووجهني بالنظر فيه وترجمته إلى اللغة العربية. فراجعت جلالة الملك في الموضوع واقترحت أن تعوض صيغة «وزير الداخلية» بعبارة «السلطة ذات الاختصاص» وهو ما يرِد في القوانين فوافق الملك على ذلك. أخذ إدريس البصري يتصفح بسرعة نسخته ثم توجه إلى الملك: «لست أدري ما الذي دفع بالسي عبد الهادي إلى أن يغير في النص العربي اسم وزير الداخلية كما كان في النص الفرنسي؟ وماذا بيني وبينه ليتصرف على هذا الشكل؟ فلم يعر الملك اهتماما لملاحظته، وبعدما خرجنا من مجلس الملك توجه البصري نحو المستشارين كديرة والسلاوي وكنت وراءهما فسمعت البصري يؤنبهما على التزامهما الصمت بحضرة الملك وعلى أنهما لم يسانداه في مؤاخذتي، فتقدمت إليه وقلت له: لقد سمعت جميع ما قلتَه. أتجهل أن ما غيرته في النص كان مأذونا لي به؟ ثم أمسكته بين يدي وقلت له باللغة الفرنسية: أنا لا أضرب خصومي من التحت أعزم على مواجهتك سأصوّب لك ضربتي مباشرة دون تستر». الصدر الأعظم «معنف» الوزراء كان أحمد بن موسى با حماد الصدر الأعظم، يجثم على صدور الوزراء، ولا يتردد في ترويضهم وتأنيبهم كلما لاحظ زحفا على دائرة مصالحه المادية والمعنوية، لقد كان يتخذ قراراته الشخصية ويلبسها ثوب السلطان، وكلما سئل عن شيء قال: «حتى نسول سيدنا»، إلى أن رد عليه أحدهم «أنت هو سيدنا»، فعلم بأن المقربين يعرفون دوره في البلاط. في كتابه: «حول مائدة الغداء» يروي محمد المختار السوسي تفاصيل بروفايل «مروض الوزراء» باحماد، فيقول: «كان بطاشا لا يهدأ إلا بالفتك والسجن، وسوق وزير إليه أحب من سوق حمل مال، لا يطمع في تسريح مسجونه، وبذلك البطش تمهد له من أراد، وارتجفت منه الأفئدة». لكن في السياسة «كا تدين تدان» فقد انتظر الوزير المنبهي وفاة الصدر الأعظم ليرد له الصاع صاعين، فركض نحو القصر ليشعر السلطان المولى عبد العزيز بالخبر «العاجل»، لأن من يملك المعلومة من الوزراء يملك الحظوة، «ما أن لاقى السلطان أسمعه النعي، فلم يدر ما يصنع، لكونه لا يعرف مآتي الأمور، فشجعه المنبهي، فقال له إن الأمر كله لك، فمر ينفذ أمرك، وكلنا طوع يدك، فاستشاره السلطان في المعمول وهو يبكي أحر بكاء لرقة قلبه، فقال له يأمر سيدنا بإعداد جنازة وباحتفال الناس لها وأن يخرج سيدنا نفسه حتى يدفن، فذلك هو الواجب، وإن أذن لي سيدي نفذت كل هذا، فأمره فخرج المنبهي فأمر بكل شيء، وظهر من وقته آمرا ناهيا، فذهبت الجنازة كما ينبغي بمحضر السلطان فمن دونه ثم سأل السلطان المنبهي عما يجب فعله الآن فقال له يأمر سيدنا بتثقيف دار أحمد وأمواله وكل أهله كما هي العادة، ونقل أموال السلطان من داره إلى دار المخزن، فأمره بكل ذلك، فقام به في الحين، فألقى القبض على كل آل أحمد فغرب عزهم في لحظة، كما بزغ نجم المنبهي في اللحظة نفسها»، كما يقول المختار السوسي. وما أن نال مبتغاه، حتى نصب نفسه وزيرا للحربية لينال كل الحقائب تحت التهديد، لأنه حين أمر بنقل الأموال والمتاع من الباهية إلى دار المخزن، كان سرب إلى داره نحو الثلثين أو أكثر، «فأنشأ يبذر بلا حساب، فأنال كل الناس أموالا طائلة». لعب هذا الدور وزراء ومستشارون في عهد الحسن الثاني، خاصة رضا كديرة الذي مارس تعنيفه على كثير من الوزراء بتهمة التمرد على البروتوكول، كما مارسه ادريس البصري ومولاي أحمد العلوي. غلاب.. «عنف» الانتخابات حين كان عبد الكريم غلاب وزيرا للتجهيز والنقل، تعرض لمداهمات