- هناك أسباباً أخرى جيدة غير الحنين إلى الماضي تجعل من النجاح الإندونيسي مصدر إلهام ودروس مستفادة لمصر. بحث واضعو السياسات والخبراء عن الثورات السابقة حول العالم، في إيران وروسيا وتركيا، لمحاولة المقارنة بينهم و بين بثورة مصر وتحديد الإمكانيات والصعوبات التي ستعترض مسارها في أثناء سعي المصريين إلى قلب نظامهم السياسي، لكن البيت الأبيض أولى اهتماماً خاصاً بإحدى التجارب وهي تجربة إندونيسيا. منذ الأيام الأولى للثورة المصرية والبيت الأبيض يبحث في هدوء عن آراء الخبراء في الشأن الإندونيسي، بما فيهم رأي كاتبة هذه المقالة، بهدف الوصول إلى فهم أفضل لسيناريو التحول الديمقراطي في إندونيسيا، ولا شك أن جزءً من الدافع وراء هذا التوجه يعود إلى تجربة الرئيس باراك أوباما الشخصية لأنه قضى في إندونيسيا بعض سنوات طفولته التكوينية، لكن هناك أسباباً أخرى جيدة غير الحنين إلى الماضي تجعل من النجاح الإندونيسي مصدر إلهام ودروس مستفادة لمصر. كان هناك كماً هائلاً من العوامل المشتركة بين مصر في عهد حسني مبارك وإندونيسيا في عهد سوهارتو، إندونيسيا فيها أكبر شعب مسلم في العالم ومصر فيها أكبر شعب عربي؛ كلاهما موطن لأغلبية مسلمة من السكان مع وجود أقلية مهمة من غير المسلمين؛ وكل من مبارك وسوهارتو جاء من الجيش واستلم الحكم (مع الدعم الأمريكي) في وقت وطني عصيب؛ وكل منهما استخدم آليات سياسية علمانية ووطنية بهدف احتكار السلطة؛ وكلاهما احتفظ بتأييد الجيش من خلال رعاية سياسية ومالية مكثفة؛ وكلاهما جعل من القوى السياسية الإسلامية أعداءً شيطانية وحكم عليها بالعمل في السر؛ وكلاهما أحكم سيطرته على الإعلام والمعارضة وكل أشكال الانشقاق؛ وكلاهما جمع ثروات طائلة أثناء وجوده في السلطة؛ وكلاهما قام بتلميع وتجهيز ابناً له ليخلفه في السلطة؛ وكلاهما كان يتمتع بدعم الولاياتالمتحدة والفضل في ذلك يعود للحسابات الجغرافية الاستراتيجية أو الجيو-استراتيجية. ومسار الثورة في كل من البلدلين كان أيضاً متشابهاً لدرجة كبيرة جداً، ففي كلا البلدين: كانت عوامل خارجية هي السبب في شرارة الثورة الأولى التي أخرجت الناس إلى الشوارع (الأزمة المالية الآسيوية بالنسبة لإندونيسيا والأحداث التونسية بالنسبة لمصر). الدور القيادي في المظاهرات قام به الشباب الذي أصبح ساخطاً على الفجوة بين التنمية السياسية والنمو الاقتصادي وساخطاً على النمو الاقتصادي الذي عاد بالنفع الكبير غير العادل على فئة من النخبة المحيطة بالرئيس. فشل التحرش بالمتظاهرين وحتى قتلهم في إنهاء المظاهرات، ولم تنجح عمليات السلب والنهب والشغب إلا في ترسيخ الرأي العام ضد النظام الحاكم. كان للأدوات الموجودة على الانترنت الدور في إتاحة مساحات جديدة للناس من أجل تبادل الآراء والمعلومات، تمثّل ذلك في غرف الدردشة في إندونيسيا ومواقع التواصل الاجتماعي في مصر. أثبتت التنازلات التي تقدم بها الرئيسان أنها قليلة جداً ومتأخرة جداً، ومنها التعهد بانتخابات جديدة لن يترشح فيها الرئيس. عندما واجه الجيش الاختيار الحتمي بين استخدام العنف لإنهاء المظاهرات أو الدفع بأحد أبنائه خارج