مراكش هي الملتقى والمنتهى عند القاص المغربي أنيس الرافعي، تقصدها الشخصيات من مختلف الأصقاع، تأسرها فراديسها وحدائقها وطيبة أهلها فتجعلها وطنا جديدا أو مستقرا إلى حين، يبني الرافعي فيها ومن أساطيرها المروية وسحرها وفرادتها عالمه الحكائي المفعم بالغرائبي والتجريبي. تقود مراكش الكاتب في تجواله وعبر أبوابها وساحاتها، بدءا من عنوان مجموعته «أريج البستان في تصاريف العميان» وحتى آخر الكتاب، إذ يقدم إهداءه إلى «اليد التي رسمتها دون أن تعرف يأس اليد التي تحاول كتابتها»، وتظل الجسر بين العوالم الواقعية والمتخيلة المختلقة. يحضر التجريب القصصي لدى الرافعي في «دليله الحكائي المتخيل»على مستويين، فني ومضموني. يتبدى الفني في اختيار التمايز وتسميات مختلفة للفصول والفهرس، كأن يسمي الفهرس بتنظيم الطواف، ثم يختار الأبواب بدلا من الفصول، ولكل باب حكاية غريبة تمزج بين الواقعي والمختلق أو المتخيل. وعلى أعتاب كل باب يضع الرافعي جدولا سحريا أو حجابا أو حرزا أو رقية، يكون مزيجا من عبارات دينية وحواش باطنية، يذكر بأنه يقال إن لها أثرا لا يعلم سره إلا واضعه. وذلك بإضفاء المزيد من الغرابة على الحكايات، وكأن التجوال يفرض الغرابة، وبالتالي القطع مع الواقع الذي ينطلق منه. أما التجريب على صعيد المضامين، فيأتي من حيث بناؤه لكل حكاية على قصة واقعية، يستند عليها لينسج حكايته، وتناصه مع حكايات تراثية وأساطير شعبية. كما يحضر نوع من التناص مع النص الديني، وتحديداً قصة «الإسراء والمعراج» وجانب من استلهام الشكل لبناء رحلات الشخصيات إلى مراكش، وتفننها بتوصيف المدينة الساحرة، وتأثيرها على كل واحد منهم، وكيفية صياغتها في ما بعد، ورسمها من وجهة نظرهم. كما يحضر تناص شكلي وأسلوبي تال محاك كل مرة لأحد الكتاب أو الفنانين الذين زاروا المدينة، ومعارض له في الوقت نفسه. يقدم القاص رحلات شخصياته معرفا كتابه على أنه دليل حكائي متخيل للطواف على مطية البراق بالحاضرة المراكشية، وجذوة الاقتباس في ذكر من أقام أو حل بها من الأعلام، ويبرر اختيار عنوان كتابه من السعدي الشيرازي، بأنه يعتمد التقفية ويمزج تلفيقات الخيال بحوليات التاريخ القريب، ويخلط أوهام الحقيقة بما تيسر من العجيب الغريب. الأبواب السبعة بحسب الترتيب هي «باب القطط» وفيه حكاية «مينوش» المستندة في بعض تفاصيلها على حياة الفنان التشكيلي المغربي الراحل عباس صلادي وعلاقته بقطته مينوش. بعده «باب الأكتع» وقصة «سح الرمل» المستندة على زيارة الروائي الأرجنتيني «خورخي لويس بورخيس» إلى مراكش، وتفاصيلها الواردة على لسان زوجة بورخيس في أحد الحوارات. ثم «باب الحال» ويحوي قصة «الإزار الأبيض» المستوحاة من إقامة رئيس الوزراء البريطاني الراحل «ونستون تشرشل» بفندق المامونية بمراكش، حيث ترك لوحة ناقصة لم يكمل رسمها. «باب السماق» هو الباب الرابع، وفيه قصة «الرجل الذي صدم الموت بسيارته» المستندة على استيهام تخييلي للوحة «امرأة مستلقية على زريبة بربرية» للفنان الفرنسي جاك ماجوريل التي رسمها أثناء إقامته في مراكش. يلي ذلك «باب الذباب»، وفيه قصة «ألبوم الحمى» التي تسترجع كسند لها -على نحو تلفيقي- جوانب مما نشره الكاتب البريطاني «جورج أورويل» حول انطباعاته عن مراكش خلال الشهور التي أقام فيها، وكذلك تستوحي القصة أجواء ثلاث لوحات ظهرت في الألبوم المغربي للفنان الفرنسي «أوجين دولاكروا». أما الباب السادس فهو «باب الوشم»، وفيه قصة «تلبيس الكف» التي يستند فيها على بعض مما ورد في مذكرات الكاتب النمساوي «إلياس كانيتي» عن مراكش. ويؤكد نسجه الحبكة على حبكة «حل المربوط من تلبيس الكف بالخاتم السليماني»، كما وردت في مؤلف الإمام الغزالي. وفي الباب الأخير، وعنوانه «باب الآخرة» والذي يحوي قصة «ميت العصر»، ويستند فيها الرافعي إلى محطات من حياة الكاتب الإسباني «خوان غويتسولو» أثناء إقامته في مراكش وزياراته المتعاقبة الدائمة إليها. كما يشير إلى استيحائه أسطورة مغربية حول اللقالق وأنها كائنات بشرية تتقمص شكل الطيور أثناء السفر، ويحيل في حكايته الأخيرة إلى