عديدة خاصة في ذروة الجدل حول مدونة السير، كما تعرض لهجوم سكان أحد دواوير منطقة أمسكروت عندما كان يتفقد الشطر الأخير من الطريق السيار الرابط بين مراكش وأكادير، ولولا تدخل الدرك الملكي لتعرض الوزير إلى غارات بالحجارة أحدثت أضرارا ببعض سيارات الموكب. غضب سكان الدوار على الوزير ومن خلاله عامل شيشاوة الذي كان برفقته، ناتج عن العزلة التي أحدثها الطريق السيار، الذي وضع حدا بين دوارهم والمدرسة الوحيدة، مما عرض أبناءهم للهدر الدراسي. كما تعرض كريم غلاب، وزير النقل والتجهيز، لهجوم بالأسلحة البيضاء وهو يقوم بحملته الانتخابية في دائرة السالمية بالدارالبيضاء. ولأن الحملات الانتخابية لا تعترف بالوزراء، فقد كادت جولة الوزير الاستقلالي في هذا الحي، أن تنتهي بفاجعة، بعد أن فوجئ أنصار كريم بهجوم من طرف مجهولين جعلهم يتعرضون لإصابات بالغة خلال هذا الهجوم. وحضر رجال الأمن على وجه السرعة واستمعوا للشهود وأنجزوا محضرا ضد مجهول اسمه الانتخابات. وورد في شكاية مدير الحملة أن موكب الوزير تعرض للرشق بالحجارة وهجوم بأسلحة بيضاء، كما انهالت عليه عبارات السب والشتم. بينما اكتفى كريم غلاب باتهام منافسين له في الانتخابات البلدية بتحريض أنصارهم ضده. وهذا الهجوم الذي استهدف غلاب لم يكن الأول من نوعه، فقد تعرض إسماعيل العلوي، الوزير السابق والأمين العام للتقدم والاشتراكية، إلى هجوم مماثل من طرف خمسة أشخاص مجهولين وهو يقوم بحملته الانتخابية في دائرة شاطئ سيدي رحالبالدارالبيضاء. وقام هؤلاء الأشخاص الذين كانوا مدججين بالهراوات والأسلحة البيضاء بتهشيم سيارة إسماعيل العلوي، ولكنه نجا بأعجوبة من هذا الحادث الذي كاد يودي بحياته. غضبة الرحامنة من وزراء الشؤون الضريبية وصف الباحث السوسيولوجي، عبد الرحيم عطري، علاقة قبائل الرحامنة بالمد والجزر في علاقتها مع المخزن، وقال في كتابه «الرحامنة بين المخزن والزاوية»، إن هذه العلاقة ظلت مبنية على التعارض، ولقد لعب موقعها الجغرافي وقربها من مراكش ومكانتها كمعبر استراتيجي للحركات المخزنية دورا كبيرا في تفاعلها مع المخزن في حله وترحاله إلى المدينة المخزنية. كان المخزن يصف الرحامنة بالقبائل السائبة، وكان أهالي هذه المنطقة ينظرون إلى محيط السلاطين بنوع من الحذر، خاصة الوزراء الذين يشغلون مهام تحصيل الجبايات. قام الرحامنة حسب الكتابات التاريخية بثلاثة تمردات كبرى ضد المخزن ورجالاته، وهي لا تخص فقط المخزن العلوي بل الدولة السعدية، كما ورد في «معلمة المغرب» لمحمد حجي. غضب الرحامنة كان موجها بالأساس للوزراء القائمين على تحصيل الجبايات، خاصة بعد أن ارتفعت بشكل لا يستطيع الأهالي الاستجابة له، في ظل حالة الجفاف التي ضربت المنطقة والأمراض التي فتكت بالأرواح، ناهيك عن استنفاد الخزينة لأموالها والبحث عن دعم قبلي بسبب ثقل الضرائب المفروضة على المغرب بعد خسارته في معركة إيسلي، وكلما رفض الرحامنة الاستجابة للنظام الضريبي، أو ما يعرف بأداء الكلف، تبدأ الغارات على القبيلة في محاولة لإخضاعها وإنهاء تمردها كي لا يمتد إلى القبائل المجاورة. وهو ما دفع النظام إلى تقسيم الرحامنة إلى قيادات صغيرة استنادا إلى مبدأ «فرق تسد». يقول أحمد الناصري في «الاستقصا لدول المغرب الأقصى»، إن الرحامنة قد تمردوا على وزراء السلطان سنة 1861، وحاصروا مراكش أربعة أشهر، حتى أوشكت على الاستسلام فاستنهض