جزاء سينمار.. هي الحكمة العربية التي تفسّر المنهج الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة مع حلفائها غير الغربيين، و«الميكافيلية» هي المفهوم الغربي الذي يفسّر هذه المنهجية، منهجية اللا منطق، حيث لا وجود مطلقا لمبادئ الوفاء بالعهد أو المعاملة بالمثل أو حماية الأصدقاء (العملاء). لا وجود لصداقة تدوم مع أحد. لا وفاء يستمر. لا مكان لحليف أو صديق.. المعيار الوحيد هو المصلحة الأمريكية، التي تخلو من الأخلاق والصداقة والأعراف والتقاليد. منطق الغدر بالعميل والحليف، الذي أفنى عمره ونفسه في خدمة بلاد «العمّ سام». منطق اللا وجود لحقوق الإنسان أو أي مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبها بأي شيء يتعلق بالإنسانية.. منطق الغدر برجال أوجدتهم الولاياتالمتحدة لقمع شعوب أوطانهم خدمة لمصالحها في المنطقة لتتخلى عنهم سريعا بتُهَم مختلفة بين إيواء طالبان والإرهاب والتجسس والاتجار في المخد رات، بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم أو تراجع قوتهم ونفوذهم أمام قوى المعارضة أو ظهور البديل الآخر، الذي يمكنه أن يقدم خدمات أفضل... عملاء وحلفاء تخلّت عنهم أمريكا لصالح بديل وحليف آخر ووضعتهم في كفّ مزادها العلني ليتم «بيعهم» بأبخس الأثمان، بعد أن اعتقدوا لبرهة ولحظة صغيرة أن قوة الولاياتالمتحدة يمكن أن تضمن لهم الاستمرار في السلطة ونسوا وتناسوا أن الضمانة الوحيدة هي ضمانة الشعب وأن السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب فقط وليست سلطة «العم سام».. إنهم، باختصار، رجال وحلفاء في المزاد العلني الأمريكي... كان حليفا استراتيجا للولايات المتحدةالأمريكية.. تفنّن الإعلام الغربي في تزيين صورته ورسمه كملاك حارس للبلاد والعباد، منقذ أبدي لها من الدمار والقهر الذي كانت ترزح تحته نتيجة حكم الاستعمار الهولندي ومن بعده حكم الرئيس الأول للدولة سوكارنو، أضحى الحارس الأمين لواشنطن وامتدادا استراتيجيا وأمنيا واقتصاديا لها، متعهدا بخدمتها لمحاربة المدّ الشيوعي في أندونيسيا وما حولها. وعندما سقط ووجدوا البديل والحليف الآخر تكالب عليه الجميع وعلى رأسهم أمريكا التي أخذ إعلامها يتفنّن في تشويه صورته التي زيّنها للتو، فكشف عيوبه وأضراره لشعبه، ووصفه بالديكتاتور واتهم بالفساد وإساءة استعمال السلطة، بل اتهمه بالتحالف مع المدّ الشيوعي في المنطقة بعد أن بقي محاربا لهذا المدّ لسنوات ومنذ اللحظة التي قاد بها انقلابه العسكري، وبمساعدة المخاربرات المركزية الأمريكية، على رئيس اندونيسيا الشرعي سوكارنو عام 1968.. رجل الفتوحات هو الفلاح الرئيس ورجل الفتوحات كما أطلق عليه الرئيس الأول لاندونيسيا سوكارنو، ذلك الفلاح البسيط الذي أطلق عليه والده اسم سوهارتو لحظة ولادته بأحد حقول جزيرة جاوا في العام 1921 وعاش حياته متشرّدا ومتنقلا بين أمه وأبيه وأقاربه، نتيجة انفصال والديه وهو لا يزال رضيعا. لكن تلك الظروف خلقت لديه نوعا من المناعة الذاتية والجلد، وخلقت لديه ميلا إلى التسلط، فشبّ سريعا محبّا لمقارعة الآخرين لا يحب الاستسلام أبدا، عصاميّا في كل شيء حتى التحق بإحدى بنوك الجزيرة، التي سرعان ما انتقل منها إلى العمل في جيش الاحتلال الهولندي في العام 1940 والذي