الحكم اختار الخيار الثاني في النهاية. ولعل أكثر المتشابهات التي تثير التعجب بين مبارك وسوهارتو هي أن كلاهما تنحى عن الحكم بعد أسبوعين ونصف تماماً من خروج المتظاهرين إلى الشوارع. لكن المستقبل المجهول الناتج عن سرعة هذه المستجدات في بلد مسلم كبير يحوي شبكات سرية إسلامية، والذي شعر به جانب من المجتمع المدني وبعض وجوه المعارضة المعروفة الديمقراطية والليبرالية، تسبب في إثارة الخوف من أن ما سيأتي في مصر سيكون متعارضاً مع المصالح الأمريكية، ولكن مثل هذا الخوف نشأ أيضاً في إندونيسيا عام 1998، والذي حدث هناك يوحي بأن هذا الاستنتاج ليس صحيحاً بالضرورة. التحديات التي تواجه مصر تتشابه بجدارة مع تلك التي واجهت إندونيسيا: كيف ينتقل الجيش إلى ثكناته مرة ثانية؟ كيف يتم إصلاح الدستور والنظام الانتخابي للسماح باتنخابات حرة ونزيهة في الوقت المناسب؟ كيف يتم تسهيل نشوء الأحزاب السياسية في وقت ضيق للتأكد من تمثيل كل الأصوات في الانتخابات القادمة؟ كيف تُدار عملية دمج المجموعات الإسلامية بحيث تتسع الحرية والتنمية الديمقراطية؟ كيف يتم بناء صحافة ليست مجرد حرة وإنما مسئولة أيضاً وقادرة على القيام بدور الرقابة والمساءلة في ظل نظام ديمقراطي جديد؟ الأخبار المبشرة هي أن إندونيسيا نجحت بتفوق في الكثير، إن لم يكن كل ما سبق، ومن الذكاء أن تدرس إدارة أوباما المثال الإندونيسي، وعلاوة على ذلك استطاعت الولاياتالمتحدة أن تلعب دوراً مهماً في دعم التحول الإندونيسي إلى الديمقراطية بالرغم من مساندتها الطويلة للنظام السابق. وقد ساعدت، بصفتي عضوة في إدارة الرئيس كلينتون، في صياغة سياستنا المختصة بإندونيسيا أثناء السنة الأولى الحرجة وقضيت عدة أشهر هناك في الفترة التي سبقت الانتخابات الأولى، وبعض الدروس المستفادة المهمة من تلك التجربة تفرض نفسها الآن: الجداول الزمنية لها أهمية كبيرة. انتقل الحكم إلى نائب الرئيس بشارالدين يوسف حبيبي بعد استقالة سوهارتو وفي غضون يومين أعلن حبيبي جدولاً زمنياً واضحاً للانتخابات والإصلاح السياسي، وكان من شأن إعلان هذا التاريخ المؤكد للاقتراع أنه أزال التوتر القائم، وفي مصر أصبح الجيش الآن هو القوة الانتقالية لكن يجب عليه بسرعة تحديد تاريخ للانتخابات، ولخروجه من السلطة. الإصلاح الحقيقي يحتاج وقتاً. كل أنواع الإصلاح تحتاج إلى وقت؛ الإصلاح الدستوري والانتخابي وتأسيس الأحزاب السياسية وإنشاء بنية تحتية ومبادىء أساسية للأحزاب وإنشاء لجنة انتخابات مستقلة، ففي إندونيسيا جاءت الانتخابات البرلمانية الأولى في 7 يونيو 1999 أي بعد سنة كاملة وأسبوعين من تنحي سوهارتو، وحتى في هذه الحالة كان الأداء الأفضل للأحزاب السياسية القائمة من قبل الثورة وليس للجديدة، وبالتالي فإن تم استعجال العملية في مصر فالمنافسة ستصبح محصورة بين الحزب الوطني الديمقراطي والإخوان المسلمين، لذلك يجب على اللواءات أن يحاولوا تحقيق التوازن بين مدة مناسبة للفترة انتقالية وبين استدامة أثر الفترة الانتقالية من حيث إعطاء الفرصة المطلوبة لكل فئات المجتمع لتستعد للمنافسة. أشركوا الإسلاميين. من المفهوم أن يشعر