المخزن قبائل السراغنة لكن بأس الرحامنة كان أقوى، مما دفع السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن إلى إرسال موفد عنه لمفاوضتهم، لكن شرطهم كان هو إقالة المحيطين به من الوزراء وهو مطلب مرفوض لأنه يهدد هيبة الدولة. وانتظر السلطان نهاية معركته مع قتنة الروكي ليخرج في جيش قوامه 9000 رجل في مواجهة القبائل الرحمانية المتمردة وينهي النزاع بإخضاعهم، دون أن يحقق مطلب إعفائهم من الكلفة ولم يغادرهم حتى أدوا كل ما في ذمتهم من ديون لوزارة الجبايات. تجددت انتفاضة الرحامنة بعد ثلاثين سنة، بقيادة القائد بن الطاهر، ضد الصدر الأعظم الذي قام بتنصيب المولى عبد العزيز سلطانا للبلاد، وهو دون سن البلوغ، بدل أخيه الأكبر مولاي امحمد، لكن الصدر الأعظم وصف الرفض بالتمرد وعجل بإبادة القبيلة ومتزعم الانتفاضة والإجهاز على ممتلكات الناس. تعنيف وزراء 1971 المعتقلين استغل موظفون بمحكمة العدل الخاصة بالرباط فرصة إحالة ستة وزراء على القضاء، ليبصقوا في وجوههم، وقال أحد الوزراء الذين أفرج عنهم «يكفي اتهامك بقضية فساد لتصبح عدو الشعب، لم نسلم من نظرات المساجين ومن بصاق بعض موظفي المحكمة، حتى رجال الأمن كانوا يردون لنا الصاع صاعين ويمارسون سلطتهم بعنف كبير». في سنة 1971 عرض على القضاء ملف ستة وزراء اتهموا بالفساد، واعتقد الكثيرون أن المغرب قد دخل مرحلة جديدة في ربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن إطلاق سراح المتورطين أوقف هذا الحلم وأعاد حليمة إلى عادتها القديمة. أدين في هذا الملف كل من محمد الجعيدي، وزير التجارة والصناعة، عبد الحميد كريم، وزير السياحة، عبد الكريم الأزرق، وزير الأشغال العمومية، يحيى شفشاوني، وزير أسبق للأشغال العمومية ومدير سابق لمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، ومامون الطاهري، وزير المالية، هذا بالإضافة إلى رجل الأعمال عمر بنمسعود وثلاثة موظفين سامين ورجال أعمال مغاربة. كانت هذه لائحة المتهمين في ملف تراوحت الأحكام فيه ما بين 12 و4 سنوات، وإسقاط الدعوى عن مسؤول واحد وهو محمد العمياني والبراءة لعبد الكريم الأزرق، دون مصادرة أموال أي واحد منهم، علما أن بعضهم فتح حسابات في بنوك سويسرية حيث راكم أموالا، يقول صك الاتهام إنها من عائدات تهريب المعادن. خروج المعتقلين في هذا الملف الأول من نوعه في عهد الملك الراحل الحسن الثاني سيضع حدا لأمل المغاربة في محاربة الفساد، وقطع الطريق على الذين يخوضون غمار السياسة لتدبير شؤونهم الخاصة وليس تدبير شؤون البلاد. فجر الجنيرال المدبوح القضية بعد عودته من الولاياتالمتحدة، ونقل للملك تقريرا أسود حول ملف شركة «بانام» إلا أن هذا الخيط سيقود إلى 27 قضية أخرى، تتعلق كلها بالفساد في معامل السكر والبترول بسيدي قاسم، وبيع الأسمدة، والتنقيب عن البترول وبيع معدن الرصاص والحديد وإنتاج الكهرباء. وبقدر ما كانت ردة فعل الشارع قوية ضد الوزراء المدانين، بقدر ما كانت الأحكام مخففة قبل أن تنتهي بعفو، فذهبت غضبات المغاربة أدراج الرياح، لأن الوزراء لم يتابعوا بأي تهمة تتعلق بهدر المال العام. وأثناء مغادرتهم سجن لعلو تلقوا الشتائم من السجناء الذين قرؤوا جماعيا اللطيف. قبل أن تبدأ تفاصيل المحاكمة الشهيرة كان الوزير الأول العراقي قد اشتكى وزراءه المفسدين إلى الملك، إلا أن الحسن الثاني طالبه بالدليل القاطع.