احتفل العالم يوم الاثنين، التاسع من دجنبر، ومعه المغرب باليوم العالمي لمكافحة الرشوة والفساد الذي يصادف صدور الترتيب العالمي لمجموع الدول وفق مؤشر مكافحة الفساد المعتمد من قبل منظمة الشفافية الدولية، والذي سجل -للأسف الشديد- تقهقرا للمغرب في قائمة الترتيب من الرتبة 88 إلى الرتبة 91، وعليه نرى من مسؤوليتنا اهتبال هذه المناسبة (غير السعيدة) من أجل الإجابة عن الأسئلة الملحة التي يطرحها هذا الموضوع الآن وهنا، على المغرب والمغاربة: أية مقاربة لإدراك موضوعتي الحكامة والفساد؟ دون الدخول في مناقشة البراديغمات النظرية وتعدد المقاربات، فإن المقاربة المؤسساتية للحكامة هي المقاربة النظرية والعملية المتعارف عليها دوليا، استنادا إلى مخرجات برنامج الألفية الذي أقرته الأمم المتحدة. وعلى هذا الأساس، فإن إقامة مؤسسات قوية في إطار بناء ديمقراطي هي حجر الزاوية في ما يسمى "الحكامة الديمقراطية الرشيدة"؛ هذا على مستوى الحكامة، أما على مستوى موضوعة النزاهة ومكافحة الفساد، والتي هي جزء لا يتجزأ من منظومة الحكامة، فإن المقاربة المؤسساتية، خلافا للمقاربة السلوكية التي يستند إليها التعريف الذي تبناه البنك الدولي وأصبح معتمدا وساريا، تقدم فهما نسقيا وشموليا لهذه الآفة ولعملية مكافحتها من حيث كونها تتصورها ك"قواعد لعبة" تتضمن ما هو رسمي ومتواضع عليه قانونيا وما هو غير رسمي كتفاهمات ضمنية وأعراف اجتماعية ومواثيق سلوك؛ فالفساد، وفق المقاربة المؤسساتية، يتمظهر كمعطى مندمج بين ما هو رسمي وغير رسمي ويتجاوز البعد الفردي السلوكي. وللتلخيص، يمكن أن نقول إن الحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد تمران، أولا ولزوما، عبر تقوية المؤسسات وتخليقها ورفدها بمقومات الشفافية والمشاركة والمحاسبة وسيادة القانون، مع التركيز على الأخلاقيات والحاجة إلى ترسيمها وإحاطتها بأسباب التنفيذ... لكن بعيدا عن المعالجات المعلبة والمقاربات السلطوية والإجراءات المفروضة من فوق، بل من المتعين إشراك المجتمع المدني مدعوما بالإعلام الحر والمسؤول في عملية الإصلاح والتجديد القانوني والمؤسساتي والأخلاقي، وكل ذلك استنادا إلى إرادة سياسية صادقة وصلبة... وفي المجمل، فإن المقاربة المؤسساتية تستدمج جميع العوامل والمقومات البشرية والقانونية والهيكلية والأخلاقية، وهي المقاربة المعتمدة من قبل المنظمات والمؤسسات الدولية في عمليات القياس الإدراكي والتقييم العملاني لمستوى تمثل وتطبيق معايير الحكامة الديمقراطية الرشيدة في بلدان العالم الثالث... ما هي التدابير السريعة التي يجب اتخاذها؟ التدابير السريعة تتلخص في ترسيخ دعائم البناء الديمقراطي من خلال تنزيل الدستور تنزيلا ديمقراطيا وتشاركيا، وصوغ قوانينه ومؤسساته الملحقة به، وتدبيج خطاب وبرنامج وطنيين للحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد، وتحسين التواصل مع المواطنين والمستثمرين عبر إخراج المواثيق الأخلاقية المنصوص عليها في الدستور، ولاسيما ميثاق الحكامة المرفقية، فالحكامة الإدارية والمالية هي المبتدأ وهي الخبر حول الحالة الصحية للحكامة، لأنها الأكثر التصاقا بالمواطنين بهمومهم وبحاجياتهم وتطلعاتهم، كما