موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هؤلاء «ضحايا» مناجم الهولدينغ الملكي
«المساء» زارت دواوير إيميضر وبوعازر وأجرت أزيد من 60 اختبارا على المياه والتربة والخلاصة: أخطار محتملة على الصحة العامة والبيئة
نشر في المساء يوم 12 - 12 - 2013

قبل أسابيع في الجلسة الأسبوعية لمجلس النواب، أثير موضوع مآل عائدات الثروات المعدنية والمنجمية التي تتوفر عليها مناطق الجنوب الشرقي، خاصة في ورزازات وزاكورة وتنغير، وكان السؤال الأبرز هو "متى ستستفيد هذه المناطق من عائدات ثرواتها المعدنية قصد تجديد بنياتها التحية في مجالات متعددة، وأساسا في الطرق والماء الصالح الشرب والصحة والبنيات الأساسية".. السؤال ليس جديدا، مثلما ليس جديدا جواب وزير الطاقة والمعادن المشرف على القطاع، وهو من نوع الأجوبة التي تصلح لكل زمان ومكان.. فقضية تنمية المحيط المنجمي والمسؤولية المعنوية التي تتحملها الشركات المستغلة لهذه الوحدات، تثير الكثير من النقاش، وإلى اليوم مازال كثير من سكان هذه المناطق يناضلون من أجل طريق معبدة، ومستوصف بحد أدنى من التجهيزات، ومدرسة تعفي أبناءهم من عشرات الكيلومترات بحثا عن مستقبل لائق.
لكن ماذا لو قلبنا السؤال الأصلي، وصار كالتالي: "متى سيتم التدخل لإيقاف الأضرار الخطيرة التي تسببها هذه المناجم لمحيطها، بسبب مخلفاتها الملوثة التي تطرحها دون احترام المعايير المعتمدة، بدليل الأمراض التي يعانيها سكان كثير من الدواوير، وبدليل الزراعات التي تم تدميرها، والأدهى من كل هذا تدميرها المتواصل للمجال البيئي، بما فيه الغطاء النباتي أو اندثار بعض
أنواع الطيور والوحيش..؟».
اخترنا في "المساء" أن نغوص في معمعة الملف محاولين الإحاطة بما تيسر من جوانبه، واخترنا وحدتين منجميتين بالمغرب الشرقي، هما منجم بوعازر بتراب تازناخت، ومنجم إيمضير بتراب تنغير..وهما وحدتان تابعتان لمجموعة «مناجم» أحد فروع «الشركة الوطنية للاستثمار» أو بمعنى آخر استثمار من استثمارات الهولدينغ الملكي".. وكنا في كل مرحلة من مراحل هذا التحقيق نصطدم بسؤال: "عن ماذا تبحثون وأنتم تثيرون هذا الملف؟" وهو سؤال سمعناه حتى من أفواه أساتذة جامعيين رفضوا أن ينيرونا في أمور هي من صميم اختصاصهم، بمبرر السر المهني أو الالتزام الأخلاقي مع شركات
تربطهم معها عقود عمل؟
القضية كبيرة، وتتنازعها روايتان متناقضتان، رواية سكان متضررين يطالبون برفع الضرر قبل الحديث عن أي تنمية، ورواية شركات مستغلة تحتمي بشهادات الإيزو وعلامات المسؤولية الاجتماعية التي تزين مكاتبها، وبين الفريقين تقف العديد من القطاعات الوزارية التي يفترض أنها تحرص على احترام القوانين المنظمة للاستغلالات المنجمية، مثلما من مهام أخرى الحرص على سلامة بيئتنا وسلامة آلاف المواطنين من الأخطار المحتملة لهذا النشاط. والبحث اقتضى منا في بعض الحالات أن ننتظر أزيد من 3 أسابيع، وتحمُّل بيروقراطية بعض الموظفين، لنحصل في الأخير على أجوبة عامة تصلح لكتابة مقال إشهاري أكثر منها لإغناء تحقيق صحافي، بدليل المعطيات التي توصلنا بها من قطاعات يفترض أنها تدبر ملفا بهذه الحساسية في مملكة تعج ترسانتها بقوانين ومراسيم لا يتم تذكرها إلا في المحافل والمناسبات.. بل لكم أن تتصوروا إحساسنا حين يقول مسؤول كبير بوزارة البيئة: "للأسف لا توجد لدينا أي دراسة تهم موضوعكم، وربما هي فرصة حين يصدر تحقيق "المساء" كي نقوم بالبحث في الأضرار التي تسببها المناجم في هذه الدواوير" !!
قطعنا أزيد من 1600 كيلومتر، واستجوبنا أكثر من مصدر، ولأننا نرغب في أن يكون التحقيق متوازنا، أجرينا أزيد من 60 اختبارا على عينات من المخلفات وعينات من مياه الشرب، فضلا عن عينات من التربة- لا نزعم أنها دراسة علمية مدققة تستجيب لجميع مقومات البحث العلمي، ونحن مقتنعون أن أكثر من جهة ستطعن فيها- لكنها على الأقل محاولة لإيجاد رواية ثالثة لا مصلحة لنا فيها
سوى كشف الحقيقة..
الخميس 7 نونبر الماضي، عشرات النسوة والشيوخ والأطفال متحلقون في حلقية بأعلى قمة جبل «ألبّان»، الكل ينصت باهتمام لخطابات متوالية يلقيها نشطاء من حركة «على درب 96» بأمازيغية قبائل أيت عطا. بعض هؤلاء قدموا من دواوير أيت امحند وأيت إبراهيم وأيت إيغير، مثلما جاء آخرون من دواوير أنو نيزم، وإيزومكَن وتابولخيرت ثم إيكيس، غايتهم واحدة هي الاحتجاج ووسيلتهم لم تتغير منذ أزيد من 3 سنوات هي عمر المعتصم الذي أقاموه، حتى صارت الحلقية أو «أكَراو» كما يسمونها هنا، طقسا أسبوعيا يحج إليه الكثيرون ممن يصرون على أن يتم الإنصات إلى مطالب يرون أنها تكتسي مشروعيتها من النصوص القانونية ومما تضمنه المواثيق الكونية من حقوق، ولا يتوانون في الدفاع عنها حتى لو كلف الأمر التضحية ببعض المنتمين إلى الحركة، ممن يساقون إلى السجن بتهم مختلفة، كما حدث في احتجاجات 1986 واعتصام يناير 1996.
معركة العطش..
يقع منجم إميضر في السفح الشمالي لجبل صاغرو، وهو منجم قديم أعيد اكتشافه في الستينيات من القرن الماضي بفضل المسح الطوبوغرافي الذي أجراه «مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية»، إلا أن مهمة القيام بالدراسات ومباشرة الأشغال الجديدة، تطلبت إحداث شركة جديدة، وهو ما أفضى إلى ميلاد شركة معادن إميضر (SMI) سنة 1969، التي كان يساهم في رأسمالها كل من مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية بنسبة 69 في المائة و«أومينيوم شمال أفريقيا» (أونا) بنسبة 31 في المائة، وهو الوضع الذي استمر إلى حدود 1996، إذ حازت الشركة التابعة للهولدينغ الملكي مجموع الأسهم. لكن على مدى العقود الأربعة الأخيرة ظلت العلاقة التي تربط الشركة المسيرة للمنجم بمحيطها موسومة بالتوتر الذي يصل إلى حد المواجهة، وطيلة هذه السنوات كانت احتجاجات السكان تتمحور بشكل أساسي حول التأثير السلبي للمنجم على محيطه، إذ يصر نشطاء الحركة على أن «عمليات التوسيع التي يعرفها منجم إميضر شكلت مصدرا لتنمية طاقته الإنتاجية حتى صار اليوم ضمن أكبر 10 مناجم للفضة في إفريقيا، بقدرة إنتاجية تزيد عن 243 طن من الفضة الخالصة سنويا (99.5 في المائة)، مثلما صاحبها نمو متزايد لحاجيات متزايدة إلى الماء، لهذا لجأت الشركة بداية إلى حفر بئر «تاركَيط» سنة 1986، دون سند قانوني رغم اعتراض السكان، وهو البئر الذي مازال إلى اليوم تحت حراسة مشددة للقوات العمومية على مدار ساعات اليوم، قبل أن تعمد سنة 2004 إلى حفر بئر جديد بالمنطقة المسماة «أمردول ن تيدسي» شمال شرق جبل «ألبّان»، وقبل انطلاق عمليات الضخ عقد اتفاق بين مسؤولي الشركة وبعض نواب الأراضي السلالية يحق بموجبه للشركة التنقيب عن الماء بهذه المنطقة، وذلك بتاريخ 23 أبريل 2003. ليتم سنة بعد ذلك توقيع اتفاقية بين ممثلي الشركة المنجمية وبعض المنتخبين، وبعض الممثلين، وبعض الأعيان، لتمكين الشركة من استغلال الثروات المائية ب «تيدسى» مقابل امتيازات ومساعدات اجتماعية. وهي الاتفاقية التي توضح كيفية قياس الصبيب، وكذا الإجراءات الواجب اتخاذها في حالة نضوب المياه في الخطارات والآبار بالجماعة. وعلى إثره منحت وكالة الحوض المائي لگير –غريس- زيز ترخيصا للشركة يسمح باستغلال ثقب واحد ذي الرمز SH1، بصبيب مستمر يبلغ 24 لترا في الثانية لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد ابتداء من 15 غشت 2004.
