منذ سنوات، وسكان الشمال عموما، وطنجة بالدرجة الأولى، أضحوا يحملون هم موسم المطر الذي لا يأتي بالضرورة بالخير فقط، فرغم أن مدينة طنجة مثلا تشكل ثاني قطب اقتصادي في البلاد، إلا أن زخات المطر الأولى غالبا ما تحول المدينة إلى بركة كبيرة، كاشفة بذلك واقع بنيات تحتية أقل ما توصف به هو أنها متقادمة ولم تواكب النمو العمراني والديموغرافي. يوم ممطر جديد زار طنجة ومناطق أخرى في الشمال، أول أمس الأربعاء، مخلصا لموعده الذي لا يخلفه، والذي حذرت منهم هذه المرة مديرية الأرصاد الجوية، لكن ذلك ما كان ليدفع عن المنطقة معاناتها السنوية مع السيول التي أغرقت الشوارع واقتحمت المنازل والمتاجر والمدارس... في انتظار «غودو» الإصلاح الذي وعد به برنامج «طنجة الكبرى» ومشاريع أخرى قبله. شوارع تغرق خرجت مديرية الارصاد الجوية، بنشرة إنذارية يوم الثلاثاء تحذر من تهاطل تساقطات مطرية غزيرة بمدن طنجة وأصيلة والعرائش وشفشاون والقصر الكبير وإقليم الفحص -أنجرة، وهي الأمطار التي أوردت النشرة الإنذارية أنها قد تصل ل100 مليمتر، مع رياح قد تتجاوز 60 كيلومترا في الساعة... هذه النشرة ما كان لها أن تنقذ المنطقة من المصير المحتوم، لكن ذاكرة السكان، وتحديدا بطنجة، عادت إلى شتاء سنة 2008، عندما غرقت جل أحياء المدينة وقضى 4 أشخاص على الأقل، في كارثة هي الأسوأ منذ عقود. وكما كان متوقعا شرعت الأمطار في التهاطل بعد فجر أول أمس الأربعاء، ولم تتوقف إلى في حوالي العاشرة صباحا، لتعاود التهاطل بعد الظهر، وهي سويعات كانت كافية ليشمل الطوفان أجزاء واسعة من طنجة، ويخنق حركة المرور بمجموعة من الشوارع الرئيسية، بالإضافة إلى ارتفاع مستويات المياه في أحياء شعبية عدة، خاصة بمقاطعتي بني مكادة ومغوغة، اللتان تضررت بهما منازل وممتلكات. وأدت التهاطلت المطرية الغزيرة إلى غرق محج محمد السادس المحاذي للشاطئ البلدي وهو أحد أهم الشوارع بطنجة، إذ يربط ميناء طنجة المدينة بمنطقة «مالاباطا»، وقد ارتفعت مستويات المياه بهذا الشارع إلى أن تسللت إلى بعض السيارات، وصارت حركة المرور فيه شبه مقطوعة. ساحات أخرى في وسط المدينة كان مسيرها مشابها، من بينها ساحة الجامعة العربية القريبة من الكرنيش، وبدرجة أقل ساحة تطوان الملاصقة للمحطة الطرقية، وهي أماكن اعتادت سنويا على الغرق في مياه الأمطار، التي اقتحمت مرة أخرى محالا تجارية وتسببت في اختناق حركة المرور. التساقطات المطرية غير المسبوقة شملت هذه المرة أحياء مقاطعة طنجة -المدينة، كمرشان وخوصافات التي غمرت الأمطار مساكن ومحالا تجارية بها، كما تضرر منازل بأحياء عدة بالمدينة القديمة، مثل بن يدر ودار البارود، والتي كان بعض سكانها يخشون من وقوع الأسوأ جراء تمركز العشرات من المنازل القديمة المهددة بالسقوط هناك. مقاطعتان منكوبتان! معاناة سكان كل أحياء طنجة مع الأمطار الطوفانية، مهما بلغت قسوتها، لن توازي تلك التي يتحملها سكان مقاطعتي بني مكادة ومغوغة، هكذا يردد لسان حال القاطنين بتلك المناطق، التي تتحمل كل سنة خسائر مادية جسيمة جراء ضعف البنية التحتية، التي باتت في نظر السكان أبرز دليل على حاجة طنجة لعمل شاق لمواكبة النمو السكاني المضطرد الذي تعرفه. بمقاطعة بني مكادة، المقاطعة الأكبر من حيث الكثافة السكانية، والمكونة بالأساس من أحياء شعبية وأخرى عشوائية، تسببت الأمطار من جديد في محاصرة السكان، بعدما غرقت ساحة بني مكادة بمياه الأمطار، والتي غمرت أيضا شارع القدس المؤدي إلى حي العوامة، ما عطل حركة المرور. وحاصرت الأمطار أيضا منازل بساحة دار التونسي التي غمرتها الأمطار، كما تسببت في غرق شوارع بحي العوامة حيث يوجد سوق الجملة المتضرر بدوره من الأمطار، والتي كشفت من جديد عن تردي بناياته التي لم يمر على إنشائها سوى 5 سنوات. وبالإضافة إلى المنازل التي غمرتها مياه الأمطار، كانت المحلات التجارية المتضرر الأكبر من هذا «الطوفان»، واختار مجموعة من التجار إغلاق محلاتهم التجارية وانتظار توقف التساقطات للاطلاع على حجم الخسائر التي بات حدوثها أمرا محسوما في كل موسم أمطار، غير أن سوق بئر الشعيري هذه المرة نجا من الغرق ككل سنة، واختار معظم تجاره مزاولة عملهم... وبالإضافة إلى ذلك سجلت أضرار بعشرات السيارات المركونة في الشوارع والتي غمرتها المياه وأتلفت أجزاء من محركات بعضها. أما في مقاطعة مغوغة فكان الأمر أكثر سوء، وخاصة ب»حومة الشوك»، الحي الشعبي المشتمل على عدد كبير من المنازل ناقصة التجهيز، حيث عانى السكان من ارتفاع منسوب المياه في مجرى مائي، هو في الأصل عبارة عن قناة صرف صحي مكشوفة، وقد تضررت مجموعة من المنازل التي تسربت إليها مياه الأمطار، خاصة وأنها كانت مختلطة بالقاذورات. ومن جديد عبر سكان الحي عن غضبهم من التجاهل الذي يعانونه منذ سنوات، مذكرين بأن مشكلة المجرى المائي تتكرر كل سنة، ليخرج مسؤولون جماعيون ليعدوا بإيجاد حل عاجل، وهي الوعود التي ما تفتؤ أن تذهب أدراج الرياح، وقد عمد بعض السكان إلى إنشاء جدران واقية من الطوب والإسمنت أمام أبواب منانزلهم، تفاديا لتسرب المياه إليها، بعدما ملوا من الوعود الكاذبة. معاناة التلاميذ كان تلاميذ عدد كبير من مدارس طنجة على موعد مع المعاناة جراء الأمطار الطوفانية التي تهاطلت على طنجة، إذ حاصرت المياه بعض المؤسسات التعليمية، وتسببت في حوادث بأخرى، واختارت مدارس تسريح التلاميذ قبل انتهاء الدوام خوفا من أن تحاصرهم مياه الأمطار المستمرة في الهطول. تلاميذ أحياء مقاطعة مغوغة، كانوا الأكثر تضررا، بعدما حوصروا لفترة بعد انتهاء حصصهم، قبل أن تحضر عناصر الوقاية المدنية لمساعدتهم في العبور نحو المناطق السكنية المحاصرة بالمياه التي أغرقت الشوارع، وهو ما اضطر بعض الآباء إلى عدم بعث أبنائهم للدراسة تجنبا للمغامرة. وبمقاطعة بني مكادة، عمدت ثانوية علال الفاسي، التي تضم أكبر عدد من التلاميذ بالسلك الثانوي التأهيلي بنيابة طنجة، إلى توقيف الدراسة في الفترة الصباحية، بعدما بدت بوادر غرق المؤسسة كما حدث خلال السنوات الماضية، وخاصة سنة 2008، عندما اضطر الإدارة إلى وضع طاولات على شكل جسر لمساعدة التلاميذ على الخروج، وهو مشهد وثقته صورة شهيرة غزت شبكة الإنترنيت. وعلى نهج علال الفاسي، قررت إدارة ثانوية محمد بن عبد الكريم الخطابي، بمقاطعة السواني، توقيف الدراسة حفاظا على سلامة التلاميذ، علما أن هذه المؤسسة تعاني سنويا من تدفق مياه الأمطار، وهي المشكلة التي لم تحل بالرغم من تكرارها أثناء كل موسم أمطار. وكان تلاميذ إعدادية ابن الأبار بحي مرشان، على موعد مع حادث تسبب لهم في حالة من الذعر، حيث تسللت مياه الأمطار إلى علبة كهرباء متسببة في انفجار تلاه حريق محدود، وتدخلت عناصر الوقاية المدنية للسيطرة عليه، وهو الحادث الذي لم يخلف ضحايا أو خسائر مادية جسيمة. ملاحة متوقفة الأمطار الغزيرة والرياح الطوفانية التي شهدتها طنجة، كان لها تأثير أيضا على الملاحة البحرية، وامتد تأثيرها ليشمل مطار طنجة ابن بطوطة الذي شهد حادث انقلاب طائرة خفيفة. وأعلن ميناء طنجة المتوسطي عن توقف الملاحة منه وإليه منذ مساء الثلاثاء، جراء الرياح القوية التي عرفتها طنجة، واستمر توقف العمل إلى غاية ظهر يوم أمس بالنظر لتواصل هبوب الرياح المرافقة للتساقطات الغزيرة، وعاد العمل بالميناء بشكل تدريجي وعلى فترات متقطعة، غير أن مصادر من الميناء أكدت أن توقف العمل بصفة نهائية سيكون أمرا حتميا في حال ما أكدت مديرية الأرصاد الجوية استمرار الظروف المناخية السيئة. وبمطار طنجة، انقلبت طائرة خفيفة تابعة للنادي الملكي للطيران جراء الرياح القوية، متسببة في خسائر فاقت، حسب مصادر من النادي، 120 مليون سنتيم، وهو الحادث الذي أعاد من جديد إلى الواجهة الصراع بين النادي وبين المكتب الوطني للمطارات، الذي رفض تسليم مرآب خاص للنادي بديل لذلك الذي هدم في إطار أشغالل توسعة المطار، رغم أن المرآب البديل مكتمل البناء منذ 4 سنوات، على حد قول مصادر من النادي. حكاية كل سنة لم يشفع لطنجة وصفها بأنها ثاني قطب اقتصادي بالمغرب، ولا موقعها الاستراتيجي، ولا سكانها الذين يتزايدون بوتيرة قياسية، في أن تنجو من فيضانات صارت تضرب موعدا سنويا مع شوارع ومنازل المدينة. من يتحدث عن فيضانات طنجة، يتذكر مباشرة طوفان أكتوبر من سنة 2008، عندما تسببت أزيد من 10 ساعات متواصلة من التهاطلات المطرية غير المسبوقة، إلى غرق سائر أرجاء المدينة، بما فيها المدارس والمراكز الصحية والمناطق الصناعية، وأدت إلى وفاة 4 أشخاص على الأقل، لتعلن بعدها طنجة مدينة منكوبة. منذ ذلك التاريخ، والتحذيرات من تكرار هذا السيناريو التراجيدي تتعالى، لكن لا شيء يتغير من الوضع المتهالك لقنوات تصريف المياه والبنى التحتية إجمالا سوى القليل، الذي لا يمنع من حدوث فيضانات أخرى سنويا، كان أسوأها بعد تلك التي حدثت في 2008، ما وقع في الربع الأول من هذا العام. ففي مارس الماضي، فضحت الأمطار من جديد رداءة البُنى التحتية، بعدما غرقت معظم الشوارع الرئيسية للمدينة بعد تساقطات استمرت ل18 ساعة، وكانت أحياء الجيراري ودار التونسي والعوامة بمقاطعة بني مكادة الأكثر تضررا، إذ اقتحمت المياه المباني، وتسببت في أضرار جسيمة للتجار بسوق بئر الشعيري وقيصرية الأزهر، كما أدت إلى محاصرة تلاميذ ثانوية علال الفاسي... كل ذلك تلته وعود بالتحرك العاجل حتى لا يتكرر المشهد نفسه، لكن بعد 9 أشهر فقط، اتضح أن تلك الوعود كانت مجرد كلام في الهواء. «طنجة الكبرى».. الأمل لم يعد حدوث الفيضانات بطنجة أمرا استثنائيا، فهذه المدينة التي يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة، والمقبلة، نظريا على الأقل، لتتحول إلى مركز ثقل اقتصادي كبير بالحوض المتوسطي، لا زالت عاجزة عن حماية سكانها من بعض الزخات المطرية، التي لا يجب بالضرورة أن تكون كمياتها كبيرة لتغرق الشوارع والأحياء، ولتبقى المسؤولية تائهة بين ولاية طنجة والمجالس المنتخبة والشركة المكلفة بتجهيز قنوات ومجاري المياه. برنامج «طنجة الكبرى» الذي أتى بعميات إعادة هيكلة واسعة للمجال الحضري والبيئي، فتح أبواب الأمل من جديد، في الوصول إلى حلول نهائية تجنب السكان معاناة كل موسم أمطار، كون أن البرنامج نص على مشروع لحماية المدينة من الفياضانات، وهو مشروع متمم للبرنامج الذي انطلق قبل أكثر من أربع سنوات، والهادف إلى إنشاء بنى تحتية جديدة وإعادة هيكلة أخرى، بغرض تطبيق مخطط استباقي للأمطار الغزيرة التي تعرفها منطقة الشمال سنويا. برنامج وقاية طنجة من الفيضانات، الذي تقدر تكلفته المالية بحوالي 350 مليون درهم، سيستهدف المناطق الأكثر تضررا بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى حماية باقي المناطق مسبقا من مخاطر الفيضانات، وذلك عبر مد قنوات مياه جديدة وإنشاء أحواض لجمع مياه الأمطار بمجموعة من المناطق السكنية. ويستهدف البرنامج أحياء ذات كثافة سكانية كبيرة، كالعوامة والسواني، إلى جانب شوارع رئيسية كشارع محمد بن عبد الله وطريق تطوان، بالإضافة إلى واد اليهود، وهي مناطق ستتمركز بها منشآت تجميع وتصريف المياه. ومن أبرز ما جاء به هذا البرنامج، تحميل مسؤولية التمويل والتنفيذ للشركة التي تحظى بالتدبير المفوض للقطاع، وهي التي يحملها السكان جزءا كبيرا من المسؤولية في تكرار سيناريو الطوفان سنويا، وإلى جانبها سيمول المشروع من لدن وزارة الماء والبيئة. طنجة والمناطق المجاورة لها، توجد أيضا ضمن المناطق المستهدفة من طرف المخطط الوطني للوقاية من الفيضانات، الممتد إلى غاية سنة 2020، والذي يشمل على مشاريع لتصريف المياه، عبر عدة محطات تمتد ما بين طنجة وأصيلة، ومحطتين لتجميع مياه الصرف الصحي بالجماعتين القرويتين «برييش» و»حد الغربية». ومن أهم ما جاء به هذا المخطط، عمليات إعادة تجهيز شاملة لمجاري المياه، وهي مشكلة عويصة ظلت تعاني منها أحياء عدة بطنجة، وخاصة بمقاطعة مغوغة، إذ كان انسداد تلك المجاري، في ذروة التساقطات المطرية، يضاعف خطر الفيضانات، بالإضافة إلى وجود مجاري مياه متقادمة لا زالت تنتظر عمليات إعادة الهيكلة منذ سنوات. وانتبه المخطط الوطني للوقاية من الفيضانات أيضا، إلى الطبيعة الجيولوجية للمنطقة المستهدفة، إذ وضع مشاريع خاصة بالمناطق ذات التربة الرطبة، التي ستستقبل قنوات وأحواض خاصة، كما ركز على حماية المناطق الحساسة، وفي مقدمتها التجمعات السكنية والمناطق الصناعية، مثل المنطقة الصناعية ل»اكزناية» التي شهدت سنة 2008 فيضانات أضر بتجهيزات عشرات المؤسسات الصناعية وتسببت لها في خسائر جسيمة.