أنها تؤثر في مناخ الأعمال والاستثمار، ولا ننسى إصلاح القضاء، فكلما تم الإسراع في إخراج نصوصه التطبيقية أرخى ذلك ظلاله الايجابية على المناخ الاقتصادي... وكرس الثقة في التجربة السياسية المغربية الجديدة، فالثقة هي المفتاح الذهبي للتقدم إلى الأمام في تقديم صورة جاذبة عن المغرب وسمعته الدولية، وكلما اهتزت ينبغي ترميمها بسرعة وفعالية.. ولنضرب مثالا على ما نقوله بالتصريح الجدالي حول "العفو عما سلف من فساد"، فهذا التصريح استهدف طمأنة رجال المال والأعمال، وهذا مطلوب إذا استحضرنا السياق الاستقبالي الصعب للحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية، ولكنه بالمقابل خلف أصداء سلبية على مستوى الثقة في قدرة الحكومة على مواجهة آفة الفساد التي تعيق، ويا للمفارقة، مناخ المال والأعمال ذاته، وبالتالي كان من الواجب، وما زال الوقت متاحا لذلك، أن يتم التواصل المكثف والمتواصل مع المواطنين وكافة الأطراف المعنية من أجل التوضيح والتصحيح... ولاسيما على ضوء الرتبة المتدنية لهذا العام في سلم مكافحة الفساد وفق المؤشر الدولي للفساد، المعتمد من قبل ترانسبرانسي الدولية والذي يحظى بمصداقية دولية واسعة. أية إرادة؟ وأي تخطيط؟ وأي تنفيذ؟ نلاحظ من موقع المراقبين المتخصصين، وبقطع النظر عن الإشارات والإجراءات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة الجديدة على مستوى العفة الفردية السلوكية لوزرائها، وكشف بعض الملفات والمعلومات التي كانت ممنوعة من النشر، وتحريك بعض المتابعات القضائية ولاسيما ضد بعض المسؤولين الإداريين السامين، وإخراج بعض النصوص القانونية الهامة، ومع تسجيل هذه الإيجابيات، أن الدولة -بكل صراحة لأن الوضع لا يحتمل الكلام المعسول- ما زالت لم تفصح عن نيتها وعزيمتها وقدرتها على إرساء برنامج وطني استراتيجي استعجالي وهجومي للحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد، وما زلنا نشاهد نوعا من البطء والتعثر والغموض، وأحيانا التضارب، في الأولويات وفي السياسات التنفيذية.. مازلنا نلاحظ غلبة الماضي على الحاضر، والضعف النسبي لإيقاع التغيير بالمقارنة مع إيقاع الاستمرار، والمؤمل هو الانتهاء من حالة الانتقال والانتظارية عبر استكمال عملية تنزيل الدستور وإرساء القوانين والمؤسسات من أجل إعادة ترتيب الأولويات، ولم لا إعادة صياغة برنامج وطني استراتيجي واستعجالي للحكامة الرشيدة ومكافحة الفساد، فهذان موردان في متناول اليد ومدران للكثير من الأرباح السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ودعونا نعترف بأن مؤسسة كالهيئة الوطنية للنزاهة كان يجب أن تكون هي أولى أولويات المجهود التشريعي من أجل الإسراع في وضع برنامج وطني لمكافحة الفساد بمساعدة هذه المؤسسة، حتى يكون تقييم عمل تلك المؤسسة بمثابة بارومتر موضوعي وموثوق لمدى تقدم الدولة والحكومة والمجتمع على درب التغلب على الفساد الذي مازلنا في المغرب مهزومين أمامه حتى الآن بفارق واسع من النقط. والمسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، على أن الحكومة هي صاحبة المرتبة الأولى في سلم المسؤوليات التنفيذية. أين تكمن معالم القصور في السياسات المتبعة حتى الآن؟ - ضعف بنيوي في التواصل بين الحكومة والمواطنين، مع تسجيل تقدم نسبي.. - غياب برنامج وطني مضبوط ومحدد بمؤشرات في مجال الحكامة ومكافحة الفساد؛ - البطء والتردد في ترسيخ قواعد الشفافية، ولاسيما في المجالات المغلقة أو الغامضة؛ - تشتت وتشرذم أنساق وعمليات المراقبة والمحاسبة؛ - ضعف مؤشرات مواجهة ظاهرة الإفلات من العقاب؛ - بطء تعميم وتنفيذ مواثيق الأخلاقيات وعدم معرفة مآلات حالات الإخلال ببنود تلك المواثيق؛ - ضعف مؤشرات مواجهة حالات تضارب المصالح واستغلال النفوذ؛ - غموض عملية تنزيل القانون الجديد حول التعيين في مناصب المسؤولية، ولقد كان التصريح الشجاع الأخير لوزير التعليم العالي صادما حول صعوبة مواجهة الاعتبارات غير الموضوعية في عملية التعيين تلك. - ضعف التنسيق والتكامل بين المؤسسات، كل المؤسسات المعنية بالحكامة والتخليق، وأهمها البرلمان والحكومة ومؤسسات الحكامة والقضاء، وحاجة مؤسسات الحكامة إلى إعطاء القدوة في الحكامة؛ - مشكلات وعوائق اندماج المجتمع المدني في عملية تخليق الحياة العامة وترسيخ قواعد الحكامة الرشيدة. ما هي الآليات العملية الكفيلة بتخليق الحياة العامة في شموليتها؟ كعناوين عامة، ينبغي ترسيخ وتدعيم شروط أساسية وهي: الشفافية والمشاركة والمراقبة والمحاسبة وحكم القانون. وعمليا، ينبغي الإسراع في إخراج قانون الحق في الحصول على المعلومات، على أن يكون عصريا ومطابقا للمعايير الدولية، وتدعيم وتفعيل آليات ومؤسسات الرقابة والمحاسبة الداخلية والخارجية في المرافق العمومية، ونشر تقاريرها وتأمين التكامل في وظائفها ومهامها مع دور ومهام المجلس الأعلى للحسابات، مع ربط الرقابة بالمحاسبة من خلال استخلاص العبر من تقارير الرقابة واللجوء إلى المعالجة المزدوجة البناءة، أي تحسين الحكامة وإصلاح طرق وآليات التدبير العمومي وتحديثها من أجل استباق المخاطر من جهة أولى، ومعاقبة المخلين بواجباتهم أو المسيئين إلى الأمانة العامة من جهة ثانية. ثم الاهتمام بالعنصر البشري من خلال تحسين الأجور، وإعمال قاعدة الثواب وتشجيع الكفاءات، ولاسيما المهمشة، ومواجهة ظاهرة تضارب المصالح والإثراء غير المشروع على حساب المرفق العام وتعميم مواثيق الأخلاقيات ومعاقبة المخلين ببنودها... وعلى صعيد شامل، يتعين أن يتم ترسيخ هذه القيم والآليات في جميع المواقع ذات العلاقة بالشأن العام والمال العام، بما فيها جمعيات المجتمع المدني والمواطنين والطلبة والتلاميذ... وأن تتحمل الصحافة الحرة والمهنية والمسؤولة كامل مسؤوليتها، إضافة إلى علماء الدين ورجال التربية... ولنتذكر دائما أن وضوح الرؤية والصدق والأمانة وحسن القدوة من الأعلى إلى الأسفل، هي قيم مؤسسة وضامنة لنجاح أي مجهود سياسي أو إداري في سبيل الدخول الفعلي والفعال إلى عهد التخليق والتحديث في بلادنا. وأخيرا، من المهم أن نشدد على أمر مركزي، وهو أن الحركية والحيوية التي يتميز بها المجتمع المغربي، في هذه الظرفية التاريخية، تبعث على التفاؤل العقلاني بالمستقبل، رغم عظم التحديات، فلنتشبث جميعا بحبل الأمل، المقرون بصدق وأمانة وكفاءة العمل ! محمد براو *رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد