تختار الكتابة الشعرية ضحاياها، وتظل تطاردهم مثل لعنة، ومهما تخفى هؤلاء وهربوا، ومهما وجدوا من ذرائع، ومهما تحايلوا عليها، فإن ذلك بالنسبة لشرك الكتابة لا يشكل سوى تأجيل وقتي لطريدة تسمن وتتعتق وتختمر أدواتها ولغتها وتجربتها. وكلما كبرت المسافة كبرت معها القصيدة، وتفتحت آفاق حدودها. ذاك ما حصل مع الشاعرة أمينة الصيباري، التي ظلت تلاحقها القصيدة زمنا، لأنها كانت تجد فيها الشروط الجيوثقافية والمناخ المناسب كي تينع وتشمخ. وإذا كنا لا نعرف زمن البداية الفعلية للكتابة الشعرية لدى الصيباري، فإن طعم القراءة يشي بأن هاته النصوص اختمرت زمنا طويلا، وشمخت أحاسيسها المترادفة، مع مرور الوقت، قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من نضج، وقبل أن تجتمع في كتاب يلم شتاتها «رجع الظلال»، وينتشلها من غياهب الذاتية، بما أن الشاعرة كانت تكتب لنفسها ولأقاربها، وكانت تتهرب من النشر ومن البوح بتجربتها للآخرين. يمكن القول، دون مجازفة، بأن المدى الأزرق أو الفايسبوك باعتباره فضاء تفاعليا ومساحة طليقة لتبادل الآراء والتجارب وموقعا اجتماعيا يجعل الفرد في تواصل مستمر مع الناس في مختلف بقاع العالم، وينخرط في حراك اجتماعي لا تحده الخرائط والجغرافيات واللغات، حراك يتجدد على مدار الساعة واللحظة، وهو من ورط أمينة أكثر في بحر الشعر، وجعلها وجها لوجه مع مدى لا متناه من الأحاسيس والمشاعر واللغات التي تتفتق بشكل تفاعلي مع الأصدقاء والمحيط والأمكنة المتحولة التي تكاد لا تستقر. كتبت أمينة في جدارها الفايسبوكي شذرات خاثرة من ذاكرتها ومن جديد أحاسيسها وانفعالاتها التي تتغير بتغير الوجهات واللحظات، وكانت تستقبل آراء الزملاء والمتتبعين والمعجبين من مختلف الفئات (شعراء، مثقفون، نقاد، متعلمون، سطحيون، أميون...)، التي تتوزع بين مديح ورفض وتقويم، وتتفاوت حسب مستوى أصحابها. وتكون هاته الشذرات الخفيفة على القارئ، والثقيلة على الذات الشاعر، بحكم أنها تكون مكثفة ومرتبطة بانفعال وجداني وبلحظة عاطفية يمتزج فيها الوجع بالفرح بالحزن... وهكذا كانت، يوما عن يوم، تتشكل القصائد بهويات مختلفة، وأحيانا بهيئات مفارقة يقتضيها تحول المعاني، وتفاوت الانفعالات. تخرج الكلمات من الروح عارية من كل الدبلوماسيات، صافية رقراقة مثل ماء المطر، مغلفة بالصدق، والأنين الصامت، والبوح الخجول الذي لمح ولا يفضح، تاركا للغة فرصة لتوسيع دلالاتها بالتفاعل، مع الصور واللمسات والعبور والتعليقات المستمرة من طرف زوار مفترضين يتركون آثرهم وعطرهم لغة أو همسا، عبر المدى الأزرق اللانهائي. ونلمس في قصائد أمينة الصيباري- التي تلقت تكوينا أكاديميا باللغة الفرنسية- شكلا هجاسيا غامض الملامح، يُعار كُقيود الشكل والتنميط، ويسعى إلى تكسير الحدود والبلاغات المقدسة، والقراءات المُعْتَدةِ بأدواتها، وكأنه يطلب من القارئ، قبل أن يغوص في مائه، الترجل في تربته البكرة، والتخلي عن متراكماته، ومسبقاته، ويبقى مثلما ولدته أمه حرا طليقا؛ حتى يتسنى له تذوق معاني النصوص المخاتلة لهذا الديوان العاصف، وحتى لا توجه هاته القبليات القراءة، فتدمر عذرية اللمسات، ورقة المشاعر، وسحر اللحظة. إن النصوص تعبر عن ذاتها ووجودها الشكلي والمعنوي بطريقة خاصة تختلف عن الأساليب العصماء لكتابة القريض. وهذا ما جعل قراءة الديوان تحسس صاحبها بالإبحار في أشكال وعوالم ولغات وذوات تتعدد وتتداخل حتى داخل القصيدة الواحدة، فبالأحرى على مستوى الديوان. تغلب على أجواء الديوان مسحة دفينة من الحزن والأسى يؤججها إحساس مفارق بالزمن والمكان، وشعور بأن هناك شيئا ما يضيع من الذات، وينسرب من بين الأصابع مثل حبات سبحة متقطعة، وإن كنا لا نعدم حضور لمسات رومانسية بتوقيع الأنثى، التي تتحسس همجية العالم بمشاعر رهيفة تنعي قيما جميلة ضاعت، لتتأسس على أنقاضها قيم بديلة تستبلد الإنسان وتفرغه من محتواه. إن الديوان، بما يهجس به من سياقات ثقافية، وما يحمله من معان خفيفة الظل، لا يمكن أن يستكمل شروط قراءته إلا إذا أخذ بعين الاعتبار طبيعة الكتابة الأدبية الزرقاء «الكتابة التفاعلية الفايسبوكية» المتحررة من كل قيود الأنماط والأنواع والأبعاد الشرطية الناجزة المتحكمة في فعل القراءة، المستحضرة لشرط التفاعل الآني، والتحول المستمر لانفعالات الباث، والتشكل طويل المدى لهوية المحكي الشعري، واللغة التواصلية البسيطة والهجينة، والبنية الشذرية للقول التي تقتضي العمق والإيجاز، وتستدعي بعض الأيقونات والمعينات المصاحبة مثل الفيديو والروابط والصور وغيرها... هذه عتبة لولوج هاته التجربة، التي ستمتع القارئ، دون شك، وتضعه في سياق تحول قرائي يرتهن إلى الأبعاد التكنولوجية والسيكولوجية والفنية واللغوية التي تستند إليها اللحظة. إبراهيم الحجري