بعد نَسْجِه الاستعاري لمظاهر «الموت اللّامع» على إيقاع أهازيج الطريقة الكناوية في «الشركة المغربية لنقل الأموات» (2012)، يعود بنا أنيس الرافعي – من جديد – إلى أجواء ساحة جامع الفنا المصبوغة بخيال مجنح عبر مجموعته القصصية «أريج البستان في تصاريف العميان» (دار العين، القاهرة، 2013)، حيث تُشكل مدينة مراكش مسرح الأحداث والتأملات، ضمن استغوار عُلوي لانتقاء فصيلة سماوية محددة من الشخصيات ( الواقعية والمُبْتَدَعة) والأرواح والأشباح المنوطة بتفجير وتذويب الواقع «المادي» وإعادة بنائه لاستكشاف بُعده الرابع القابع في الماورائيات المنذورة لتحويلٍ وانمساخٍ شَيِّقَيْن. لتحقيق هذه الغاية الجمالية، اختار الكاتب الاستناد إلى نمط الحكايات الصوفية والأخلاقية المَنْظومَة بالأسلوب «المثنوي» الموصول بكتاب «البوستان»، أحد أشهر الأعمال الأدبية الفارسية للشاعر السعدي الشيرازي (المولود بشيراز في 1184)، والمنقول إلى العربية بترجمة الدكتور أمين بدوي تحت عنوان «أريج البستان» (ط 1997 وط 2006). لذلك، عرَّف الرافعي «بستانه» كالآتي: «فهذا دليل حكائي مُتخَيَّل للطواف على مطية البُراق بالحاضرة المراكشية، وجذْوةُ الاقتباس في ذِكر من قام أو حلَّ بها من الأعلام البهية. وهو بمثابة نَيْل الابتهاج بتطريز الديباج عن مكان ساحر مَحَّضته القَرارة وطالما رأيتُهُ رَبيبا للمتاهة. سميته على قَفْو من هو بالاتفاق من الفصاحة والبلاغة بمكان مولانا السعدي الشيرازي ب «أريج البستان في تصاريف العميان»» (ص 15- 16). الجدير بالملاحظة، وفي سياق مجابهة رمزية لتصاريف العميان، يحضر الشق البصري بحدة مع فِئة الشخصيات الواقعية التي يتخذ فيها المُصَوِّرون بطولات ملفتة. فإلى جانب الكتاب والمبدعين من أمثال لويس بورخيس وخوان غويتيسولو وألفرِد هيتشكوك وغيرهم، تستفيق أرواح الفنانين التشكيليين لإعادة رسم مساراتهم الحياتية والتصويرية، الموزعة بين المغربِيَّيْن عباس صلادي ومحمد بن علي الرباطي والفرنسي أوجين دولاكروا والبريطاني وينستون تشرشل (1874-1965) الذي استهوته صنعة التصوير وهو يقيم في فندق «المامونية» بمدينة مراكش، حيث أنجز لوحته الشهيرة «مراكش» العام 1951. ففي استعادة إقامته، تقتفي الكتابة أسلوب النقاد الذين يصرون على معايشة إرهاصات الفنانين ورصد هواجسهم داخل محترفاتهم: «على امتداد ساعات طويلة يمكن قياسها بعدد الدوائر المنطبعة على «الباليت»، يحاول بعصبية ظاهرة أن يسحب إلى ألوانه الزيتية المخلوطة، ذلك الصفاء الذي يقترحُه الأفق؛ خُضرة البساتين المُتَّقِدة شدواً؛ الصمت الراقد بين العَيْن وسُعْفان النخيل؛ والظلال التي تضرب أطنابها في الأقواس والجادات، لكن الإلهام قُفْلٌ صدِئٌ لا ينفتح، والفرشاة تأبى أن تشق طريقها صَوْب نَأْمَة شكل» (ص 52). يضيف السارد: «وينستون كان يغيب في الجزء الشاغر من لوحته. لعله يمضي طويلا وبعيدا كالسراب كالصدى، كما لو أن المكان خَسَفَ به على حين غَرة» (ص 52). أمام هذه الخَيْبة، يسترسل الحكي حول خَرجات تشرشل إلى أرجاء المدينة وإلى ساحة جامع الفنا لشحذ العين بنصاعة الضوء وغريب المَشاهد، لتنطلق الفرشاة في صباح اليوم التالي «من عُقالها طلية عذبة، وخاضت على رسلها الألوان والأشكال بحنكة لا نظير لها. وعند الظهيرة كانت اللوحة قد اكتملت» (ص 55) (باب الحال/ الإزار الأبيض). في «باب السماق»، يتم استحضار الفنان جاك ماجوريل (1886-1962) عاشق مدينة مراكش، حيث اقتنى جنان الصفصاف وشيَّد «فيلا» بالطراز الأندلسي في قلب البستان. إنه «الرجل الذي صدم الموت بسيارته»، إذ تروي الحكاية حادثة اصطدامه ب «مَمّاس»، الفتاة البربرية الموشومة التي ظلت روحها تقض مضجعه، «فعمد إلى صباغة كل أرجاء البستان باللون الأزرق، عسى روح مَمّاس ترضى، وترحل بعيدا حيث لا أحد هناك (...) أزرق «المسكون» لم يكن كافيا لإطفاء اللهب الذي يذهب ويجيء في صدر «الساكن»» (65-66). وفي محاولة التخلص منها، قرر جاك محاصرة شَرِّها بالأصباغ، وتقييدها داخل لوحته المسماة «امرأة مستلقية على زربية بربرية» ( أنجزها في 1949). في نص «ألبوم الحمى/باب الذباب»، تم التذكير بكراسات الفنان أوجين