إذا صح أن 2013 كانت سنة انحطاط السياسة الخارجية الأمريكية إلى حضيض جديد، أدنى من أي قاع بلغته طيلة سنوات ولايتَيْ الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإن الصحيح الآخر، الموازي، هو أن السيرورة هذه اقترنت بافتضاح المزيد من سمة كبرى، تاريخية ومركزية وثابتة، طبعت فلسفة الإدارات جمعاء، تقريبا: أن لكل نزاع مقدارا خاصا به من النفاق، مقابل السياسة العملية النفعية «الواقعية»، يقتضيه المقام الخاص بدوره. وفي الملف السوري بصفة عامة، وحكاية «الخط الأحمر» الكيميائي خاصة، كُتب الكثير في استجلاء هذا الجانب تحديدا، ربما بسبب المناخات الدراماتيكية التي أشاعها البيت الأبيض حول احتمالات توجيه ضربة عسكرية إلى النظام السوري، بعد المجازر الكيميائية في غوطتَي دمشق، الشرقية والغربية. طريف، مع ذلك، أن ما يحدث في كل آونة أمريكية مماثلة، تكرر هنا أيضا، فبدا وكأن أوباما نسيج وحده في استعادة سمة النفاق الكبرى تلك، وذهب البعض (خاصة في صفوف عشاق السياسة الخارجية الأمريكية، والمؤمنين بأخلاقياتها) إلى أن الضعف الذاتي، الذي يتصف به أوباما شخصيا، هو السبب. الوجه الآخر للطرافة مصدره أن شاغل البيت الأبيض الحالي ليس البتة استثناء القاعدة، في القوة والبأس والحزم والبطش، بل هو ابن القاعدة النجيب وأحدث تطبيقاتها؛ والبرهان الأبسط هو أن المئات قُتلوا، في الباكستان واليمن والصومال، بأوامر من أوباما، عبر طائرات أمريكية من غير طيار، وأن نسبة المدنيين (بافتراض أن عناصر «القاعدة» المستهدفين ليسوا ضمن هذا التصنيف) تراوحت بين 22 و58 في المائة. مفيد، والحال هذه، أن يذهب المرء إلى ملف آخر غير سورية، وذلك «الخط الأحمر» الشهير، للوقوف على تجليات السمة الكبرى إياها؛ وربما إلى بلد غير عربي أيضا، أو غير متأثر بمفاعيل «الربيع العربي» الكثيرة، والمتكاثرة؛ فلنذهبْ إلى موقفَين للإدارة الأمريكية، إزاء احتلال العراق للكويت، واحتلال أندونيسيا لأراضي تيمور الشرقية سنة 1975: في المثال الأول، هبت القوة الكونية الأعظم للدفاع عن سيادة الكويت، وحشدت الجيوش والحلفاء وأشباه الحلفاء، قبل حشد مجلس الأمن الدولي؛ وفي المثال الثاني (بإشراف من أبرز نطاسيي سياسة أمريكا الخارجية: هنري كيسنجر، دون سواه) أغمضت العين والأذن عن الاحتلال، من جهة، كما ألزمت المواطن الأمريكي، دافع الضرائب، بسداد أكلافه، من جهة ثانية. وكان المفكر الأمريكي الكبير نوام شومسكي قد جعل قضية تيمور الشرقية مثالا دائما على السياسة الأمريكية، العتيقة، في اعتماد حلول متباينة للمعضلات المتشابهة المتطابقة؛ كما عدها نموذجا على موقف «الحضارة الغربية» من أقدار المستعمرات السابقة، التي مُنحت ذلك النوع العجيب من «استقلال وطني» استبدل هوية المستعمر، دون أن يبدل طبيعة الاستعمار. كذلك، كانت تيمور الشرقية مثال شومسكي على «لعبة الأمم» المكرورة ذاتها: ثمة أهمية استراتيجية عسكرية واحدة تتمتع بها هذه الجزيرة الصغيرة (هي أنها ممر عميق المياه، يسمح للغواصات النووية بالرسو على مسافة قريبة)؛ ولكنها أهمية فائقة بالنسبة إلى بلد مثل أستراليا. وثمة، أيضا، ذلك «الدلال» الخاص الذي حظي به جنرالات أندونيسيا