«لافيراي».. قطاع مهمش يسترخصه الآلاف دون أن يعلموا بأنه قطاع قادر على ضخ المليارات في خزينة الدولة لولا التهرب الضريبي وعدم التصريح الحقيقي بقيمة المتلاشيات، التي تصدر أو تستورد من الخارج، لتظل الدولة أكبر خاسر، خاصة إذا علمنا بأن المواد التي تصدر يعاد استيرادها مصنعة أو نصف مصنعة إلى المغرب بأسعار أعلى بكثير. أقل تقدير يذهب إلى أن مليار سنتيم تروج يوميا في هذا القطاع بشكل «غير قانوني». وهو يوفر أزيد من 700 ألف منصب شغل «عشوائي»، ويكبد الدولة خسارة يقدرها المهنيون ب120 مليار سنتيم سنويا، نصيب الدار البيضاء فيها 60 في المائة. «المساء» توغلت في قلعة «الخردة»، التي توصف بأنها «غير محصنة» و»عشوائية» إلى أبعد مدى، وأجابت عن مجموعة من الأسئلة. لكن السؤال الذي ظل عصيا على الإجابة، هو: إلى متى سيبقى هذا القطاع عشوائيا وغير منظم؟ من المستفيد الأكبر من العشوائية و»غياب التقنين» في قطاع يصفه المهنيون ب»المربح»، والذي يضخ المليارات ويشغل أزيد من 700 ألف يد عاملة؟ ولماذا تترك الدولة، الخاسر الأكبر في هذا القطاع، المجال مفتوحا أمام لوبي يحتكر السوق ويستغل غياب أي تقنين لهذا القطاع لخدمة مصالحه الخاصة ويجني المليارات دون أن يعبأ إطلاقا بمصلحة البلاد كما يقول المهنيون؟ ومن هو هذا اللوبي بالتحديد؟ وما طبيعة الخسارة التي تتكبدها الدولة المغربية؟ وأيضا طبيعة الاختلالات التي يتحدث عنها بائعو المتلاشيات؟ ولماذا لم يسر المغرب لحد الآن على خطى دول أخرى مثل الجزائر والصين منعت تصدير متلاشياتها نحو الخارج بعد أن أدركت بأنها ثروة حقيقية تهدر؟ هذه بضع أسئلة كانت تتناسل في أذهاننا ونحن نقوم بإجراء هذا التحقيق، فيما كانت الأجوبة تتشابه على ألسنة مختلف المهنيين الذين التقتهم «المساء»، منهم من أصبح مهددا بالإفلاس، والسبب هذه العشوائية، التي أصبحت سرطانا حقيقيا ينخر جسد قطاع المتلاشيات، الذي ما عاد يحتمل المزيد من «اللامبالاة» من طرف الدولة، حسب هؤلاء المهنيين. أسواق المتلاشيات لفهم ما يحدث في قطاع المتلاشيات قمنا بجولة في أهم أسواق «الخردة» بالدار البيضاء: «سوق السبيت»، التابع لعمالة مقاطعات سيدي البرنوصي (الحديد والألمنيوم والنحاس...)..»لافيراي أولاد خشان»، التابع لمنطقة مولاي رشيد (بلاستيك، نحاس، ألمنيوم)..»لافيراي سيدي مومن»، التابع لجماعة الحي المحمدي عين السبع (قطع غيار الشاحنات)..»لافيراي سباتة»، التابع لعمالة مقاطعات سيدي عثمان، بالإضافة منطقتي الهراويين وليساسفة حيث يوجد مهنيون يخزنون بضاعتهم من المتلاشيات بشكل عشوائي. حين ولجنا سوق المتلاشيات «السبيت» كانت الساعة لم تتجاوز التاسعة والنصف صباحا. يقع السوق عند مخرج مدينة الدار البيضاء، وهو أكبر سوق للخردة بالمدينة، تقارب مساحته 100 هكتار. يبدو أشبه بمجمع صفيحي عشوائي هائل. أغلب المحلات- الشركات كانت مغلقة في هاته الساعة الصباحية. تذكرت لحظتها ما قاله أحدهم لي: «الليفيرور شبعانين لعاقة»، وهم ليسوا بحاجة إلى الاستيقاظ مبكرا مثل عامة المأجورين. لكن لقاءنا بعد ذلك بعدد من أصحاب هذه الشركات العشوائية سيكشف لنا حقيقة أخرى: منذ أزيد من سنة أصبح عدد كبير من هؤلاء على حافة الإفلاس بسبب سلعهم التي تبور أو التي يبيعونها لشركات وصفوها ب»الوسيطة» دون أن يتلقوا أي فلس منها. وهم مضطرون إلى التعامل مع هذه الشركات لأنها الوحيدة التي تملك حق مد مصانع التكرير الثلاثة التي توجد في المغرب بهذه المتلاشيات من أجل إعادة تكريرها. قطاع حيوي التجارة في الخردة أشبه بلعبة الحظ، وهي عالم خاص مليء بالمفارقات، فهو يشغل، حسب المهنيين، حوالي 700 ألف يد عاملة على الأقل تشكل سلسلة مترابطة تبدأ ب»البوعار»، الذي يركب عربته ويمضي ساعات من أطراف الليل وهو ينقب في حاويات الأزبال بحثا عن أي شيء يكون ذا قيمة (قارورة بلاستيكية، زجاجة، معدن، أوان، مسامير...) وتنتهي بشركة لبيع المتلاشيات. يقول عبد الإله (تاجر متلاشيات) إن «تجارة المتلاشيات كانت مهنة تضخ على أصحابها مبالغ مالية كبيرة، لكن الوضع تغير اليوم، وبالضبط منذ سنة تقريبا. لقد تغيرت الموازين، وأضحى الوضع أكثر سوءا من أي وقت مضى، فلم يعد للبسطاء مكان للربح. في السابق كانت بعض النساء يعلن أسرهن من خلال جمعهن كمية من «المسامير» تدر عليهن يوميا 50 درهما تقريبا، وهو مبلغ يعلن به عائلاتهن. أما اليوم فتجار المتلاشيات في أزمة وأصبحوا يطردون كل «بوعار» يقصدهم لبيع ما تم جمعه من مواد». احتكار في سوق «أولاد خشان» سألنا صاحب محل لبيع المتلاشيات عن السبب الذي يدفع أصحاب محلات الخردة لطرد بعض البسطاء ممن يقضون ساعات في جمع قطع الحديد أو ما شابهه. نظر إلينا صاحب المحل، وكان أشبه بمن غرق زورقه في عرض البحر، وقال بلهجة غاضبة وهو يشير بيده نحو أكوام المعادن(حديد، ألمنيوم..) التي كانت تملأ المحل: «راه حنا ولينا غارقين». قبل أن يضيف بأن بائعي المتلاشيات لم يعد أغلبهم يجني ما كان يجنيه من قبل، والسبب يعود في نظره إلى وجود الشركات «الوسيطة»، التي تضيق عليهم ولا تجعلهم يتعاملون مباشرة مع شركات التكرير المعروفة في المغرب. وأوضح صاحب المحل أن هناك «ثلاثة وسطاء يتحكمون في سوق المتلاشيات بالدار البيضاء، وهم يغلقون كل المنافذ على باقي التجار، الذين يرغبون في التعامل بشكل مباشر مع شركات التكرير الثلاث لأنهم على الأقل سيتسلمون أموالهم دون مشاكل». وتساءل صاحب المحل مستغربا: «كيف لشركات التكرير الثلاث أن تجمعها عقود خاصة مع ثلاث شركات وسيطة فقط دون غيرها؟». هذا الأمر يعتبره المهنيون، الذين التقيناهم، خسارة لشركات التكرير، التي يمكن، في نظرهم، أن تكون لها خيارات كثيرة عوض الاقتصار فقط على شركات الوساطة الثلاث، التي تحتكر القطاع لوحدها. والأسوأ من ذلك، يضيف المهنيون، أن الأسعار التي يبيعون بها السلع تبقى دوما ثابتة ولا تتغير حسب أسعار السوق العالمية، ف»درهمان مثلا للكيلو غرام من الحديد تبقى دائما درهمين حتى لو وصل سعر الكيلوغرام من الحديد إلى 10 دراهم عالميا». معاملات عشوائية تجار المتلاشيات يقولون إن عملهم عشوائي، موضحين ذلك بأن معاملاتهم التجارية مع الشركات الوسيطة يفترض أن تكون قانونية وتوثق في عقود والتزامات. لكن ذلك غير موجود. وقد أكدوا بأنهم «يغامرون بمد تلك الشركات بسلع لا يضمنون تسلم مقابلها المادي، رغم أنهم يعرفون أصحاب تلك الشركات معرفة شخصية بحكم تلك التعاملات». ورغم أنهم يعترفون بأن عدم أداء شركات الوساطة ما عليها من مستحقات مستبعد إلى حد كبير، فإنهم يشتكون من «التماطل» الكبير في الأداء، إذ يمكن أن تمر الشهور دون أن يتسلم التجار أي فلس من هذه الشركات، يضيف المهنيون، الذين أكدوا بأنهم مستعدون لأداء الضرائب لفائدة الدولة وترسيم العمال والمستخدمين لديهم وكذا تمكينهم من الاستفادة من الصناديق الاجتماعية بشرط أن يتم تنظيم هذه المهن، عوض «الارتجالية» التي أصبحت تكلفهم «راحتهم النفسية» مخافة الإفلاس أو «بوار سلعهم». وقد تساءل هؤلاء المهنيون عن المانع الذي يحول دون توثيق هذه المعاملات كي»تلزم أصحاب الشركات الوسيطة بالأداء في فترات محددة دون زيادة أو نقصان مثلما تفعل شركات التكرير مع الشركات الوسيطة»، وهو «ما سيحرك حالة الركود التي تميز اليوم تجارة المتلاشيات «. فيما نفت الشركات التي توصف بالوسيطة عنها صفة الوساطة وقالت إحداها: «نحن لسنا شركات وسيطة، بل نحن شركات مصدرة للمتلاشيات». الكنز المهدور «المغرب ضايع في المتلاشيات ديالو»، يقول مصدر رفض الكشف عن هويته، مضيفا أن مصدري المتلاشيات يهدرون ثروة معدنية بسبب تصديرهم هذه المتلاشيات إلى دول غير خاضعة للاتفاقية الدولية مثل بعض الدول الآسيوية. وأوضح أن «80 في المائة من المتلاشيات التي يتم تصديرها توجه إلى هذه الدول مثل الصين والهند، علما أنها لا تؤدي أي ضريبة، عكس ما تفرضه على الأجانب الذين يقتنون سلعها أو متلاشياتها، في حين أن 20 في المائة المتبقية توجه نحو الدول الأوروبية المعنية بالاتفاقية، مما يجعل تلك الدول المستفيد الأكبر من هذه الثروة». وأكد المصدر ذاته أن الحكومة غير واعية بهذا الأمر، وأنها ملزمة بمطالبة مصدري المتلاشيات، الذين يتعاملون مع الدول الآسيوية، بأداء 25 في المائة من الضريبة لإنعاش خزينة الدولة. غير أن هذا الطلب يرفضه المصدرون، الذين أكدوا بأنهم ليسوا ضد تقنين القطاع وفرض ضرائب على التجار ومنع «العمل في النوار»، ابتداء من «البوعار»، مرورا بالتجار الصغار وانتهاء بشركات المتلاشيات. وقد أوضحوا أن ما يدفعهم للتصدير هو ضآلة السعر الذي تعرضه عليهم بعض الشركات، والذي يكبدهم الخسارة لا الربح»، مضيفين أن هاته الشركات ترفض اقتناء متلاشياتهم بالسعر العالمي، وأنه في حال وازى سعر هذه الشركات السعر العالمي للمتلاشيات آنذاك سيتوقفون عن تصدير سلعهم نحو الخارج. «نحن أيضا وطنيون ولسنا ضد انتعاش الاقتصاد الوطني، لكننا نريد التقنين من خلال الرخص والتصريح الحقيقي بالكمية والسعر»، يقول أحد المصدرين. قبل أن يضيف بأن محاولة البعض فرض نسبة 25 في المائة من الضريبة على المصدرين مرفوضة، واتهم أحد اللوبيات بالوقوف وراء هذا الأمر لأنه يخدم مصالح جهات معينة. خسارة بالأرقام لقد فطنت مجموعة من الدول إلى أن متلاشياتها ثروة وطنية تعود بالنفع على دول مستقبلة تصنعها وتعيد تصديرها إليها من جديد بأثمان مرتفعة، لذلك منعت تصدير هذه المتلاشيات إلى الخارج. فيما لا يزال المغرب عاجزا عن فعل ذلك، علما بأنه يصدر 220 مليارا من المتلاشيات في السنة ويستورد مواد بقيمة 340 مليارا سنويا، وهو ما يكلفه 120 مليار سنتيم سنويا من الخسارة تهدر في مصاريف الشحن والضرائب. وهو يتكبد خسارة في كل المتلاشيات التي يصدرها بدون استثناء، يقول مصدر «المساء» الذي رفض الكشف عن اسمه، مضيفا أن «المغرب يصدر 34.256 ألف طن من الحديد، ويستورد 420.453 ألف طن من هذه المادة مصنعة أو نصف مصنعة، فهو يصدر الحديد بسعر 360 دولارا للطن (حوالي 3 آلاف درهم للطن) أي 3 دراهم للكيلوغرام الواحد، في حين يستورده ب400 دولار للطن، أي حوالي 3500 درهم للطن (حوالي 3.50 دراهم للكيلو غرام الواحد). وفيما يخص النحاس فإن المغرب يصدر 34.839 ألف طن ويستورد 47.485 ألف طن، فهو يصدره بحوالي 7000 دولار للطن (حوالي 56 ألف درهم للطن، أي 56 درهما للكيلو غرام)، ويستورده ب7500 أو 8000 درهم للطن، أي حوالي 65 ألف درهم للطن (حوالي 64 درهما للكيلوغرام). وبخصوص مادة الألمنيوم، فالمغرب يصدرها بحوالي 1650 دولارا للطن (حوالي 13 ألف درهم للطن، أي حوالي 13 درهما للكيلوغرام الواحد) ويستوردها ب1750 دولارا للطن (حوالي 15 ألف درهم للطن، أي حوالي 15 درهما للكيلوغرام». تصدير..رغم النقص المصدر ذاته قال إن الحكومة الحالية مطالبة بمحاربة التهريب والحفاظ على استمرار منتجي التذويب، الذين يعانون من نقص كبير في المواد الأولية، ومحاربة تبييض الأموال، وفرض الضرائب، ومحاربة سرقة المتلاشيات، مشيرا إلى أن وزير المالية هو المعني بالدرجة الأولى بهذا الموضوع. العديد من التجار على علم بأن بعض مصانع التذويب يسجل بها نقص في المواد الأولية غير أنهم يرفضون أن يتم استغلالهم من طرف أي جهة لأنهم ببساطة لا يتأقلمون مع السوق العالمي. ويقول مصدرنا الذي رفض الكشف عن هويته إن «الدولة هي الخاسر الأكبر من هذه العشوائية التي يتخبط فيها قطاع المتلاشيات، لأنها لا تستفيد من مداخيل الضرائب التي يمكن أن تضخ في ميزانيتها من قبل التجار في حال تم تنظيم القطاع من خلال ضبط الكميات الحقيقية للمواد المصدرة أو المستوردة وفرض ضريبة عليها». ويضيف أنه «مادام المسؤولون مستمرين في لامبالاتهم وغير آبهين بالمليارات، التي يمكن أن تضخ في ميزانية الدولة من خلال استخلاص الضرائب، فإن الدولة ستبقى دوما الخاسر الأكبر». «كبوط» الحبس هذه العشوائية التي يتخبط فيها قطاع المتلاشيات تؤثر سلبا على المهنيين. إذ صار الخوف يسيطر على التجار، الذين اعترفوا بأن أكثر ما يرعبهم هو أنهم يوقعون التزامات لفائدة شركات الوساطة يقرون فيها بأنهم المسؤولون عن كل ما يوجد بهذه المتلاشيات، سواء تعلق الأمر بسلع غير صالحة أو بمسروقات أو ممنوعات، خاصة عندما يتم تصدير هذه السلع نحو دول أجنبية. ورغم أنهم يؤكدون بأنهم يقومون فعلا بعملية فرز هذه المتلاشيات ويعلمون بأنها لا تضم أي ممنوعات، لكن يمكن أن تقوم أي جهة، كما يقولون، بدس مواد ممنوعة داخلها. وبسبب هذا الالتزام الذي يصفه المهنيون ب»المشؤوم»، يمكن أن يتعرض تاجر المتلاشيات للمتابعة القضائية أو السجن، سواء أكان مذنبا أم لا. يقول عبد القادر: «مول لافيراي ديما هاز معاه كبوط الحبس في الطوموبيل»، قبل أن يتساءل عن الضمانات التي يمكنها أن تحمي تاجر المتلاشيات وكأنه يشتغل في «النوار». ويضيف عبد القادر بأن «تاجر المتلاشيات يعيش دائما في خوف وترقب من الاعتقال، ومشاكل التجار لا تنتهي، بدايتها تكون خلال عملية الشراء، إذ يمكن أن يقتني التاجر سلعا مسروقة وهو لا يعلم بأنها كذلك». ويعتبر النحاس المادة الأكثر «شبهة»، إذ يتجنب المهنيون المتاجرة فيها واقتناءها من أشخاص هم في الغالب، يقول أحد التجار، «لصوص»، إذ «غالبا ما تتم سرقتها من بعض الشركات، خاصة شركات الاتصالات الهاتفية، فيفاجأ التاجر برجال الأمن يحاصرونه، وتكون التهمة هي «بيع شيء متحصل من جناية». وحتى إن كان التاجر حريصا على تطبيق القانون فإنه يتعذر عليه ذلك لأن لافيراي ما عند بوها فاكتورة». ويتساءل المصدر نفسه: كيف للتاجر أن يحمي نفسه وأسهل شيء يمكن حصوله هو توريط تاجر متلاشيات في التجارة في المسروقات؟ لكن رغم هذه المخاطر، يضيف المصدر ذاته، فإن هناك تجارا يخاطرون باقتناء النحاس ويخزنونه في «مطامير» أو حاويات شحن حديدية لأنه ببساطة «يدر أموال طائلة».