الاتفاق صار اليوم محط خلاف بين الشركة وبين نشطاء الحركة، إذ يتهمونها بأنها تستغل ثقبا آخر دون سند قانوني، بدل الثقب المتضمن في الرخصة، والذي يعرف مشاكل مرتبطة أساسا بنوعية الطبقة التي تحيط بالفرشة المائية، إذ عرفت انهيارات متتالية. في حين تصر إدارة مجموعة مناجم على أنها تحترم جميع البنود التي يتضمنها، وفي هذا الصدد يقول يوسف الحجام، مدير فرع المعادن النفيسة بالمجموعة: «قبل القيام بأي حفر للبحث عن المياه، تجري الشركة دراسات هيدرولوجية مدققة بالتعاون مع وكالة الحوض المائي للجهة المعنية، وعندما يتأكد وجود مياه جوفية، تقوم بحفر آبار أو ثقوب (بعمق لا يصل إلى 200) للتأكد من ذلك في إطار رخصة استكشاف من طرف وكالة الحوض المائي. بعد ذلك، نقوم بدراسة تأثير بيئي لاستغلال مياه البئر أو الثقب، ثم يتم إجراء جميع التحريات الضرورية (بحث عمومي) التي يتم على إثرها، تسليم رخصة الاستغلال من طرف الجهات المعنية».
المبررات التي تقدمها إدارة الشركة لا تجد لها صدى لدى أبناء هذه الدواوير، ولهذا كان الحل بالنسبة إليهم هو إغلاق بئر «تيدسي» بالقوة بتاريخ 1 غشت 2011، بمبرر أنه لم تحترم التزاماتها المضمنة في الترخيص الممنوح لها، وفي هذا الخصوص نستمع إلى آراء بعض شيوخ المنطقة ممن عايشوا ميلاد المنجم وعمليات التوسعة العديدة التي خضع لها، يقول الشيخ إبراهيم أومني وهو من سكان دوار أنو نيزم الذي يبعد بقرابة 7 كيلومترات عن المنجم: «الثقوب التي تنجزها شركة المناجم تصل في عمقها إلى ما بين 400 و 600 متر، وهذا يؤدي إلى نقص مستويات المياه في الآبار التي نستعمل، وخلال نضالنا ضد الشركة تمكنا من ردم خمسة ثقوب رغم الحماية التي توفرها السلطات للشركة. ونحن لا نطالب إلا بتطبيق القانون، وإذا كان من حق الشركة أن تنجز الثقوب فعليها أن تدلي بالوثائق التي تؤكد أحقيتها، وإلا فسيكون على السلطات أن تمكننا من وثيقة رسمية تقول إننا لا نملك الحق في منعها».
الفكرة ذاتها يدعمها محمد بناصر رئيس جمعية «تيفاوت للماء الصالح للشرب» الذي يؤكد أن «عمليات الحفر التي قامت بها الشركة للتزود بالمياه الضرورية لتشغيل محطاتها تسببت بالفعل في انخفاض منسوب المياه في الخطارات التي تزود الدواوير بالمياه، وهذا بسبب الثقوب الكثيرة التي تنجزها والتي يصل عمقها في بعضها إلى 600 متر، ما كان له تأثير كبير على نضوب العديد من عيون الماء في المنطقة»..
للتدليل على هذه الفرضية يستند المعتصمون على نتائج خبرة أنجزت بتاريخ 29 غشت 2005، إذ قام مكتب الدراسات «إنوڤار» الذي سبق أن أنجز دراسة التأثير لفائدة الشركة المنجمية شهر يونيو 2004، بقياس الصبيب بالخطارات ومقارنته بالنتائج المسجلة أثناء الدراسة السالفة الذكر. وقد خلصت هذه المقارنة إلى تسجيل انخفاضات قوية بعد أقل من سنة على بدء استغلال ثقب «تيديسي»، خاصة على مستوى خطارة «تاغيا» بنسبة 61 في المائة وخطارة «توجديدت» بنسبة 58 في المائة. بينما سجل بئر «أنو نيمكساون» انخفاضا لمستوى استقرار المياه بلغ 1.25 مترا». وفي قراءة لنتائج حملة القياسات التي قام بها مكتب الدراسات، أكد مسؤولوه أن السبب وراء الانخفاضات المسجلة «قد يعزى بالدرجة الأولى إلى تأثير استغلال الثقب من طرف الشركة المنجمية وليس إلى الجفاف، لأنه حسب شهادات السكان، فالخطارات لا تتأثر بالجفاف سوى بجزء ضئيل».
النزاع مازال مستمرا إلى اليوم بين الشركة وبين المعتصمين، الذين سئموا من تحرير الشكايات والتعرضات، وتوقيع العرائض التي يعتقدون أنها دائما ما تظل طريقها بين ردهات الإدارات المعنية، مثلما سئموا انتظار تدخل الجهات المختصة لضمان تطبيق القوانين المنظمة خاصة قانون 10-95 المتعلق بالماء، ولهذا لم يجدوا أمامهم إلا الاستمرار في الاعتصام إلى حين كسب معركة العطش التي أجبروا على خوضها من طرف شركة يعتقدون أن «الحفاظ على محيطها وتنميته هو آخر اهتماماتها، بدليل الفظاعات الأخرى التي ترتكبها كل يوم من خلال النفايات السامة التي تنفثها في البيئة منذ عقود ما يهدد كل أشكال الحياة بالمنطقة، حسب ما يقوله السكان».

تهم أخطر..
وجود منجم الفضة بمنطقة إيميضر لا يثير فقط مشكل استنزاف الفرشة المائية مع ما يعنيه ذلك من مشاكل بالنسبة لقرابة 6 آلاف نسمة، وما يشكل من تهديد للفلاحة وهي النشاط الاقتصادي الأساسي لغالبية السكان، بل إن الأمر حسب نشطاء حركة «على درب 96» أخطر ويتعلق «بالتهديد الذي يمثله النشاط المنجمي بالنسبة للصحة العامة والزراعات والبيئة بشكل عام، وهذا في تحد للمعايير والقوانين التي تنظم القطاع المنجمي»، بل أكثر من ذلك يثير هؤلاء موضوع عدم توفر الشركة المستغلة على دراسة للتأثير منذ شروعها في الاستغلال. وهي الدراسة التي يحددها القانون 03-12، وتهدف إلى القيام بتقييم ممنهج ومسبق للآثار السلبية المحتملة والمؤقتة والدائمة، وهذا التقييم يدرج آثاره على الإنسان والحيوان والتربة والمناخ، بالإضافة إلى إزالة التأثيرات السلبية للمشروع على البيئة. ولكون الفضة من المعادن النفيسة، يشدد النشطاء، «على أن عملية المعالجة تتم باستعمال مواد كيميائية وعناصر شديدة السمية، وهي المسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالمحيط البيئي، وإصابة السكان بأمراض عديدة دون الحاجة إلى إثبات».
لنعد مجددا إلى حلقية معتصمي جبل ألبان، حيث وجدنا الكثيرين يتحدثون عن إصابتهم بالعديد من الأمراض، وبشكل خاص أمراض الجهاز التنفسي والأمراض الجلدية وبعض أنواع السرطانات، ويشيرون بأصابع الاتهام إلى مخلفات المنجم سواء الغازية أو السائلة والصلبة. يقول «تونس» وهو اللقب الذي يشتهر به هنا، «إنه أصيب بطفح جلدي تصاحبه حكة شديدة وإفرازات صفراء، منذ سنوات عديدة، وبسببه زار العديد من الأطباء والاختصاصيين سواء في تزنيت أو الرباط، وكلهم يؤكدون أن الأمر يتعلق بمادة موجودة في المنطقة حيث يعيش، وقد تكون المياه التي يستهلك أو بسبب هواء ملوث». المصدر ذاته يضيف: «ما يؤكد أن لمخلفات المنجم علاقة بأعراضي المرضية هو أنني أشفى تماما كلما غادرت المنطقة إلى مدينة أخرى، لكن الأعراض تعود للظهور بمجرد عودتي إلى البلدة، إلى درجة أنه في بعض الأحيان تتساقط أظافر يدي أو رجلي، حتى إني لم أدع أي وصفة سواء طبية أو شعبية تقترح علي إلا جربتها دون طائل..».
ما يحكيه «تونس» عن أعراضه المرضية، يتشارك فيه الكثيرون هنا، وحسب تأكيدات أكثر من مصدر استمعت إليه «المساء» «هناك العديد من الحالات في الدواوير المنتمية إلى محيط المنجم مصابون بالأعراض نفسها ضمنهم أطفال ونساء وشباب، وبعضهم يستعمل الأدوية الطبية في حين يكتفي كثيرون باستعمال العلاجات الشعبية عساها تخفف عنهم حدة الآلام التي تصيبهم نتيجة الحك المتواصل، وغالبا ما تختفي تلك الأعراض بمجرد الانتقال للعيش خارج المنطقة»..
ليست الأمراض الجلدية وحدها المتفشية في هذه الدواوير، إذ صادفنا حالات عديدة يؤكد أصحابها أنهم أصيبوا بأمراض الجهاز التنفسي والحساسية وأمراض العيون، فضلا عن أمراض الجهاز العصبي ويصرون على أنها بسبب المخلفات التي يطرحها المنجم، وأغلب من التقيناهم يكتفون في أقصى الحالات باستعمال الأدوية التي يصفها أقرب طبيب دون القدرة على تحمل مصاريف تتبع الحالة والوقوف عند مسبباتها، رغم أنهم مقتنعون أن متاعبهم الصحية لن تنتهي بمجرد استعمال «بخاخات» تطرد حالات السعال والاختناق التي تصيبهم. محمد الداودي، عضو لجنة الإعلام بحركة «على درب 96» واحد من هؤلاء يقول: «أصبت بالحساسية منذ سنوات وأنا اليوم مضطر إلى استعمال أنواع عديدة من «البخاخات» التي تساعدني على التنفس وصفها لي طبيب عام، لكني لم أقم أبدا بعرض نفسي على اختصاصيين، أو على مختبرات متخصصة للكشف عن سبب إصابتي بهذا المرض، وإمكانية أن تكون مخلفات المنجم هي السبب فيه».
الداودي يضيف: «للأسف هناك العشرات -إن لم أبالغ بالقول المئات- من سكان الدواوير السبعة المشكلة لجماعة إيمضر ممن يعانون الأعراض نفسها، لكن ضيق ذات اليد وغياب مركز صحي يتوفر على الحد الأدنى من الأطر الطبية والتجهيزات يزيد متاعبهم، ولهذا يضطر الكثير منهم إلى التعايش مع وضعهم والبحث عن تخفيف آلامهم ولو بوسائل بدائية».
وعلى غرار الشكايات المتعلقة بالمتاعب الصحية التي يسببها المنجم لسكان الدواوير المحيطة به، يبرز ملف آخر لا يقل أهمية عن سابقه، ويتعلق بتضرر المحاصيل الزراعية والأشجار المثمرة وأشجار النخيل، وهي الفكرة التي يدعمها أكثر من مصدر التقيناه خلال إنجاز هذا التحقيق. يقول تقرير صادر عن حركة «على درب 96» بهذا الصدد «إن وجود المنجم شرق الجماعة القروية يجعله في مسار رياح «الشرگي» التي تهب ابتداء من شهر أكتوبر إلى منتصف شهر مارس. وتنقل غبارا ساما ما يشكل خطرا محدقا بالأراضي الفلاحية المحيطة بالمنجم. هذا الخطر الذي لوحظ منذ زمن بعيد في أوساط الفلاحين الذين يؤكدون على أن أشجارهم تفقد أوراقها بشكل متكرر كل موسم، وتحول دون نموها الطبيعي، ما يؤدي إلى تعفن الثمار، وبالتالي سقوطها قبل أوان النضج».. يقول محمد بوطاهر وهو من فلاحي إيمضير: «التلف الذي يصيب الأشجار لا علاقة له بالأمراض المعروفة والتي يمكن الحد منها من خلال استعمال المبيدات الزراعية، ولا علاقة له أيضا بالجفاف، لأنه بعد إغلاقنا بئر «تيديسي» ارتفع منسوب المياه بالخطارات والآبار وصارت الزراعات تستفيد من الكميات التي تحتاجها.. وبالتأكيد فللأمر علاقة مباشرة مع مخلفات المنجم، سواء السائلة التي يصل ضررها إلى المياه الجوفية التي نستعمل في السقي، أو الغبار المتصاعد من المنجم، ويمكن لأي كان أن يلاحظ في الصباح الباكر سحابة كثيفة من الغازات التي تتخذ مسار الوادي لتصل إلى الدواوير والضيعات المحيطة بالمنجم»..
فكرة أخيرة أوردها الشيخ أومني، الذي اشتغل قبل عقود بالمنجم، قبل أن يؤول أمر تسييره إلى مجموعة «أونا»، وهو الذي خبِر بعض تفاصيل العمل به يقول: «أشك أننا حين بدأنا في اعتصامنا قبل 3 سنوات عمدت الشركة إلى نزع مصافي المداخن التي تمنع تسرب الغازات السامة والتي تفيد في التقليل من مستويات التلوث وهي المصافي التي كانت تستبدل كل يوم. وتحد من خطورة الغازات التي تصل إلى الدواوير والضيعات التي صارت أغلبها مهجورة».. المصدر ذاته يضيف: «وكأن الشركة ترغب في أن نفهم رسالة واحدة مفادها، أنها لن تذعن لمطالبنا ولو استمر اعتصامنا الدهر كله».
هل فعلا تتعمد الشركة ترك المداخن من دون مصافي تمنع تسرب المواد السامة للانتقام من المعتصمين الذين تسببوا لها في خسارات بمليارات الدراهم بسبب قطع مياه بئر «تيديسي» كما يقول الشيخ إبراهيم؟ وهل لذلك علاقة بالأمراض المتفشية في هذه المنطقة، والمشاكل التي تصيب الزراعات التي تضررت كثيرا، ولم تعد ترجى منها أي فائدة؟ الجواب عن هذا السؤال صعب ووحدها إدارة المنجم تملك الجواب عنه، في غياب أي خبرة محايدة تؤكد أو تنفي الكثير من الروايات المتداولة هنا..
بوعازر المنسية..
تركنا إيميضر، وسكانها يستعدون لتنظيم مسيرة أخرى إلى المنجم، عسى أن يقاوموا النسيان الذي يلف مأساتهم التي أُجبروا على عيشها، ووجهتنا كانت هذه المرة جماعة بوعازر التي تبعد بقرابة 250 كيلومترا في عمق إقليم زاكورة، على الطريق الرابطة بين أكدز وتازناخت، هنا يوجد منجم آخر تديره شركة «تينفوت تيغانيمين» وهي أيضا من ضمن الوحدات المنجمية التي تنتمي إلى مجموعة «مناجم».. لكن قليل من المغاربة ربما سمعوا بهذا المنجم المتخصص في استخراج الكوبالت، مقارنة مع منجم الفضة بإمضير الذي تسلط عليه الكثير من الأضواء، خصوصا بعد دخول حركة «على درب 96» في اعتصامها قبل 3 سنوات. وربما نجد تفسيرا لهذا التعتيم في ما قاله المدني موكي، مستشار جماعي وواحد من سكان دوار بوعازر ممن عملوا لعقود في المنجم، يقول «هناك تعتيم كبير على منجم بوعازر، علما أن الأمر يتعلق بأكبر منجم في المغرب يفوق في مردوديته باقي المناجم التابعة للمجموعة، حتى أن الفرص الوحيدة التي يظهر فيها اسم المنجم في بعض وسائل الإعلام - غير الرسمية طبعا- تكون بمناسبة فض اعتصامات العمال بالقوة، إذ ترفض الشركة أي وجود لعمل نقابي حقيقي داخله، أو حينما تتناقل الأخبار مآسي وفيات عمال بسبب ظروف العمل القاسية، كما حدث قبل بضعة أسابيع فقط حين فارق اثنان من العمال الحياة بسبب سقوط صخرة عليهما في يوم عطلة رسمية صادفت الاحتفالات بعيد الاستقلال».
في محيط هذا المنجم، الذي اكتشف سنة 1928 وبدأت عمليات استغلال احتياطاته منذ سنة 1932 من طرف شركة فرنسية، قبل أن تقتنيه مجموعة «أونا» بداية ثمانينيات القرن الماضي من «مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية»، استمعنا إلى حكايات عدد كبير من السكان ممن تتشابه رواياتهم مع سكان جماعة إيمضير، وهنا أيضا يعيش مئات المواطنين عزلة قاتلة ومصيرا تتحكم فيه بشكل أساسي مخلفات سائلة وصلبة تطرحها الشركة.. لكنهم تعبوا من نقل همومهم اليومية إلى مختلف المسؤولين دون طائل، وهم أحوج ما يكون إلى طريق معبدة ومدرسة لتعليم أبنائهم ومستوصف يوفر لهم العلاجات الضرورية، بدل محنة التنقل إلى تازناخت أو أكدز التي تبعدان بعشرات الكيلومترات. وهؤلاء أيضا يصرون على أن الشركة تستنزف خيرات المنطقة دون أن تكلف نفسها عناء المساهمة في تمكين المواطنين من أبسط حقوقهم التي تضمن لهم كرامة العيش.
البداية كانت بدوار بوعازر، الذي لا يبعد سوى بحوالي 200 متر عن المنجم، مساكن طينية أغلبها هجرها مالكوها بسبب النشاط المنجمي الذي يحيل عيشهم إلى عذاب يومي، ولم يبق منها سوى 14 كوخا يرفض مالكوها ما تقترحه الشركة من تعويضات هزيلة. يقول المدني: «نحن نعيش هنا منذ عقود طويلة ونعاني كل يوم من الغبار المتطاير بسبب مخلفات المنجم الصلبة (لاديك) التي تصل إلينا كلما هبت الرياح، وكثير من السكان هنا مصابون بعدد من الأمراض، وقد اقترحت علينا الشركة سنة 2012 -عبر وساطة القائد السابق- منحنا 5 ملايين سنتيم فقط من أجل الرحيل عن دوارنا، فماذا يمكننا أن نفعل بمبلغ زهيد مثل هذا لن يكفي حتى لشراء بقعة أرضية، فبالأحرى بناؤها وتجهيزها.. ولماذا ظلت ترفض الشركة أن تتحمل مصاريف بناء مساكن لنا في منطقة بعيدة عن المنجم بدل منازلنا الحالية».
المدني، الذي يناضل كل يوم من أجل إسماع صوت السكان في كل فرصة تتاح له مع مسؤولي الشركة أو السلطات المحلية، يقول إن «مخلفات المنجم تسبب الكثير من الأعراض المرضية لسكان الدواوير المحيطة به، وشهر رمضان الماضي أصيب ابني، الذي يبلغ من العمر 6 سنوات بمرض جلدي، وعرضته على أطباء أجانب زاروا المنطقة ضمن جمعية طبية، وحين فحصوه أكدوا لي أن مرضه على علاقة بالمياه التي نستعمل، وهذا ما تأكد حين عوضنا المياه التي يشربها بماء معدني، والآن اضطررت إلى أن أٌبعده إلى ورزازات حتى لا تتفاقم حالته الصحية، وللأسف فضيق ذات اليد تمنع سكان الدواوير من زيارة المختصين، والكشف عن علاقة الأمر بما يطرحه المنجم من سموم».
ما يحدث في بوعازر ينسحب على باقي الدواوير التي توجد على ضفاف وادي أوحميدي، والذي ينقل مخلفات المنجم السائلة إلى 6 دواوير أخرى، وهي زاوية سيدي بلال وأمازّر وأيت عيسى، وأيت مرابط، وتالات، ثم تاستّيفت. بل إن شهادات السكان تفيد أن مياه الوادي في موسم الأمطار تنقلها حتى «فم زكيد التي تبعد بقرابة 50 كيلومتر في تجاه إقليم زاكورة، ولهذا فالأعراض المرضية نفسها تنتشر بين سكان هذه الدواوير، يقول المدني مضيفا: «هناك تلويث كبير للمياه الجوفية من طرف المنجم، بدليل أنه صدرت أوامر بمنعنا من استعمال الآبار للشرب، وتم تعويضها بمياه خزان تم إنشاؤه في منطقة تالوست بتزناخت البعيدة نسبيا عن الدواوير التي تصلها مخلفات المنجم، لكن الغريب أن أطر الشركة لا يشربون من هذه المياه ويستعيضون عنها بقناني المياه المعدنية، وهذا يجعلنا نطرح التساؤلات حتى عن مدى جودة المياه البديلة التي يزودوننا بها».
ما يشير إليه المستشار الجماعي، يؤكده أيضا حسن أيت الحاج، رئيس جمعية المرابطين بزاوية سيدي بلال، إذ يقول إن تقريرا صدر من وزارة البيئة سنة 1996، يوصي آهالي الدواوير المحيطة بالمنجم خاصة سكان الزاوية بعدم استعمال مياه الآبار، وأتذكر أن القائد أخبرنا بفحوى هذا القرار وحين طلبت إليه وثيقة في الموضوع رفض مدي بها». أيت الحاج يضيف: «الحديث عن وجود علاقة بين مخلفات المنجم والأمراض الشائعة هنا أمر محسوم فيه، والوضعية تفاقمت خلال السنوات الأخيرة، مع افتتاح معامل جديدة، وتزايد كميات المخلفات التي يتم طرحها، والتي تحتوي على كميات من المعادن الثقيلة شديدة السمية تفوق الحدود المقبولة خاصة الزرنيخ (Arsenic)، وهذا يؤثر أيضا على جميع أشكال الحياة الطبيعية ويسبب تلف الأشجار والنخيل وحتى لو استعملنا الأسمدة فالأمر لا ينفع أبدا، مع التأكيد أن الأمر لا يتعلق أبدا بالأمراض المعروفة التي تصيبها خاصة مرض البيوض.. ورغم أن سكان هذه الدواوير أسسوا جمعيات عديدة، لكن عملها بقي محدودا بسبب ضعف التأطير وعدم انخراط السكان، وهو ما لم يساعد في التعاطي مع الملف كما يجب، إذ كان بالإمكان أن نطلب خبرة تحدد نسبة التلوث سواء في المياه أو التربة، وحينها ستكون أمامنا إمكانية مقاضاة الشركة، لأننا مقتنعون أن الحوار معها لن يفضي إلى أي شيء».
مزيد من الغموض..
من الصعب الحسم في الصلة المحتملة بين المخلفات التي تطرحها الوحدتان المنجميتان لإيمضير وبوعازر، وبين تفشي بعض الأمراض بين السكان، على اعتبار أن هذه الرواية التي يصر عليها نشطاء حركة «على درب 96» المعتصمون في جبل ألبّان بإيمضير، أو نشطاء الجمعيات ببوعازر، تقابلها رواية مخالفة نسوقها على لسان يوسف الحجام، مدير قطب المعادن النفيسة بمجموعة «مناجم» الذي يقول ل«المساء»: «تولي المجموعة أهمية كبيرة لإشكاليات الصحة والسلامة والبيئة. وتخضع مناجمنا عامة إلى برامج تدبير البيئة حسب معايير Iso14001، إذ يتم إجراء عدة تحاليل للهواء، وآخر عملية مراقبة لجودة الهواء، تمت في صيف 2012 بمركز جماعة إميضر، من طرف المختبر الوطني للدراسات ومراقبة التلوث التابع لوزارة الطاقة والمعادن والبيئة، وتثبت أن التركيبة تخلو من كل الملوثات وفقا لمعايير جودة الهواء الجاري بها العمل بالمغرب.. وفي ما يخص روايات السكان المتعلقة بارتفاع حالات أمراض الحساسية والجلد، فليس هناك أي مؤشر أو دليل قاطع على تسبب الأنشطة المنجمية للأمراض المذكورة».
وكما هو الشأن بالنسبة للأمراض المتفشية في هذه المناطق، فالأمر ينطبق على كيفية إثبات الصلة بين هذه النفايات وبين تضرر الزراعات والأشجار المثمرة، والاختلالات البيئية المسجلة سواء في الغطاء النباتي أو اندثار بعض أنواع الطيور والوحيش، فضلا عن حالات عديدة لنفوق الماشية، وهي اتهامات تنفيها المجموعة أيضا ودليلها «أن الدراسات المعمقة حول الغابات والوحيش بالمناطق المحيطة بمنجمي بوعازر و إميضر، أتت بنتائج علمية منافية لروايات السكان. فقد أثبتت هذه الدراسات وجود اضطرابات في نباتات المنطقة، أساسها توالي مواسم الجفاف، وطبيعة التربة في المنطقة، بالإضافة إلى تفشي عدد من الأمراض النباتية المستعصية بين أشجار المنطقة كالبيوض، وهي أمراض لا علاقة لها بأنشطة المنجم». الإدارة على لسان الحجام تقول أيضا إن «هناك دراسة أخرى اعتمدت على تحليل صور الأقمار الاصطناعية لمحيط منجم إميضر، وتثبت التغيرات التي تبرزها هذه الصور أن مساحة الأراضي الخضراء تضاعفت منذ بدء استغلال المنجم (أواخر الستينيات) إلى يومنا هذا، وذلك عكس ادعاءات البعض بتقلص هذه المساحات».
ولأن القضية تتنازعها روايتان متناقضتان، فقد كان لزاما علينا طرق باب أكثر من جهة في محاولة لكشف كثير من مساحات الغموض التي تكتنفها. ووجهتنا الطبيعية كانت هي القطاعات الوزارية التي يدخل قطاع المناجم ضمن اختصاصاتها، خاصة وزارة الطاقة والمعادن ووزارة البيئة، ثم تلك التي يعهد إليها بتدبير قطاع الصحة والقطاع الفلاحي.. ولهذا وجهنا استفسارات عديدة تحاول كلها البحث عن جواب للسؤال الأساسي: «هل هناك دراسات أو تقارير علمية تثبت أو تنفي وجود صلة بين النشاط المنجمي للوحدتين، وبين الأمراض والضرر البيئي الذي يتحدث عنه سكان الدواوير المعنية»؟
انطلق بحثنا من مسؤولي الصحة بأقليمي ورزازات وتنغير.. يقول مندوب الصحة بورزازات في جوابه: «لحد الآن لم تسجل أي حالة وبائية في الدواوير المحيطة بمنجم بوعازر، والأمر يتعلق بحالات مرضية متفرقة، واعتمادا على بعض الخرجات التي يقوم بها أطر الوزارة فليس هناك ما يستدعي تدخلا استثنائيا». وعلى عكس مندوب الصحة بورزازات فضل مندوب إقليم تنغير تجاهل اتصالاتنا المتوالية، بمجرد علمه بموضوع التحقيق، لهذا اضطررنا إلى مراجعة مديرية الأوبئة ومحاربة الأمراض بوزارة الصحة، إذ أكد مسؤول بقسم صحة العمال والأمراض المهنية «أن البحث الذي باشرته وزارة الصحة حول الموضوع، أثبت عدم تسجيل حالات وبائية معينة بسبب الاستغلال المنجمي بهذه المناطق، ولا يمكن أن يتم استنتاج وجود علاقة مباشرة بين الأمراض التي تصيب السكان والنشاط المنجمي فقط من خلال ما يتم تسجيله أثناء القوافل الطبية التي عادة ما تفضي إلى تسجيل حالات مرضية معينة في ظرف زمني معين محدود (آخر حملة طبية نظمتها منظمة «تاماينوت» زارت إيميضر همت 656 فردا وشكلت الفحوصات الخاصة بأمراض العيون ما نسبته 26,5 في المائة في حين خضعت نسبة 19,72 في لفحوص مختصين في الأمراض الجلدية، متبوعين ب 12,7 في المائة من المصابين باختلالات في الجهاز العصبي)..» ليختم المسؤول بالوزارة بقوله «هذا لا يعني عدم القيام بالبحث الميداني للتأكد من وجود هذه العلاقة المحتملة».
وعلى المنوال ذاته جاءت ردود مديرية الفلاحة بإقليم ورزازات في ما يتعلق بإمكانية أن تكون مخلفات المنجم سببا مباشرا في تضرر الزراعات والمحاصيل، يقول مديرها: «بالنظر إلى أن الأمر يتطلب وجود دراسات وبحوث مدققة، وفي غيابها، لا يمكن أن نجزم بالأسباب التي تؤدي إلى الإضرار بالمحاصيل الزراعية لهذه الدواوير المحيطة بالمنجمين.. الأمر معقد، أيضا لأن هناك عوامل أخرى تتدخل في المسألة منها عوامل المناخ والجفاف وطرق الزراعة، وما إذا كان الفلاحون يستعملون المبيدات الزراعية والأسمدة، ولهذا سيكون من الصعب الجزم بوجود تأثير من عدمه».
الفكرة ذاتها يدعمها مديرا المركز الجهوي للبحث الزراعي بأكادير والراشيدية، إذ ينفيان وجود أي دراسة في الموضوع سواء في بوعازر أو إيمضر، بمبرر أن هذه المراكز الجهوية، متخصصة في إجراء بحوث ودراسات لتحسين الإنتاجية، ومن مهامها أيضا تنظيم ورشات استشارية وتشاركية مع المزارعين لمعرفة أولوياتهم، فضلا عن أن مخطط المغرب الأخضر لا يدرج هذه القضايا ضمن برامجه.
لنطلع الآن على أجوبة وزارة الطاقة والمعادن، وهي الجهة المسؤولة عن مراقبة القطاع ومدى التزام الشركات المستغلة بالضوابط القانونية، تقول الوزارة: «إنها لم تطلع على المعطيات التي استقتها «المساء» من السكان ولم تتوصل بها، فضلا عن أن شركة مناجم المالكة للمنجمين حصلت على شهادة ISO 14001 المتعلقة بنظام التدبير البيئي بالمواقع المنجمية، كما شهدت هاتان الوحدتان عدة افتحاصات في مجال الصحة والسلامة من طرف خبراء دوليين، وحصلت على المطابقة لمعيار OHSAS 18001 وتوج منجم بوعازر بصفة المسؤولية الاجتماعية للمقاولة من طرف الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب».
الوزارة تضيف أيضا أن «الشركتين المستغلتين لمنجم إيميضر ومنجم بوعازر تتقيدان بكل النصوص القانونية المتعلقة بالبيئة والسلامة، وتسهران على اتخاذ جميع التدابير اللازمة في التحكم في مختلف النفايات الغازية والسائلة والصلبة، وكذا التحكم في مختلف المواد الكيماوية المستعملة لمعالجة وتثمين وتحويل المواد المعدنية المستخرجة، وذلك على مستوى نقلها وتخزينها واستعمالها. كما قامتا بعدة دراسات بيئية وتحاليل مخبرية للماء والهواء، وذلك عن طريق مكاتب ومختبرات متخصصة».
وجهتنا الأخيرة كانت الوزارة المنتدبة المكلفة بقطاع البيئة التي تتولى مهام تتبع أي اختلالات تهدد البيئة بشكل عام، وأيضا الحرص على تطبيق القوانين ذات الصلة، خاصة قانون 95-10 المتعلق بالماء، والقانون 03-11 المتعلق باستصلاح وحماية البيئة، والقانون 03-12 المتعلق بدراسات التأثير على البيئة ثم القانون 03-13 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء، ثم أخيرا القانون 00-28 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها، وكم كانت مفاجأتنا كبيرة ونحن نستمع إلى جواب أحد المسؤولين يقول: «للأسف لا توجد لدينا أية دراسة تتعلق بموضوع تحقيقكم، والدراسة التي قام بها قطاع البيئة سنة 2009 تهم تقييم التعرض للتلوث الناتج عن استعمال الزئبق والرصاص والكادميوم، في ثلاثة مواقع نموذجية لم تشمل منجمي بوعازر وإيميضر».. المسؤول ذاته يضيف- في رسالة استدراكية توصلنا بها لاحقا- «قام قطاع البيئة أيضا بدراسة تحليلية لتقييم مختلف أشكال التلوث المنجمي بثلاث وحدات نموذجية تقوم باستخلاص الزنك والنحاس وسبك الرصاص، إذ تعد هذه الوحدات من أكثر الأنشطة تلويثا» - وهي أيضا دراسة لا تشمل المنجمين المعنيين بهذا التحقيق- ليختم «فيما يخص منجم إيميضر، فقد عملت الوحدة المنجمية على «الحد من تناثر الغبار في الهواء باعتماد تقنيات نظيفة، ومعالجة المياه المستعملة في عمليات استخلاص وتثمين المعادن، واعتماد مخطط عمل لمراقبة مستمرة لجودة الماء والهواء داخل الوحدة وجوارها، ثم المراقبة الطبية الدائمة للعاملين بالوحدات المشتغلة وللسكان المجاورين..».
تحليل الأجوبة التي توصلت بها «المساء» من مسؤولي القطاعات الوزارية الأربعة يثير ملاحظة تشابه الأفكار وترتيبها، وكأنها صادرة عن جهة واحدة، كما أنها شبيهة بالمعطيات العامة التي تتضمنها المطويات والكتيبات التي توزع في المنتديات واللقاءات الرسمية.. وعلى العموم فهذه المعطيات تعطينا فكرة واضحة عن غياب دراسات علمية ومعطيات دقيقة عن وضعية العديد من المناجم المنتشرة عبر ربوع المملكة، وما إذا كانت الشركات المستغلة تتقيد بالضوابط والنصوص المنظمة للقطاع، ومدى فعالية وسائل المراقبة والوقاية من المخاطر التي تهدد الصحة العامة ومختلف أشكال الحياة البرية والبيئة بشكل عام، ويزداد الأمر تعقيدا في غياب أي وسيلة للتحقق من فعالية الإجراءات التي تؤكد مجموعة مناجم أنها تتخذها في الحد من الأخطار المحتملة، خاصة مع الكثير من الصعوبات التي قد تواجه أي جهة محايدة ترغب في إجراء بحوث تؤكد أو تنفي الروايات المتداولة.