من جانب الولاياتالمتحدة والغرب إجمالا، فلم يقتصر على السكوت عن الاحتلال الأندونيسي لتيمور الشرقية، بل اتخذ صفة الاعتراف الرسمي بإلحاق الجزيرة أيضا. غير أن نفاق عقود الحرب الباردة تواصل هنا وهناك في العالم، بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، وكانت تدور على مستوى المخيلة وحدها في واقع الأمر. وهكذا، بات في وسع المرء أن يتابع النفاق الغربي تجاه ما جرى في تيمور الشرقية، وكأنه لا يتابع أي جديد، أو كأن الاستفتاء الذي نظمته الأممالمتحدة، وأسفر عن رغبة 87.5 في المائة من أبناء تيمور الشرقية في الاستقلال عن أندونيسيا، لم يكن أكثر من رياضة عابرة مارستها المنظمة الدولية ذات نهار؛ لكي يحل النهار التالي فتحولها الميليشيات الأندونيسية، المدعومة من الجيش والأجهزة الأمنية وبيوتات المال والاستثمار، إلى باطل وقبض الريح. والحال أن ماضي تلك السياسة الأمريكية لم ينقطع عن حاضرها الراهن، فتوفر للإنسانية دليل جديد على أن النفاق الأمريكي أزلٌ لا يزول، حين بادرت إدارة أوباما إلى اتخاذ خطوة تجاه عسكر إندونيسيا، كانت مفاجئة صاعقة بقدر ما هي وقحة بغيضة، لم يتجاسر الرئيس السابق جورج بوش الابن على اتخاذها، رغم أن لعاب الكثيرين من مستشاريه الصقور والمحافظين الجدد بخاصة، سال شهوة إليها؛ فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية استئناف تدريب وتسليح «قيادة الوحدات الخاصة»، المعروفة بالاسم الرهيب Kopassus؛ وذاك قرار كسر حظرا أمريكيا دام 12 سنة، وفُرض استنادا إلى «قانون ليهي»، نسبة إلى عضو الكونغرس باتريك ليهي، الذي يحظر تسليح أو تدريب وحدات عسكرية أجنبية تنتهك حقوق الإنسان (وهو القانون الذي جعل إدارة بوش تتردد، ثم تمتنع عن إعادة تدريب الوحدات ذاتها!). وكانت هذه الوحدات الخاصة قد تأسست سنة 1952 لتكون جيشا خاصا داخل الجيش، يتولى مهام التدخل المباشر في العمليات العسكرية غير التقليدية، وأعمال قمع العصيان والتظاهر، ومحاربة الإرهاب، وجمع المعلومات الاستخبارية؛ فضلا عن «المهام المستورة» القذرة، مثل الاعتقال والتحقيق والتعذيب والتصفيات الجسدية. وسِجِلُّ الKopassus ليس حافلا بانتهاك مختلف تصانيف حقوق الإنسان فحسب، بل لا يكاد أي انتهاك شائن للحريات والحقوق، على كل صعيد، يخلو من بصمات تلك الوحدات؛ هذا فضلا عن دورها في قمع أعمال التمرد أواخر الخمسينيات، والحملة العسكرية ضد غينياالجديدة سنة 1960، والمواجهة مع ماليزيا خلال سنوات 1962 - 1966، وتنفيذ مذابح الشيوعيين سنة 1965، وغزو تيمور الشرقية سنة 1975... وما يضيف بُعدا بالغ الخطورة على خطوة إدارة أوباما هو حقيقة أن استئناف تدريب وحدات ال Kopassusيشكل انحيازا صريحا إلى صف العسكر، على حساب المدنيين والسياسة عموما، في معركة قديمة متجددة لا تخمد نيرانها حتى تستعر من جديد. وكانت تلك المعركة قد تبلورت واتخذت وجهة عملية وعملياتية منذ اصطفاف الرئيس الأسبق يوسف حبيبي مع الجنرال ويرانتي ضد غالبية أحزاب المعارضة والمجتمع المدني. ولم يفلح انتخاب الرئيس عبد الرحمن واحد، وعزل ويرانتي نفسه وتقديمه إلى المحاكمة بتهم إساءة استخدام السلطة وانتهاك حقوق الإنسان