دخل أسطوله البلاد ابتداء من العام 1596 بعد أن استعانت به الجزيرة لتخليصها من الاحتلال البرتغالي والإسباني. معركة الكشوفات الجغرافية في الوقت الذي بدأ فيه المسلمون يثبتون أقدامهم في اندونيسيا كانت أنظار الاستعمار الأوروبي قد أخذت تتجه إلى تلك الجزر الغنية بالموارد الطبيعية، وأخذت تزحف إليها بجيوشها في إطار ما سمي آنذاك (حركة الكشوفات الجغرافية) فاحتلّ البرتغاليون مالطا في العام 1511 واتخذوا منها قاعدة لشنّ هجماتهم على باقي الجزر الأندونيسية، مما أدى إلى قيام الثورة الأندونيسية التي استعانت في جهادها ضد الاحتلال البرتغالي بالجيش الهولندي، الذي سرعان ما لبّى النداء وأنزل أسطوله الحربي بجزيرة سومطرة وجاوة بدايات العام 1596 حيث أجبرت القوات الغازية (البرتغالية) على الخروج من اندونيسيا، لتبدأ حالة من الاستعمار الجديد من طرف الهولنديين الذين عمدوا إلى مباغتة الشعب الاندونيسي وأخذوا شيئا فشيئا يشدّدون قبضتهم على الأراضي باستغلال مواردها مجبرين في الوقت نفسه السكان على زراعة محاصيل معينة طبقا لاحتياجاتهم، ليستمر ذلك الحكم والاحتلال قرنا ونصف القرن حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية ووقعت اندونيسيا من جديد تحت سيطرة القوات اليابانية، التي عملت على التقرب إلى الشعب الأندونيسي بعد أن عمدت إلى إحلال اللغة الملاوية محل الهولندية واستبدلوا اسم العاصمة من «بتافيا» إلى جاكرتا. لكن القمع والغطرسة التي مارستها القوات اليابانية لم تكن بعيدة عن تلك التي مارسها كل من البرتغاليين والهولنديين لحظات الاحتلال، فما هي إلا أشهر قليلة حتى سارت الأمور على النحو السابق وبدأ اليابانيون بتغيير وجوههم وإزالة الأقنعة التي طالما غطّت وجوههم وأخفت غطرستهم، فعمدوا إلى حلّ الأحزاب السياسية واستغلال موارد البلاد لصالحهم بطريقة مماثلة لسابقيهم من البرتغاليين والهولنديين، لتنجو بذلك البلاد بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية ويتم الإعلان عن استقلال اندونيسيا وقيام حكومة اندونيسية برئاسة أحمد سوكارنو في غشت 1945. وبما أن سوهارتو كان قد اكتسب صفات العسكرية وما بها من مكر وخداع، فقد استغل ذلك قبل استقلال البلاد ولدى انخراطه في صفوف الجيش الياباني محاولا تأسيس أولى لبنات الجيش الأندونيسي الذي رأى النور يوم الاستقلال عام 1945 بعد استسلام جيوش اليابان وإعلان استقلال اندونيسا. حزب ماشومي بعد انتهاء الحرب بقليل، وإعلان استقلال اندونيسا أقنعت جيوش الحلفاء هولندا بضرورة العودة وفرض سيطرتها من جديد على الجزر الاندونيسية الغنية، ونجحت في دخولها تحت مظلة جيوش الحلفاء ووصلت إلى جاكرتا في أكتوبر 1945 بدعوى حفظ الأمن والنظام، ولكن رفض الشعب الاندونيسي لمثل هذا الاحتلال الجديد بعد إعلان الاستقلال ترتبت عنه مظاهرات عارمة شهدتها البلاد ودعت إلى انعقاد الاجتماع الأول للأحزاب الأندونيسية، الذي تم الاتفاق من خلاله على التكتل تحت تنظيم إسلامي أطلق عليه «مجلس مسلمي اندونيسيا أو حزب ماشومي»، لتسارع هولندا إلى اعتقال رجالاته ومنهم الرئيس سوكارنو نفسه وبدأت البلاد تشهد موجة من الكرّ والفرّ أسوة بحرب العصابات والشوارع ضد القوات الهولندية التي أجبرت حكومتها على سحب قواتها والاعتراف بالحكومة الأندونيسية المنتخبة. اذهبوا إلى الجحيم مع مساعداتكم بتأسيس حزب ماشومي نجحت الولاياتالمتحدة عبر أجهزة مخابراتها في الاندساس في صفوف رجالاته وإيجاد موطىء قدم داخل الحكومة الجديدة لفرض سيطرتها وسياساتها التعسفية القاضية بالاستيلاء على الموارد الاندونيسية الغنية، وسارع سوكارنو، الذي تولّى مهام رئاسة البلاد، إلى تعيين عامر شرف الدين لتولى مهام رئاسة الحكومة ليوافق بذلك على مطالب الشيوعيين ضدا في بعض فئات الشعب وضدا في إرادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي كانت تعارض المدّ الشيوعي في المنطقة، وبالتالي قام رجالها المندسّين باختلاق الحيل والمكائد وزعزعة الاستقرار في البلاد، فخرجت الألوف إلى الشوارع تطالب بتنحي الرئيس سوكارنو من منصبه وإقالة الشيوعي عامر شرف الدين من رئاسة الحكومة، معلنين بذلك قيام حكومة جديدة في شتنبر 1948 وقيام جمهورية جديدة. بعد يومين فقط أقال الرئيس سوكارنو عامر شرف الدين من رئاسة الحكومة، ومنح بذلك صلاحيات واسعة لقائد الجيش، آنذاك، سوهارتو للقضاء على هذه الثورة التي أضحت تخرج وتنادي باستقالته بين الفينة والأخرى. نجح سوهارتو في إخماد تلك الثورة، وتمت الدعوة إلى انتخابات جديدة عام 1955 بغية إشراك الشيوعيين فيها لإرضاء الجميع من فئات الشعب، فوقف حزب ماشومي، من جديد، في وجه الرئيس سوكارنو متهمين إياه بالتعاون مع الدول الشيوعية وفتح الباب على مصراعيه لهم، وبالتالي أخذوا يتعقبون أخطاءه أينما حلّ وارتحل بإيعاز من رجال واشنطن وعملائها المندّسين داخل حكومته وصفوف حزبه وأثاروا بذلك الشعب ضدّه تمهيدا لإيصال حليفهم ورجلهم الجديد سوهارتو إلى سدّة الحكم، بعدما وصل إلى رئاسة الجيش، مقنعا بذلك الرئيس سوكارنو بالتنازل عن صلاحياته لصالحه بعد اشتداد المرض به وسوء حالته وضغط الشعب المتزايد ضده، وتزايد المطالب الدولية الداعية إلى تنازله عن السلطة بعد أن أطلق جملته الشهيرة في وجه الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1963 حينما قال: «اذهبوا إلى الجحيم مع مساعداتكم» ليصبح بذلك سوهارتو وبمساعدة المخابرات الأمريكية الرئيس الفعلي والثاني لجمهورية اندونيسا بعد الاستقلال. النمور الآسيوية بتوليه رئاسة البلاد، تمكن سوهارتو من كسب ثقة الشعب بعد أن عمد إلى قطع كل العلاقات السابقة لنظام سوكارنو مع الاتحاد السوفياتي والشيوعية، وقام باحتلال تيمور الشرقية في العام 1975 وسعى إلى تشكيل مناخ سياسي واقتصادي ذي سند عسكري يقطع كل صلة بينه وبين الماضي المتمثل في الرئيس السابق أحمد سوكارنو، كما عمل على تطوير برنامج اقتصادي شهدت من خلاله اندونيسيا تقدما اقتصاديا ملحوظا انعكس على المنطقة الآسيوية وظهرت نتيجة لذلك مجموعة من النمور الآسيوية التي استطاعت أن تحقق ازدهارا اقتصاديا كبيرا وجعل معها اندونيسيا (باعتبارها إحدى هذه النمور) تقترب من قائمة الدول الصناعية الكبرى، لكن الرياح جاءت بعكس ما تشتهيه سفن سوهارتو، فسرعان ما شهدت المنطقة الآسيوية نفسها أزمة اقتصادية خانقة ابتدأت منذ العام 1996 لحظة تعرض الاقتصاد التايلاندي لأزمة مفاجئة وعنيفة كشفت معها ضعف هيكلة الجانب المالي، فانخفضت بالتالي قيمة الروبية الاندونيسية بعد أن انتقلت الأزمة إليها وأصابت الاقتصاد في مقتل، وظهرت حالة من الاختناق تحولت إلى انتقادات وانتفاضات وغضب جماهيري، واختلطت مطالب الحريات بشدّة الأزمة الاقتصادية وبدأ حكم سوهارتو يتجه نحو المجهول بعد أن أضحت مصالح البلاد ومن قبلها مصالح الولاياتالمتحدة في خطر محدق. الكيل بمكيالين ببروز الأزمة الاقتصادية، وبعد أن قرّر سوهارتو تجاوزها والالتزام بالتعهدات التي قطعها على نفسه تجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية، أخذت هذه الأخيرة في توجيه الاتهامات له والكيل له بمكيالين، وبدأت أولى تلك الاتهامات، وبضغط من واشنطن، من طرف المؤسسات المالية التي كان من أبرزها الخلاف مع صندوق النقد الدولي في ما يتعلق بضرورة الفصل بين المهام السياسية والأعمال الاقتصادية، إلى جانب اتهامه بالفساد والنصب والاحتيال والاختلاس، كونه يملك 80 شركة عملاقة و80 مليار دولار في قائمة رصيده المالي، كل ذلك رغم محاولاته الدؤوبة في ردّ تلك الاتهامات، مبرزا دوره الأساسي في محاربة الشيوعيين والأصولية الإسلامية لتأمين دعم المجموعة الدولية والولايات المتّحدة، مقنعا نفسه على الدوام بأن مهمته الأساسية تنحصر في الحفاظ على وحدة الأرخبيل وضمان الأمن والتطور فيه، ضاربا بعرض الحائط كافة النداءات الدولية والأمريكية التي أطلقتها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان نظرا للانتهاكات التي ارتكبها في تيمور الشرقية التي احتلتها قواته بعد خروج القوات البرتغالية منها عام 1975.. نهاية الحليف والعميل رقم 7 كانت الانتقادات التي أخذت توجّه إلى سوهارتو قد جاءت مدعومة من الولاياتالمتحدة التي كانت إلى وقت قريب من أشهر الداعمين لسياساته، بحيث أطلقت عليه ضمن سجلاتها المخابراتية اسم العميل رقم 7 نظرا لفوزه في سبع فترات رئاسية متتالية استمرت حتى العام 1998، وعمدت الانتخابات الرئاسية الجديدة التي أجريت في 21 ماي من العام 1998 إلى إرغام سوهارتو على التنحي عن السلطة نظرا للمدّ الجماهيري المناهض له ولحكمه، بعد أن تخلّى عنه الجيش على خلفية الأزمة الاقتصادية رغم إجراءات التقشف التي أعلن عنها سوهارتو طبقا للتعديل الوزاري الذي اختار فيه يوسف حبيبي المقرّب من الشعب نائبا له، لكن استقالته كانت الأقرب، حيث أعلن سوهارتو الاستقالة من منصبه والتحق بإحدى الإقامات الخاصة رفقة أسرته بأحد أحياء جاكرتا متواريا عن الأنظار والظهور الشعبي بعد أن طلبت منه مادلين اولبرايت طبقا لفرمانها الشهير: «عليك الاستقالة حفاظا على تراثك القيادي.. عليك أن تتخلّى عن الحكم كأي جنتلمان... ونأسف لما حصل لكن كان علينا أن نحدث تغيّيرا من أعلى حتى لا يحدث تغيير من أسفل...» لتخرج بعد يومين فقط مجلة التايم الأمريكية في صفحاتها الأولى بتقرير يعزّز خيانة سوهارتو لشعبه ومهمته كرئيس للبلاد متهمه إياه بالاحتيال وتهريب الأموال العامة التي قدرت حينها ب15 مليار دولار أمريكي قبل أن يخرج الشعب في مظاهرات عنيفة عمّت البلاد تطالب بمحاكمته عن تلك الجرائم وإعادة الأموال إلى الشعب الاندونيسي، وبدأت بذلك أولى فصول محاكمته في العام 2002 قبل أن تتوقف لبرهة بعد تقرير أطبائه الذي أفاد بإصابة سوهارتو بمرض في الدماغ، لتعود الفصول من جديد بداية العام 2005 وتستمر محاكمته دون إصدار