خضنا التجربة..
أمام الغموض الكبير الذي يحيط خلاصات النتائج المخبرية والدراسات التي يتم إنجازها في محيط منجمي إيميضر وبوعازر، وهي النتائج التي يؤكد السكان أنهم لا يتوصلون أبدا بتفاصيلها، بسبب حرص المجموعة على إحاطتها بسرية تامة، ورفض أكثر من جهة مسؤولة كشف حقيقة الوضعية البيئية في هذه المناطق، فضلا عن الصعوبات التي تعترض المتضررين في حال سعوا إلى إجراء خبرة على نفقتهم الخاصة بسبب كلفتها الباهظة، وغياب تنسيق بين الجمعيات العاملة في المنطقة، قررنا في «المساء» خوض التجربة..
الفكرة كانت بسيطة، وهي أن نأخذ عينات من مياه الخطارات والآبار التي يستعملها سكان الدواوير للشرب وسقي زراعاتهم، وأيضا عينات من تربة بعض الضيعات التي يقول أصحابها إن زراعاتهم تضررت بفعل مخلفات المنجم، فضلا عن عينات من هذه المخلفات ثم أرسلناها - بعدما اتخذنا كافة الاحتياطات الضرورية المعتمدة لدى ذوي الاختصاص- إلى المركز الوطني للبحث العلمي والتقني بالرباط، وشملت التجارب التي قمنا بها للعينات المختارة تحليل بعض المعادن الثقيلة السامة التي تؤكد جميع الدراسات خطورتها على الصحة العامة وعلى نمو الزراعات في حال تجاوزت المقاييس التي تحددها منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة، واقتصرنا على 6 أنواع من أشد هذه المعادن سمية، من أصل أزيد من 30 نوعا معروفة، وهي الزرنيخ (AS) والكادميوم (Cd) والكوبالت (Co)، والكروم (Cr)، والرصاص (Pb) ثم الزئبق (Hg).
وقد شملت عملية أخذ العينات 3 مواقع في إيمضير بالنسبة للعينات السائلة، وهي خطارة «تاغيا»، وماء الصهريج الذي أنشأته جمعية «تيفاوت» ويزود دواوير أيت محمد وأيت ابراهيم وأيت علي بمياه الشرب، ثم بئر «إيراون» في ضيعة محمد بوطاهر أحد فلاحي المنطقة، وهي كلها مواقع توجد في محيط 10 كيلومترات عن المنجم.
أما فيما يخص عينات محيط منجم بوعازر، فقد شملت 3 عينات سائلة أيضا، الأولى أخذت من بئر دوار بوعازر، ويبعد بقرابة 500 عن المنجم، وأخذت العينة الثانية من وادي أوحميدي، بالقرب من السد الذي يمنع مخلفات المنجم من التقدم في اتجاه سافلة الوادي على سفح جبل «ألوس»، وتم بناؤه في السنوات الأولى للاستغلال، وهو موقع يبعد بقرابة 3 كيلومترات عن المنجم على مجرى الوادي، ثم أخيرا عينة من بئر زاوية سيدي بلال ويبعد بقرابة 4 كيلومترا (عبر مجرى الوادي أيضا).
وقد تم في البداية إخضاع العينات السائلة لقياس معدل «الأس الهيدروجيني» وهو القياس الذي يحدد ما إذا كان السائل حمضا أو قاعدة أو متعادلا، وقد كشفت الاختبارات عن معدلات تتراوح بين 6.70 و7.88 وهي على العموم نسب محايدة (المقياس 7 يعني مياه معتدلة).
النتائج التي كشفت عنها تحاليل العينات السائلة (أنظر الجدول 1) كشفت وجود تركيزات عالية من بعض المعادن السامة، تفوق بكثير المعايير التي تحددها منظمة الصحة العالمية، إذ سجلت عينة مياه بئر بوعازر نتيجة 5.19 جزء من المليون من عنصر الكروم، وهي نسبة تفوق بأزيد من 100 مرة الحد الأقصى الذي تحدده منظمة الصحة العالمية أي 0.05 جزء من المليون. كما تم تسجيل نسب متفاوتة في ما يخص مستويات الزرنيخ، تساوي أو تفوق المعيار المعتمد منظمة الصحة العالمية وهو 0.1 جزء من المليون، وهكذا سجلت عينة مياه وادي أوحميدي نتيجة 11 جزء من المليون، بمعنى 110 أضعاف النسبة العالمية، كما سجلت عينة بئر زاوية سيدي بلال نسبة 5.04 جزء من المليون، ما يعني 50 مرة ضعف المعيار المعتمد من قبل منظمة الصحة العالمية.
وعلى صعيد عينات التربة فقد تم أخذ عينة من المنطقة المسماة «تيمزكيدا» بدوار «أنونيزم» ويبعد بقرابة 7 كيلومترات عن منجم إيميضر، في حين شملت التحاليل الخاصة بمحيط منجم بوعازر عينتين من التربة الأولى من إحدى الضيعات على ضفة وادي أوحميدي تبعد عن المنجم بحوالي 3 كيلومترات، في حين أخذت الثانية من ضيعة بزاوية سيدي بلال أي بمسافة 4 كيلومترات عن المنجم.
وفي استقراء لهذه النتائج (أنظر الجدول 2) نجد نسبا مرتفعة من المعادن السامة تفوق بكثير المعايير المعتمدة في ما يخص التربة، ففي ما يخص معدن الرصاص تم تسجيل نسبة 112.48 جزء من المليون في ضيعة سيدي بلال، و102.72 جزء من المليون في ضيعة وادي أوحميدي، في حين سجلت عينة تيمزكيدا أنونيزم- إيميضر نسبة 147.89 جزء من المليون، في حين أن المعيار المعتمد حسب المنظمة الدولية هو فقط 100 جزء من المليون. وتم تسجيل نسب مرتفعة من الكوبالت تفوق بكثير الحد التي تضعه المنظمة وهو 1-40 جزء من المليون، ويمكن أن نلاحظ وجود تركيزات تصل إلى 18681.11 جزء من المليون في عينة ضيعة سيدي بلال، و4947.41 في عينة ضيعة وادي أوحميدي. كما تم تسجيل معدن الكادميوم نسبا عالية وهي 6.82 جزء من المليون لضيعة سيدي بلال، و7.94 جزء من المليون لعينة ضيعة وادي أوحميدي، ثم نسبة 8.87 جزء من المليون للعينة المأخوذة من تيمزكيدا أنونيزم- إيميضر. ويمكن استنتاج زيادة مهمة في النسب مقارنة مع المعيار المقبول وهو 2 جزء من المليون.
وختاما سجل عنصر الزرنيخ نسبا متفاوتة في العينات الثلاث كانت أعلاها نسبة 191.22 جزء من المليون بالنسبة إلى ضيعة سيدي بلال، وسجلت ضيعة وادي أوحميدي نسبة 30.42 جزء من المليون، ثم 35.49 جزء من المليون لعينة تيمزكيدا أنونيزم- إيميضر. في حين أن المعيار المعتمد حسب المنظمة الدولية هو 1 جزء من المليون، (يصبح خطيرا حين يصل إلى 6 جزء من المليون).
يقول زهير البارودي، أستاذ بكلية العلوم ابن مسيك، وسبق له إجراء بحوث في منجم إيميضر: «من الضروري الاحتياط حين تناول هذه المعطيات التي كشفت عنها التحاليل، لأن في حالة منجم إيمضر مثلا هناك العديد من أنواع المعادن الثقيلة والعناصر التي توجد بشكل طبيعي في هذه المنطقة، لكنها تبقى غير ذات خطورة طالما بقيت على حالتها الأصلية، لكن حين يتم استخراج هذه العناصر وإخضاعها لسلسلة المعالجة، وإضافة العديد من المواد الكيماوية التي تساعد على استخلاص المعادن النفيسة، فهنا يكمن الخطر، لأنه من الصعب ضبط مسار المخلفات الناتجة، سواء الصلبة أو السائلة أو الغبار، والتي قد تجد طريقها إلى محيط المنجم وتسبب بالتالي تلويثا خطيرا للبيئة والصحة العامة».
وعلى العموم فأهم ملاحظة يمكن استنتاجها هي وجود تركيز عال لبعض المعادن السامة في العينات السائلة، تفوق المعدلات التي تحددها المنظمات العالمية لمياه الشرب والسقي، وهذا من شأنه أن يؤدي- حسب الدراسات والبحوث المتخصصة- إلى الإصابة بعدد من الأمراض، وهي الأعراض التي تختلف باختلاف نوعية المعادن التي يتم التعرض لها، واختلاف تركيزها ومدة التعرض لها (أنظر الإطار المرفق). على أن الأمر يزداد خطورة في حال تعرض التربة أيضا لمستويات عالية من تركيز هذه المعادن، ومعروف أن التربة تمتص وتخزن كميات أعلى من هذه السموم، سواء تلك التي تأتي عن طريق السقي أو عن طريق الغبار الذي يتساقط عليها، ما يقود في المحصلة إلى تلويث المحاصيل الزراعية والأشجار المثمرة، مع تسجيل اختلافات في درجة تأثر كل صنف من هذه الزراعات مع هذه المعادن، تبعا لمدة التعرض لها والكميات التي تمتصها..
سر مهني وأخلاق..
مرة أخرى نعود إلى روايات السكان الذين يؤكدون أنه على مدار العقود الماضية شكل محيط منجمي إيميضر وبوعازر وجهة للعديد من الأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين أو الخبراء، لأخذ عينات من المياه والتربة والغطاء النباتي، من أجل تحليلها في إطار بحوث جامعية، أو بطلب من إدارة الشركتين المسيرتين. يقول عمر موجان، أحد نشطاء حركة «على درب 96» بإيميضر: «إن نتائج الخبرات التي يتم إنجازها تبقى سرية ولا نطلع عليها، وفي كثير من الحالات تفتقد لمقومات البحث العلمي الرصين والمحايد، كما حدث قبل أشهر حين زارنا ممثلون للمنظمة الدولية «تروبيكال فوريست تروست TFT»، واقترحوا علينا إنجاز دراسة شاملة بتنسيق مع إدارة المنجم، تهم المجالات السوسيو اقتصادية والبيئية تحت إشراف خبرائها، وعقدنا معها 3 اجتماعات تحضيرية، على أساس أن المنظمة ستجري تحاليل على عينات من المياه والتربة والهواء لتحديد نسبة التلوث التي يسببها المنجم، كما عينت أستاذا جامعيا من جامعة القاضي عياض بمراكش للإشراف على وضع استمارة توزع على السكان.. لكن لاحقا فوجئنا بتغيير مضمون الاستمارة، والاستغناء عن الأستاذ الجامعي، وإلغاء موضوع التحاليل المخبرية، ولهذا انسحبنا من المشروع بسبب ضبابيته وعدم احترام المشرفين عليه لالتزاماتهم».
في بوعازر أيضا توالت زيارات الباحثين والجامعيين إلى محيط المنجم، ويتذكر حسن أيت الحاج، رئيس جمعية المرابطين، كيف اتصلت به إدارة شركة «تينفوت تيغانيمين» من أجل تنسيق زيارة لأستاذ جامعي كلفته بإجراء تحاليل مخبرية على عينة من مياه الآبار.. «استقبلته بطلب من الإدارة ورافقته إلى « تغبالوت أوفلا» بزاوية سيدي بلال، وحين أجرى تحليلا للمياه بواسطة جهاز قياس قال لي إنها تحتوي نسبة عالية من الزرنيخ (Arsenic) تصل إلى 2.0 مليغرام في اللتر، مضيفا أنها قد تصل إلى ما بين 4 و5 مليغرام في اللتر (جزء من المليون)، لو تم تحريك المياه الراكدة في البئر.. وحين طلبت منه أن يمدني بوثيقة تفيد بهذه المعطيات قال لي: «لا أريد أن أفقد وظيفتي وأواجه المتاعب لأني مرتبط مع الشركة بعقد عمل».
بدورنا طرقنا أبواب عدد من الأساتذة الجامعيين ممن سبق لهم إجراء اختبارات أو الإشراف على بحوث جامعية بهاتين المنطقتين، فتلقينا الجواب التالي من (ل .ب) أستاذ بكلية ابن زهر بأكادير يقول: «لا يمكنني الخوض في هذا الملف إعلاميا لأنني ملتزم بالسر المهني، وقد اشتغلت في البحث ضمن فريق ولهذا عليكم أن تبحثوا عن الإجابات لدى وزارة البيئة التي توصلت بالتقرير النهائي».. أستاذ جامعي آخر هو (ب.ح)، أشرف على بحث لفائدة شركة «تينفوت تيغانمين» المستغلة لمنجم بوعازر، كان أكثر وضوحا حين قال: «أنا مرتبط بعقد عمل مع هذه الشركة، وأخلاقيا لا يمكنني كشف الخلاصات التي توصلنا إليها، والشركة هي الوحيدة المخولة بالرد على استفساراتكم»..
الأخلاق تمنع هؤلاء الأستاذة الجامعيين من كشف نتائج الخبرات التي توصلوا إليها، كما تمنع حساسية الملف آخرين من مجرد إبداء رأي علمي في النتائج التي توصلنا إليها بغض النظر عن أي اعتبارات، لكنها بالمقابل لا تشفع لآلاف السكان المتضررين من معرفة حقيقة الوضع في بلداتهم المهددة.. وإليكم آخر مشهد على سبيل الختم، يقول أيت الحاج: «في سنة 2011، حل أساتذة من كلية العلوم بابن زهر بأكادير ترافقهم مسؤولة من وزارة البيئة، وأجروا اختبارات على جودة المياه ببعض الآبار، كما أخذوا عينات من التربة وبعض النباتات، لكنهم رفضوا مدنا بأي نتيجة، والطريف أنني حين قدمت إليهم بعضا من التمور التي تنتجها ضيعتي تبادلوا النظرات في ما بينهم ورفضوا أن يتناولوا ولو حبة واحدة منها، فماذا يمكن أن نفهم من تصرف مثل هذا وأنا الذي أردت فقط أن أكرم وفادتهم؟ هناك تفسير وحيد هو أننا نعيش في بيئة خطرة وكثيرة هي الجهات التي ترفض أن تعترف بالحقيقة».
بعض أعراض التسمم بالمعادن الثقيلة
الزرنيخ
سرطانات الجلد والمثانة وسرطانات الجهاز التنفسي - تغير في صبغة وسمك الجلد وظهور بقع صلبة على راحتي اليدين وأخمص القدمين - تساقط الشعر - توقف الأظافر عن النمو.
الكوبالت
الربو والتهاب الجهاز التنفسي - الغثيان والقيء - يؤثر على القلب – خلل في الغدة الدرقية - حساسية جلدية (إكزيما) - تساقط الشعر- نقص الخصوبة عند الرجل.
الزئبق
يؤثر على الجلد في حالة الجروح- أمراض الجهاز التنفسي - أمراض الجهاز الهضمي- آلام في الأسنان - اختلالات عصبية – قصور كلوي - خلل وتأخر عقلي- عيوب لدى المواليد- ضعف الرؤية والسمع والكلام.
الرصاص
أمراض الكبد والكلي- التهاب المفاصل - اختلالات عصبية- ارتفاع ضغط الدم والغثيان - زيادة ضربات القلب - تشنجات عصبية وتأخر في النمو- عياء وفقدان التركيز- الإجهاض- تغيير لون اللثة – سرطانات الجهاز الهضمي – التهابات الجهاز التنفسي- نقص الخصوبة.
الكادميوم
مياه في الرئتين- غثيان وقيء- قصور الكلي- انتفاخ في الرئتين (هواء)- هشاشة العظام- آلام في المفاصل- خلل في الغدد (البويضات لدى المرأة)- فقر الدم – اصفرار الأسنان- سيلان الأنف وخلل في حاسة الشم - سرطان المثانة.
الكروم
قصور كلوي- حساسية جلدية (إكزيما) – التهابات وتعفنات جلدية – تساقط الأظافر- التهاب في الأمعاء – سيلان مزمن في الأنف- سرطان الجهاز التنفسي- نزيف في القناة الهضمية - اضطراب في وظائف الكبد.
نحن والهولدينغ الملكي
طيلة الأيام الخمسة التي قضتها «المساء» متنقلة بين دواوير إيميضر وبوعازر نستمع إلى رواياتهم عن الضرر الكبير الذي تسببه مخلفات المنجمين، ظل سؤال أساسي يتردد على لسان الكثيرين ممن جالسناهم، وهو: «هل فقط لأن الأمر يتعلق بمجموعة «مناجم» التابعة للهولدينغ الملكي سيكون مقدرا علينا أن نلزم الصمت ونقبل العيش في هذه الظروف التي تهدد حياتنا في اليوم أكثر من مرة؟
«لماذا سنركن إلى الصمت ونحن لا نطالب إلا بحقوقنا المشروعة»؟ يتساءل الشيخ إبراهيم أومني.. «لم يسبق للشركة أن قبلت بفتح حوار جدي معنا، وغالبا ما نواجه بالتدخل العنيف من طرف قوات الدرك والتدخل السريع والقوات المساعدة، ولهذا فالشركة تستقوي بالسلطات المحلية لتقوم بأشغال الحفر دون سند قانوني والاستمرار في تلويث منطقتنا دون رادع، ولولا أننا تمكنا من إيصال صوتنا إلى مختلف وسائل الإعلام وإلى المنظمات الحقوقية سواء بالمغرب أو الخارج لكان مصيرنا أسوء، حتى أنني في إحدى اللقاءات واجهت العامل بقولي: «هل أنت عامل للإقليم أم محام تدافع عن مصلحة الشركة؟» ولاحقا تم الانتقام مني بأن تم اعتقال ابني بتهمة السرقة من المنجم، وكان نصيبه 3 سنوات من السجن النافذ، رغم أن التهمة ملفقة».
الأمور نفسها تدار بهذا المنطق في بوعازر أيضا، حسب تأكيدات بعض السكان هنا، والشركة المستغلة للمنجم ترفض كل أشكال الحوار، ما يعني تملصها من تحمل مسؤولية ما تسببه من دمار لمحيطها، ورفض المساهمة في تنمية هذه الدواوير وفك عزلتها القاتلة. يقول المدني موكي: « هناك حصار كبير على سكان الدوار وكل طلباتنا التي قدمنا إلى الشركة لتعويضنا عن الأضرار قوبلت بالرفض، وحتى المشاريع التي تقول إنها مولتها عبر شراكات مع الجمعيات تعرف انتقائية وإقصاء ممنهجا، ما يزيد الخلافات بين سكان هذه الدواوير، ولهذا نحن لا نطالب إلا بضمان حقوقنا من خلال تطبيق القانون وعدم هضم حقوقنا، حينها سيكون للشركة الحق في استغلال خيرات المنطقة، والتي تقدر بثروات خيالية نعجز نحن البسطاء عن معرفة حقيقتها».
بدوره يقول أحمد أيت بلال رئيس فدرالية جمعيات أحميدي التي تنشط في محيط منجم بوعازر «في سنة 1998 اضطرت وزارة البيئة إلى إيفاد لجنة مختصة لتقييم المحيط البيئي للمنجم، بعدما توالت شكاياتنا إلى أكثر من جهة، وهي اللجنة التي اقترحت توصيات يتعين على الشركة تنفيذها لتفادي جميع أشكال التلوث، وتم تسطير مخطط لتنفيذ هذه التوصيات، لكن الغريب أننا لم نطلع أبدا على الخلاصات مثلما لم يتم إشراكنا كمجتمع مدني في بلورة التوصيات رغم أننا شريك أساسي في هذا الملف، والأنكى من ذلك كله أن التوصيات التي التزمت بها الشركة ظلت إلى اليوم حبرا على ورق ولم يتم تنفيذها، خاصة ما يتعلق بمسألة تعويض السكان المتضررين، إذ توقفت العملية بشكل مفاجئ ودون تقديم أي مبررات». أيت بلال يضيف: «نحن نعتقد أن الشركة المستغلة للمنجم تلعب على عامل الوقت لتتنصل من التزاماتها ومن مسؤوليتها تجاه ما تسببه من ضرر بيئي خطير، وربما سيأتي يوم تنتهي فيه احتياطات المنجم لتهجره تاركة المنطقة على حالها دون تنمية ودون إيجاد حلول للمشاكل التي كانت سببا فيها، سواء للصحة العامة، أو للزراعات التي تشكل مورد العيش الأساسي للسكان».
المعادن السامة.. حقائق علمية ثابتة
يقول الأستاذ نجيب صابر، رئيس شعبة الجيولوجيا بكلية العلوم ابن مسيك في الدار البيضاء جوابا على إمكانية الإصابة بأمراض معينة أو تلف بعض الزراعات جراء التعرض لبعض أنواع هذه المعادن: «بشكل عام من المعروف أن عددا من أنواع المعادن الثقيلة تسبب الإصابة بأمراض مختلفة قد تصيب الجهاز التنفسي أو الجلد بالتهابات وحكة شديدة وأخطرها الزرنيخ الذي يعتبر أشد هذه المعادن سمية، فضلا عن أن التعرض لهذه المعادن السامة لفترات طويلة قد يؤدي إلى الإصابة ببعض أنواع السرطانات سواء في الجهاز التنفسي أو الجهاز الهضمي، وهي الإصابات التي تحدث جراء شرب مياه ملوثة بهذه المعادن، أو استنشاق غبار يضم هذه المركبات، لكن الخطورة تزداد حينما يتناول الإنسان أغذية تحتوي على تركيزات أعلى، ومعروف أن التربة تمتص هذه المعادن، ولهذا نجد نسبها مرتفعة مقارنة مع العينات السائلة التي تخف درجات التركيز بها كلما ابتعدنا عن مصدر التلويث، فضلا عن أن تعرض المزروعات لهذه المعادن قد يسبب اختلالات في نموها أو ضعفا في المحاصيل يختلف حسب درجة تفاعل كل نوع مع هذه المعادن ومدة التعرض لها».
من جهتها تؤكد الدكتورة كوثر زهير، أخصائية الأمراض الجلدية، هذه الحقيقة العلمية فتقول: إنه «من الثابت طبيا وجود صلة بين التعرض الطويل لهذه المعادن وبين ظهور حالات مرضية تصيب أعضاء كثيرة من الجسم، وقد تؤدي إلى الإصابة ببعض أنواع السرطانات، وهي الأعراض التي تختلف باختلاف كل عنصر ومدة التعرض له، وعموما فالتعرض للزرنيخ أو الرصاص أو الكروم أو الكادميوم أو الزئبق، فضلا عن أنواع أخرى من المعادن السامة، يسبب أمراضا واختلالات (أنظر الإطار المرفق) تختلف من تسممات حادة أو مزمنة، ومن الطبيعي أن تخف حدتها أو تختفي بعض أعراضها حين يغير المصابون مكان عيشهم أو يقل تعرضهم لهذه العناصر (الماء أو الهواء) أو حين يستعملون بعض المضادات التي توصف من طرف المختصين للحد من تأثير هذه المعادن».
التحاليل التي أجرتها «المساء» شملت عينتين من مخلفات المنجمين (الجدول 3)، الأولى عينة من المخلفات الصلبة لمنجم بوعازر (الرامبلي يعاد استعماله في سلسلة استخراج بعض المعادن)، وتم أخذها من دوار تاغوني الذي يبعد بأقل من كيلومتر واحد عن المنجم، في حين أخذت العينة الثانية وهي مخلفات صلبة من نوع (لاديك) من محيط منجم إيميضر. وهي العينات التي قد تساعد في فهم طبيعة الخطر الذي يهدد الصحة العامة والمجال البيئي في هاتين المنطقتين. وبتحليل نتائج العينتين نستخلص مستويات مرتفعة من المعادن السامة التي تحتويها، إذ تم تسجيل نسبة 111.16 جزء من المليون بالنسبة للرصاص في عينة المخلفات الصلبة لمنجم بوعازر (الرامبلي)، في حين سجلت عينة مخلفات منجم إيميضر (لاديك) نسبة 978.28 جزء من المليون، أي 9 أضعاف المعيار المقبول عالميا. الكوبالت أيضا سجل نسبا مرتفعة جدا، إذ تم تسجيل نسبة 24902.69 جزء من المليون بالنسبة لعينة رامبلي تاغوني في حين أن المعدل المقبول لا يجب أن يتعدى نسبة تتراوح بين 1 و40 جزء من المليون. أما الكادميوم فقد سجل نسبة 8.05 جزء من المليون للعينة المستخرجة من رامبلي تاغوني ببوعازر، و10.50 جزء من المليون لعينة مخلفات منجم إيميضر، وهي نسب مرتفعة مقارنة مع الحدود المقبولة أي ما بين جزأين من المليون. وبالنسبة للزرنيخ، أشد المعادن الثقيلة سمية، فقد تم تسجيل نسبة 2459.69 جزء من المليون في عينة تاغوني بوعازر، و681.76 جزء من المليون بالنسبة لعينة المخلفات الصلبة لمنجم إيميضر. وهي نسب تفوق أقصى نسبة مسموح بها أي (6 أجزاء من المليون) بأزيد من 400 ضعف بالنسبة إلى عينة تاغوني، و113 ضعفا بالنسبة إلى عينة إيمضير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.