والفساد، في تقريب الهوة بين العسكر والمدنيين، فهي في حال متفاقمة تشهد عليها سلسلة المآزق الراهنة التي تشهدها البلاد. والشقاق بين المدنيين والعسكر يدور حول السياسة والاقتصاد والمجتمع، وحول هوية أندونيسيا بعد الرئيس الأسبق سوهارتو، وكان محض تفصيل طبيعي أن يجد الكثير من تعبيراته في موقف العسكر الرافض لإنهاء نحو ثلاثة عقود من الاحتلال الأندونيسي لتيمور الشرقية. كذلك، حرص العسكر على ضرب تيمور الشرقية أمثولة قصوى لكل مَن تسول له نفسه أمر الخروج عن الاتحاد الأندونيسي المقدس، إذْ من المعروف أن البلاد تتألف من 13 ألف جزيرة، وتقوم بنيتها على فسيفساء معقدة (اجتماعية واقتصادية وإثنية ومذهبية ولسانية) لأكثر من 238 مليون نسمة، كان سوهارتو قد أحسن ضبطها بوسيلة القمع والانضباط العسكري تحديدا. وليس خافيا على أحد أن هذه الأمة الأرخبيل، كما يحلو لبعض المراقبين الغربيين وصف البلاد، عانت وتعاني من هيمنة الأقلية الجاوية التي ساندها سوهارتو وأدام سلطتها طيلة 32 سنة من الدكتاتورية العسكرية. الجيش الأندونيسي لم يتوقف عن استنباط تلك الكيمياء القوموية الشوفينية بالذات، والجنرالات هم الذين أشرفوا على تشكيل ميليشيات موالية لأندونيسيا في تيمور الشرقية، لم يكن يُعرف لها أي وجود قبل بدء الأممالمتحدة في تنظيم الاستفتاء على الاستقلال. كذلك، أشرف الجيش على تسليح تلك الميليشيات، وتدريبها، ونشرها في العاصمة التيمورية ديلي، على نحو لوجستي يسمح بممارسة الضغط المادي على التيموريين، والضغط الأدبي والإعلامي على المنظمات الدولية وممثلي وسائل الإعلام العالمية. والأرجح أن هدف الجيش من تخطيط كهذا كان، ويظل، توجيه رسالة إلى القوميات الأخرى التي انتظرت نتائج استفتاء تيمور الشرقية قبل ابتداء أية خطوة ملموسة على طريق المطالبة بحقوق مماثلة. ولكي لا يبدو أوباما وحيدا، كانت إدارة أمريكية ديمقراطية أخرى، سيدها الرئيس الأسبق بيل كلنتون، هي التي اختارت الانحياز إلى العسكر في معظم الملفات التي تخص ماضي وحاضر ومستقبل أندونيسيا؛ فاستمعنا إلى مستشار الأمن القومي آنذاك، ساندي بيرغر، يقول التالي في تمييز إندونيسيا عن سواها: «إنها رابع أكبر دولة في العالم. وهي تمر في مرحلة انتقال سياسي واقتصادي هش، ولكنه هائل الأهمية. والولاياتالمتحدة تدعم بقوة ذلك الانتقال. وحل هذه الأزمة لا يهم تيمور الشرقية وحدها، بل يهم إندونيسيا بأسرها». وفي الواقع، كان تشخيص بيرغر يستبطن الرسالة التالية: ما يجري في تيمور الشرقية من تنكيل بالتيموريين مسألة تتصل مباشرة بالصراعات السياسية الداخلية في أندونيسيا، قبل أن تكون مسألة ذات صلة بحكاية حق التيموريين في تقرير المصير. هل ثمة مقارنة، وربما سلسلة مقارنات، مع حفظ الفوارق، بين حاضر الموقف الأمريكي من الملف السوري وماضي الموقف الأمريكي (الذي ما يزال حاضرا، عمليا) إزاء تيمور الشرقية؟ إذا عزت معطيات المقارنة بين البلدين، وتباعدت الفوارق وتنافرت الحقائق، فإن حكمة السياسة الخارجية الأمريكية ما تزال على حالها، ثابتة لا تحول. لكل نزاع مقدار خاص به من النفاق، مقابل السياسة العملية النفعية «الواقعية»، يقتضيه المقام الخاص بدوره! صبحي حديدي