كثيرون بالقلق نتيجة دخول جماعة الإخوان المسلمين إلى الملعب السياسي ببرنامجها الإسلامي المحافظ وكراهيتها تجاه إسرائيل والولاياتالمتحدة، وفي إندونيسيا نشأ سريعاً حزب سياسي يقتدي بمثال وتعاليم الإخوان المسلمين في مصر وأثبت أنه أحد أقدر الأحزاب على الانضباط والتنظيم من بعد سقوط سوهارتو. لكن بعد ثلاث جولات انتخابية وجد ذلك الحزب، وهو حزب العدالة والرفاهية، أنه وصل إلى ذروة دعمه الشعبي بحد أقصى 8 % من أصوات المنتخبين، والسبب أن بدخوله الساحة السياسية الرسمية أصبح مشاركاً في نفس النشاطات غير اللائقة التي تصف العمل السياسي التقليدي في إندونيسيا (وفي أي مكان آخر) التي تشمل جمع الموارد المالية والفساد وعقد الصفقات والتشهير، بالتالي تآكلت مع الزمن طهارة اليد في مساعي الحزب إلى الفضيلة في العمل السياسي، واليوم أصبح أكثر الناس يرون الحزب على أنه مجرد لاعب سياسي عادي (وإن كان أكثر اللاعبين محافظةً وتأثراً بالإسلام في برنامجه). بالطبع ليس التشابه متطابقاً بين مصر وإندونيسيا لأن الإخوان في مصر أكبر حجماً وأكثر تنظيماً والأحزاب الوطنية العلمانية مقصورة الآن على الحزب الوطني الديمقراطي (في حين أن إندونيسيا فيها حزبان سياسيان آخران منذ عقود ولهما قواعد قومية بالرغم من أن النظام ظل منغلقاً في الواقع)، ويمكن القول أن قوة الإخوان المسلمين وجاذبيتهم في مصر تعود جزئياً إلى أنهم كانوا القوة السياسية الوحيدة المنظمة في مواجهة النظام، وأعطاهم الحظر المفروض عليهم ووقوفهم في وجه الدكتاتورية نوعاً من البريق الساحر، لكن الذي اتضح في إندونيسيا هو أن إدراج مثل هذه المجموعات في مجال السياسة الرسمي يمكن أن يحقق الكثير على طريق إزالة الغموض عنها وإنزالها إلى مستوى البشر العاديين، واتضح أيضاً أن الوقت يمكنه العمل ضد هذه المجموعات بافتراض أنه يسمح للبدائل ذات المصداقية أن تتأسس وتنمو. يجب أن يتولى المصريون دفة القيادة. يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً مهماً في دعم تحول مصر إلى الديمقراطية، فقد ساهم كل من الولاياتالمتحدة وأستراليا واليابان وشركاء آخرين بمساعدات مهمة مادية وفنية للمساعدة في تحضير إندونيسيا للانتخابات عام 1999، وقدم عدد من استشاريي المنظمات الداعمة للديمقراطية في الولاياتالمتحدة التدريب للأحزاب الجديدة ورموز المعارضة والجهات الإعلامية ومجموعات المجتمع المدني، لكن بينما تستطيع البلاد الأخرى أن تساهم بخبرتها المهمة فلا غنى عن أن يشعر المصريون بأنهم يتحكمون في دفة القيادة، فيجب إذاً على شركاء مصر أن يبذلوا كل الجهد في تحقيق التوازن بين الدبلوماسية العامة والخاصة أثناء تقديم الدعم في الأسابيع والأشهر القادمة، وأن ينسقوا الدعم والخطاب فيما بينهم في الأماكن والأوقات المناسبة، والإندونيسيون يفهمون هذه المسائل الدقيقة جيداً ولذلك فهم مؤهلون تماماً لمساعدة المصريين عن طريق تقديم النصيحة لهم بخصوص الإمكانيات والصعوبات الواقعة على الطريق. --- كارين بروكس هي المدير السابق للشؤون الاسيوية في مجلس الأمن القومي في الولاياتالمتحدة المصدر: عن موقع ميدان مصر