أتاحت لي عودتي إلى المغرب خلال الشهر الأخير فرصة اللقاء بالعديد من المهنيين والباحثين والطلبة. وعلى عكس الزيارات السابقة، فالحالية تندرج في سياق راحة بيولوجية ومهنية قبل مواصلة مسيرة العطاء والإنتاج ومن موقع جديد هذه المرة. كانت لي فرصة لقاء العديد من الزملاء والطلبة، والتعرف إليهم أكثر بعد غياب دام قرابة ثماني سنوات، ولا أخفيكم سرا، ففي كل لحظة ونقاش معهم كنت ألمس صدق غيرتهم على القطاع السمعي البصري العمومي، لكن بالمقابل كانت تصفعني رياح حيرتهم وحسرتهم وتذمرهم من الوضع الإعلامي العام والضبابية التي تعيشها العديد من مقاولات القطاعين العام والخاص على حد سواء. إن شعور الزملاء بشأن الوضع الإعلامي هو حقيقة وطنية ودولية، وإن كانت مقاربتي لأزمة الإعلام السمعي البصري مختلفة شيئا ما عنهم في بعض الأجزاء وتأخذ بعين الاعتبار عدة محددات، لكني أشاطر زملائي جزءا مما يعيشه القطاع؛ فالضبابية التي يعانيها الإعلام والصناعات الثقافية وصناعة الإبداع تختلف درجتها من بلد إلى آخر، وذلك بالنظر إلى وضع القطاع والنموذج الاقتصادي الذي تبناه من قبل ويتبناه حاليا، وذلك الذي سيتبناه في المستقبل. وهنا يحق لنا أن نسائل إعلامنا العمومي حول مدى محاولته البحث عن نموذج اقتصادي جديد يساير التغيرات التي عرفها القطاع وطنيا دوليا؟ ومدى محاولته مراعاة ذوق المستهلك/المتلقي الذي لم يعد سلبيا بل إيجابيا قادرا على التمييز؟ وهل حاول الإعلام السمعي البصري المغربي التأقلم مع التطورات التكنولوجية الجديدة؟ خاصة بروز إعلام سمعي بصري جديد، فنيا وجماليا، ومتاح ومتعدد الدعامات ويوفر مضمونا 360 درجة، انطلق واستفاد ويستفيد من هذا الانفتاح التكنولوجي؛ وكل ذلك في ظل التيهان البارز للعيان الذي يعيشه الإعلام السمعي البصري التقليدي؟ هناك مسلمة لا تتناطح حولها عنزتان ترتبط بسرعة انتشار التكنولوجيا الحديثة للإعلام والاتصال، والتي كان لها تأثيرها الواسع على عدة ميادين، وخاصة تلك المرتبطة بالصناعة الثقافية؛ فبقدر ما سهلت هذه التكنولوجيا تنقل المعلومة / المضمون، وساهمت بشكل فعال في دمقرطة المعلومة استقبالا وبثا ونقدا، طرحت أيضا العديد من الأسئلة حول مسار تنقل المضمون بين المرسل والمستقبل ودور الوسيلة أو التقنية في هذا المجال؟ وأثرت على مهن وفتحت المجال أمام ظهور مهن جديدة لم تكن معروفة من قبل، ومهدت الطريق لظهور نمط جديد من استهلاك المعلومة عبر الإعلام الجديد، لعل أبرزها السرعة والتنوع والإبداع، شكلا ومضمونا، والترحال؛ فالأنترنيت، على سبيل المثال، تعد وسيلة الاتصال الأسرع نموا في تاريخ البشرية، ففي الوقت الذي احتاج فيه الراديو إلى 38 عاما للوصول إلى 50 مليون مستمع، احتاج التلفزيون إلى 13 عاما وتلفزيون الكابل إلى 10 سنوات؛ أما الأنترنيت فلم تتطلب سوى 5 سنوات للوصول إلى نفس العدد، أي 50 مليونا وإلى عشرة أعوام للوصول إلى 500 مليون مستخدم. كما أن ظهور شبكات التواصل الاجتماعي في حياة المجتمعات المعاصرة عقد كثيرا من دور الإعلام السمعي البصري التقليدي ووجه إليه ضربة قوية، وتحول دور هذه الشبكات لتلعب أدوارا إعلامية وإخبارية. كما اعتبرت العديد من المنظمات والهيئات الحقوقية المعنية بالإعلام وتطوره وبحرية الرأي والتعبير، أن نسبة الولوج إلى هذه التكنولوجيا والاستفادة منها ومن المضامين التي توفرها يعد مؤشرا قويا على حجم التطور والانفتاح الذي يعرفه المجتمع والليونة التي تتميز بها المؤسسات والمقاولات الإعلامية. في ظل كل هذا، يطرح سؤال وجودي حول مكانة ودور الإعلام السمعي البصري المغربي، خاصة العمومي منه؟ لا أريد الوقوف هنا عند نسب المشاهدة، لأن هذه بدورها تستحق دراسات وأبحاثا لكشف خباياها والوقوف عند إيجابياتها ونقائصها، لكن ما يهمني هنا هو سؤال جوهري يتعلق بهذا الإعلام السمعي البصري يواكب التطور التكنولوجي؟ وهل بحث لنفسه عن نموذج اقتصادي جديد يساير التطور الذي نعيشه والذي أصبح معه العام والخاص يسائل إعلامه الوطني!!! بل يطرح سؤالا عن أهمية وجوده أصلا وهل يقدم فعلا خدمة عمومية في ظل وفرة المضمون والبدائل..! إن الإعلام السمعي البصري المغربي لم يقم بدوره التقليدي أصلا حتى في السابق فلا هو مرب ولا هو مخبر (من الإخبار) ولا هو داعم للثقافة ولا هو مروح عن المشاهد، ومرد ذلك إلى عدة أسباب، منها ما هو سياسي مرتبط بدور التنشئة السياسية التي كان يتعين أن يقوم بها هذا الإعلام، ومنها ما هو أخلاقي مهني مرتبط بمن يشرف على هذا القطاع ويضمن استقلاليته، ومنها ما هو اقتصادي مرتبط بمن يموله ونسق عمله والنموذج الاقتصادي الذي اعتمده، وهل ارتقى إلى مستوى الصناعة.. إلى غير ذلك من الأسباب التي ظلت تتوالد وتتكاثر إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. إن النموذج الاقتصادي، إن وجد، الذي يقدمه الإعلام السمعي البصري العمومي أبرز فشله في عدة محطات وتم التعامل معه بعقلية الجماعات المحلية، وليس غريبا أن تنظم مناظرات بشأنه مثل المناظرات التي عرفتها الجماعات المحلية بهدف الاستعراض (Show) وأن تبرز الوزارة الوصية آنذاك "الداخلية عضلاتها" وتمرر رسائلها الظاهرة والخفية. لقد نقل الإعلام العمومي المغربي فشله إلى القطاعات المرتبطة به بشكل مباشر وغير مباشر، وخاصة ذات العلاقة بالصناعة الثقافية والإبداعية، وأصبحت العديد من شركات الإنتاج والإبداع تعيش أزمة رؤية في علاقتها بالإعلام العمومي وأزمة اقتصادية فرضت عليها الانفتاح على الأسواق الخارجية والمؤسسات الإعلامية الأجنبية ذات الرؤية والأهداف الخادمة لخططها الاستراتيجية ونيات من يقف خلفها. لقد تخلى الإعلام العمومي المغربي عن العديد من أدواره التقليدية والتي تعد من أبجديات العمل السمعي البصري، ويتعقد الأمر أكثر إذا ما عدنا إلى التطور التكنولوجي. فهذا الإعلام دخل العصر الرقمي وهو يجر خلفه فشله، ولم يبحث لنفسه عن أدوار جديدة ولا عن حياة جديدة لضمان بقائه في الساحة، وهذا انعكس سلبا على صورة المغرب ومهنييه وعلى صورة الإعلام السمعي البصري المغربي وأثر سلبا على صورة العاملين في الإعلام العمومي لأنه لم تتح لهم فرصة التطور والارتقاء بمهنيتهم وإبراز قدراتهم لانعدام البيئة المناسبة التي هي سبب ونتيجة في نفس الوقت؛ فالمهنيون بالقطاع السمعي البصري، والذين تربطني بهم علاقات زمالة امتدت لأكثر من عقدين، قادرون على تحقيق ثورة مهنية داخل مؤسساتهم، هم قادرون على إعادة التموقع في مهن جديدة استجابة للتطور، قادرون على القيام بأدوار جديدة لإحياء مؤسسات ميتة وتقديم مشاريع مبدعة، قادرون على التضحية... قادرون... وقادرون... متى توافرت الإرادة لذلك. فهل تعوزنا إرادة الفاعل المهني؟ أم السياسي؟ أم القانوني؟ أم الاقتصادي؟ أم إرادة الجميع وحسن نيته وقناعته بأهمية القطاع!!!.. ما صرت مقتنعا به، شخصيا ومهنيا، هو أنه في بعض الأحيان يجب أن يكون قرارنا جريئا ويجب أن نتعلم كيف نهدم من أجل إعادة البناء على أسس سليمة... مسك الختام.. كنت في حديث مع أحد الزملاء بمؤسسة إعلامية، فسألته عن باقي الزملاء، فرد علي بجواب معبر جدا: "إنهم وللأسف يكثرون من الشحوم (كيغلاظو) في أجسادهم بسبب انعدام الرؤية". أتمنى ألا تتسرب الشحوم إلى أجساد كل المهنيين وألا يتحولوا إلى باحثين عن آجر في نهاية كل شهر! فهذا مجالنا وهذه مهنتنا... فمن لا مهنة له ووجد في هذا القطاع بالصدفة فليرحل عنا، فالعملة الجيدة تطرد الرديئة.. والربيع الإعلامي المغربي قادم خالد أدنون. *صحافي مغربي وخبير إعلامي معتمد دوليا