التاريخ القديم لساحة «جامع الفنا» الشهيرة بوصفها فضاء لإعدام المتمردين وجز رقاب العصاة والطواغيت وتعليقها على جدار مخصص لهذا الغرض. كأنما يرسم الرافعي متاهة قصصية، ينسج على منوال الغرابة حكاياته التي تتنقل بين العتبات وتستند على الرموز والقصص والسير واللوحات، ليحكي سيرورة مستعادة وأخرى متخيلة، مختلقا عالمه المختلف. للرافعي أبوابه المتخيلة لمراكش، سبعة أبواب، حيث سميت السماوات المرتجاة في رحلة الإسراء والمعراج حسب رواية الإمام ابن عباس، وفق سبعة أبواب توازي الأبواب الأصلية الموحدية لمراكش، كما أدرجها العلامة محمد بن محمد بن عبدالله الموقت في كتابه «السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية». ويؤكد صاحب «الشركة المغربية لنقل الأموات» و»فضائح فوق الشبهات» أن لكل منهما مراكشه ومشاهيره وأبوابه الخاصة به. ويرجو أن لا يكون قد ظلم شخصيته التي يسميها أولياءَه الذين خلقهم من طين الوجدان. ربما يشعر بعض القراء بشيء من الإثقال من حيث التقسيم والتبويب والأسانيد والتعليقات والحواشي، وكأن القاص يقود قارئه في رحلة متخيلة معصوب العينين بداية ليستقرئ معه ما وراء الحكايات، ويسير معه في بستان التأويل والتخييل، دليله التجريب والتجديد. ناقد وإعلامي سوري . * لقد شكل غنى تلك التجربة الإنسانية للرجل، سمادا لخياره العلمي الأكاديمي، الذي ظل يصدر عن رؤية فكرية منخرطة ضمن مشروع تاريخي للتحول المغربي مجتمعيا. وأنه ظل يؤمن أن السر في تجاوز أعطاب طريقنا التاريخية، هي في إصلاح التعليم وفي إصلاح بنيته المعرفية التكوينية التي من خلالها نصنع الفرد المغربي الجديد. نصنعه رؤيويا ونصنعه معنى حياة. فكان واضحا لديه أن الحل هو في ترسيخ أسباب العقلانية المعلية من نموذج الفرد المواطن، الناقد، المسلح بالعقل النقدي العلمي الحديث. من هنا نحثه الطويل لمباحث أكاديمية رصينة في مجال فلسفة العلوم، وأيضا أطروحته حول الفكر الإسلامي بالغرب الإسلامي، أساسا في المغرب والأندلس من خلال المسار الفكري والفقهي لابن حزم. بل إن بحتثه العلمي الدقيق، ذاك، قد جعل منه واحدا من أكثر المتخصصين المدركين لقصة تشكل الوعي الديني الفقهي مغربيا. مثلما أن له مكرمة جرنا إلى الإنتباه باكرا إلى أهمية فهم وتمثل الإبيستمولوجيا، كمنهاج علمي وكآلية تحليل وكبنية لإنتاج المعاني والمعارف. وأن نحسن قراءة أطروحات باحثين مبدعين من طينة ليفي ستراوس (الأنثربولوجي) وميشيل فوكو (تاريخ الأفكار وإركيولوجيا المعرفة) وألتوسير (الرؤية النقدية المادية). إن سالم يفوت، وقد اقتعد الغياب الآن، واندس في التراب مثلما تنزل قطرة ندى، في صمت وبلا ضجيج، يولد ولادة جديدة، من خلال ما خلفه في الوعي الفكري المغربي والعربي من أثر مكتوب مدون، يليق مادة للتحليل للوقائع، كم تحتاجه أجيال الحراك العربي اليوم. ولعل العودة إلى كتبه حول فلسفة العلوم (ذلك المشروع الضخم الذي انخرط فيه باكرا رفقة كل من عبد السلام بعبد العالي والميلودي شغموم)، يجعلنا نعيد تمثل مشروعنا الفكري الفلسفي المغربي، بشكل أكثر ألقا، لأنه يرسم أمامنا خرائط طريق معرفية، تعلي من قيمة العقل ومن الرؤية النقدية للوقائع والأحداث، وتضع السماد لمشروعنا التاريخي الهائل في التحول نحو الحداثة. ولعل في درسه ذاك، الدليل على كارثية الخيارات التي انتهجت سياسيا في مجال التعليم مغربيا وعربيا، التي أنضجت اليوم ما أنضجته من ذوات نكوصية غير عقلانية («الضبوعة»، إذا استعرنا العبارة البليغة للباحث السوسيولوجي المغربي محمد جسوس). من هنا أهمية إرث سالم يفوت. فالرجل بذكاء بهي، قد بصم فينا الأهم، رسالة مفكر، عالم، تبني الأساسي في الرؤية المعرفية وليس العرضي. بهذا المعنى، فإن تمثل أعماله وكتبه هو مشروع مفتوح للمستقبل. وبهذا المعنى، أيضا، لن يموت قط سالم يفوت، وأمثاله، لأنهم بصموا أثرا معرفيا لا يزول في تاريخ الأفكار والمعارف ببلاد العرب. وفي مكان ما علينا الإنتباه أن الجيل الجديد الذي نزل إلى ساحات المطالب ببلاد العرب، لم ينزل فقط من أجل كسرة خبز وماء، بل أيضا من أجل معنى حياة.