دولاكروا (1798-1863)، وهي الكراسات التي دوَّن فيها ملاحظاته وتخطيطاته ورسوماته الأولية، إثر زيارته للمغرب ضمن بعثة دبلوماسية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر في عهد السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام، وقد شكلت هذه الرحلة منعطفا في أسلوبه الرومانسي الذي أمسى أكثر تعبيرية، بفعل تكثيف عنصر الضوء واعتماد الضربات الحركية. كما وردت الإشارة إلى الفنان محمد بن علي الرباطي (1861-1939) الذي اشتغل طباخا لدى المصور الإنجليزي الميستر جون لفري بطنجة. وبعد ثلاثة عقود، كان قد خَبِر تقنيات الرسم وخط لنفسه أسلوبه التَّشخيصي الخاص في نقل مظاهر اليومي، ليُعتبر كأول مُصور مغربي مع تنظيمه أول معرض بالعاصمة البريطانية في 1916. في نص «مينوش / باب القطط « ، الذي يَفْتَتِح الأبواب السبعة، يستعيد السارد جنون وأهواس الرسام المراكشي عباس صلادي (1950-1992) عبر تلك العلاقة «الأبوية» التي ربطته بالقط «مينوش» الذي تألم الفنان لفقدانه، مما زاد من حدة تحوُّلات مرئياته الغريبة: «خطوط ودوائر ومكعبات ومساحات يُضرمها زنجي في أصابعه لِتَحُثَّهُ على مَلْءِ فراغ القماشة. يرضخ له، فيندفع مثل نهر بدائي صوب الأشكال التي يخرج منها في كل مرة «مينوش» متلبسا لصورة سريالية ظلها في العمق ضِعف طولها» (ص 30). وفي استعادة الصور البوهيمية للرسام الذي تمسي «الفرشاة في يده ممسوسة تشبه حركة الأفعى ذات الأجراس» (ص 32)، يغوص السرد في إيقاع التفاعلات النفسية الموازية لدلالات تصاوير صلادي الفانطاستيكية وكائناته الحيوانية الخرافية، المُطِلة وراء سعف النخيل والصوامع المائلة والمنحنية، فيما تَتَمَلَّكُه هواجس الموت المبتوتة في توابيته المرصوفة عبر صفحات عمله المشترك مع الشاعر عبد الله زريقة في ديوان «تفاحة المثلث» (1985). تتضاعف السمة البصرية – أيضا – بناءً على تشكيلات التمائم، إذ عمل القاص على وضع جدول سحري على أعتاب كل باب من أبواب «الأريج»، «وهي مزيج من عبارات دينية وحواشي باطنية، يُقال بأن لها أثرا لا يعلم سِرّه إلا واضعه» (ص 8). هذه الحروز المفعمة بالرموز والتخطيطات، تحيلنا بدورها على أعمال الفنان الراحل بوجمعة لخضر (1941-1989) الذي عُرف بترسيماته الطلسمية. في ذات السياق، وانطلاقا من لوحة الغلاف التي أنجزها الفنان عبد اللطيف حباشي بحس توافُقي يتمركز على تشكيل الحصان الآدمي المجنح، يتم إقحام القارئ في الطقوسية السحرية وتحفيزه على ركوب البُراق صُحبَة الكاتب. على هذا المنوال، يتحول القلم في يد القاص أنيس الرافعي إلى فرشاة فلكية لرسم تراجِم أخرى لهِؤلاء الفنانين والمبدعين الذين يبادلونه عشق «الحمراء»، مدينة «السبعة رجال». وبذلك يقيم لهم تكريما طريفا في بستانه المُصَمَّم برؤية معاصرة تستقي متانة لغتها من المعجم التراثي، تماشيا مع اختياره التعبيري الذي تتداخل فيه التداعيات الخيالية المُحْكَمة والبُعد التاريخي القائم على ثراء المرجعيات الموثقة في الدليل/الكتاب، باعتبارها القاعدة المعرفية التي تُمَكِّن المؤلف من كيفية التحليق الفوقي لاستدراج مكامن البلاغة العجائبية التي تمثل أساس عمله التجريبي السابع، الموزع عبر سبعة أبواب. من ثمة، تظل الكتابة عنده «أقرب إلى الميتاقصة: القصة وأشياء أخرى منبثقة منها وتحف بها، بتصعيد القصة إلى ما يفارقها، بإزاحة القصة أو نواتها عن محورها الحكائي والبُؤري، وخلق نظائِر لها من داخلها عبر مرايا مُتْقَنَة» بتعبير الكاتب الأردني محمود الريماوي. في حين، يبقى اشتغاله حول هذه الفئة من الفنانين في مقام «الأريج» ضمن اهتمامه بالثقافة المرئية من خلال القراءة والاطلاع وزيارة المعارض والاحتكاك بأصدقائه من الفنانين، خاصة أنه من طينة الأديب المشارك الذي لا يدخر جهدا في تطوير بحثه وتطويع لغته للسير قُدما نحو الإسهام الفعال في الكتابة التي تعنى بالفن عبر قراءاته المنتظمة لعدد من المعارض التشكيلية، وهي النصوص التي أستمتع بقراءتها على صفحات مجلة «الدوحة» وغيرها من المنابر. ذلك ما يشكل الخلفية السحرية الأخرى التي أغنت تفاعل البصر والبصيرة في هذا الدليل الحكائي المائز. بنيونس عميروش