سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
العروي يدحض بالبرهان العلمي أطروحة المدافعين عن التعليم «بالدارجة» في ليلة استعاد التلفزيون دوره الحقيقي في إشراك المواطنين في النقاش حول القضايا التي تهم الشارع العام
أثارت ندوة «طريق النجاح» التي نظمتها «مؤسسة زاكورة» التابعة لرجل الإشهار المثير للجدل، نور الدين عيوش، الكثير من النقاش والجدل حول توصية «التدريس بالدارجة» الصادرة عن هذه الندوة التي حضرها مستشاران للملك وغاب عنها وزير التربية الوطنية، حينئذ، محمد الوفا، وانتقدها بشدة رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران. الجدل الذي أثارته ندوة «زاكورة» ارتفعت قيمته عندما انخرط فيه مفكر من حجم عبد الله العروي، الذي كسّر قاعدة خروجه الإعلامي، المضبوط بدقة، وانبرى في مناظرة سجالية بينه وبين نور الدين عيوش لاتهام أنصار الدارجة بالسعي لتقويض الوحدة الوطنية. في هذه الورقة نحاول تسليط المزيد من الضوء على أبرز النقط التي أثيرت خلال «مناظرة الأربعاء» في برنامج «مباشرة معكم» على القناة الثانية. عرفت حلقة برنامج «مباشرة» معكم» الذي خصصته القناة الثانية يوم الأربعاء المنصرم، لمناظرة بين المفكر عبد الله العروي، ورجل الإشهار نور الدين عيوش، في موضوع التعليم بالدارجة، نقاشا غير مسبوق في تاريخ المغرب، حول نقطة شائكة تتعلق بأزمة التعليم في المغرب وعلاقة ذلك بلغة التدريس. وإذا كان عيوش، الذي يصنف عادة كمقرب من الدوائر العليا في المغرب، قد دق ناقوس الخطر حول استمرار أزمة التعليم في المغرب، بالرغم من أن هذا القطاع يكلف ميزانية الدولة مبالغ كبيرة، آخرها مبلغ 55 مليار درهم خلال السنة الفارطة، مضافٌ إليها كلفة البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم، والتي بلغت 35 مليار درهم، فإن عبد الله العروي سيفاجئ متتبعي المناظرة، حين سيقلل من هول المشكلة بالقول إن «أزمة التعليم ليست خاصة بالمغرب»، وأن «الكلام عن ضعف مستوى التعليم هو كلام نسمعه في أمريكا وإنجلترا وفرنسا». مثل هذا الكلام لم يجد من يرد عليه، من داخل البلاطو، ويذكر العروي بأن مشاكل التعليم في المغرب استثنائية، ولا علاقة لها بمشاكل التعليم في البلدان التي ذكرها، ولا حتى بين البلدان المجاورة للمغرب في سلم التنمية.. إذ أن التعليم في المغرب مازال ورشا مفتوحا على تجارب ارتجالية للحكومات واللجان العلمية والتقنية المتعاقبة، والتي آخرها «لجنة» عيوش الملتئمة في ندوة «مؤسسة زاكورة» والتي حضرها مسؤولون سابقون عن ملف التعليم، لا يمكن بأي حال من الأحوال إعفاؤهم من مآلات التعليم ومشاكله المركبة والمتداخلة في المغرب. مناظرة الأربعاء سقطت، كما كان متوقعا، في لا تكافؤ لغة الحوار. فبالرغم من المجهود الظاهر الذي بذله المفكر لتبسيط خطابه، والإشهاري للارتقاء بلغته، ظلت أجوبة عيوش على الإشكاليات التي طرحها العروي، أجوبة تقنية، تتسم باجترار أرقام والإحالة على تقارير دولية، سرعان ما كان صاحب «مجمل تاريخ المغرب» يزعزعها بالتشكيك فيها، ليترك صاحب «وكالة شمس» مشدوها، حينا، ومتوسلا، حينا آخر، لغة إنشائية عاطفية مدغدغة. هذا ما حصل بالضبط عندما انبرى العروي لخلخلة تصورات «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» عن التعليم في المغرب، بالقول إن «كل المنظمات الدولية لها أفكار مسبقة عن وضعية التعليم في المغرب، وأن منظمة اليونيسكو تقارن المغرب بدول في إفريقيا السوداء». بأية صفة يتحدث المتناظران عن اللغة؟ إذا كان العروي قد أقفل بذكاء أي نقاش هامشي من شأنه أن يُثار حول الصفة التي تخول له الحديث عن شؤون اللغة والتعليم، حين قدم نفسه لمتتبعي البرنامج- المناظرة ك»مبرز في اللغة العربية»، فإن هذا الأمر سيلزم عيوش وقتا طويلا لتأكيد صلته بمجال التربية والتعليم: «أنا عندي تجربة 20 سنة في العمل في التربية، فقد أنشأت مؤسسة «زاكورة للقروض الصغرى»، وخلال هذه التجربة لاحظنا أن 70 في المائة من نساء ورجال بعض القرى أميين، لذلك فكرنا في تعليمهم حتى يتمكنوا من النجاح في مقاولاتهم». نفس الوقت والجهد سيلزم عيوش لتسويغ أسباب مقترحه المثير للجدل حول اعتماد الدارجة لغة للتدريس. ففي الوقت الذي اختصر العروي الأمر في كونه خطا أحمر، يعني تجاوزه تفكيك اللُّحمة المغربية، مذكّرا بعقد الحماية الذي كان حاسما وصارما في إلجام فرنسا بعدم الاقتراب من اللغة العربية، وجد عيوش نفسه يتحدث عن الصدفة التي قادته إلى «الإيمان» بالتدريس بالدارجة، اللغة الأم. هكذا طفق يحكي: «عندما انطلقنا في تعليم 80 ألف شخص عبر «مدرسة زاكورة»، ومن خلال تجربة أكثر من 450 مدرسة لاحظنا، بعد 300 ساعة من التدريس، أن الأطفال الذين يتحدثون الأمازيغية فقط، لا يستوعبون الدروس المقدمة لهم، هكذا فكرنا بتدريسهم باللغة الأم (الدارجة)»، مضيفا أن «التوصيات التي رفعناها إلى الجهات العليا (المتعلقة بتدريس الدارجة) صادرة عن أناس متخصصين في اللغات، من ضمنهم خبراء من اليونيسكو.. توصلوا إلى أهمية التدريس باللغة الأم في مرحلة ما قبل الابتدائي، كما خلصوا إلى أن الهدر المدرسي الذي تصل نسبته إلى 350 ألف تلميذ «يهربون من المدارس»، يرجع إلى كون هذه المدارس لا تعترف بشخصيتهم.. لقد أكدت اليونيسكو على أن اللغة الأم تساعد التلاميذ على النجاح في دراستهم». العربية «مهددة» أكثر من أي وقت! خروج العروي القوي، في مناسبتين متقاربتين، من مقبعه، كما سمى ذلك هو بنفسه، للتصدي لدعاة التدريس بالدارجة، أثار أكثر من تساؤل لدى متتبعي مسار صاحب «الإيديولوجية العربية المعاصرة». هل استشعر إن العروي، بحدس الفيلسوف المؤرخ، أن الدوائر العليا في المغرب تقف وراء مقترح عيوش لاعتماد الدارجة لغة للتدريس، وأن الأمر لم يعد مناوشات من مُجيمعات فرانكونية لا صدى لها داخل المجتمع ولا بين أصحاب القرار في المغرب، وأن الأمر يقف وراءه ويحركه قرار سياسي ذو ارتباطات مصالحية «لا وطنية»؟ لقد استدل الذين ربطوا بين هذا الأمر وبين نزول العروي، غير المسبوق، من برجه الإبستيمولوجي إلى ميدان المواجهة الإيديولوجية والديماغوجية بتوصيات ندوة «النجاح» المنظمة من طرف «مؤسسة زاكورة»، أيام 4 و5 أكتوبر الماضي، والتي عرفت مشاركة اثنين من مستشاري الملك، وإقصاء محمد الوفا، وزير التعليم حينها، من الحضور، ثم احتجاج عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة على الندوة، وبالأساس توصيتها المثيرة للجدل: تدريس الدارجة! وبما أن هذا الأمر لم يكن ليمر بصمت خلال مناظرة «مباشرة معكم»، فلم يفوت عيوش هذه الفرصة لكي ينفي ارتباط فكرة التدريس بالدارجة بالمحيط الملكي، حيث قال: «هذه مبادرتي وليست هي الأولى، فقد سبق لنا أن قمنا بمبادرات ولم تثر هذه الضجة التي أثيرت بسبب حضور المستشارين الملكيين: فؤاد عالي الهمة وعزيمان». وأضاف: «هناك احترام بيني وبين الملك مبني على الصداقة، ولم يسبق لي أن طلبت من الملك شيئا. لقد أنجزت مبادرة خطرت على فكري، مثلما سبق أن أنجزت مبادرة «زاكورة» التي لم تكن لها علاقة بالحسن الثاني». العروي و»البوليميك» العروي الذي أبان، خلال مناظرة الأربعاء، عن مقدرة مفاجئة في «البوليميك»، لم يلجأ إلى الرفض المطلق لمبادرة عيوش في التدريس بالدارجة في المراحل الأولية من التعليم. وبدلا من أن يرفع «لا» في وجه عيوش، استعمل العبارة الديبلوماسية في الرفض: «نعم، ولكن»، بحيث ثمَّن مبادرة عيوش في استهداف المناطق النائية والمهمشة، كما أنه لم يبد، في البداية، أي اعتراض على اعتماد الدارجة لغة لتوصيل المواد المدرَّسة، خلال السنوات الأولى من التعليم.. لكنه سيعود في نهاية تدخله إلى اعتبار توصية عيوش بأنها «مبادرة زائدة»، حين قال: «أنا لا أعترض على أي شخص له فكرة وتجربة وأراد أن يعرضها، فهذا يحسب لهذا الشخص، عيوش، خصوصا إذا كانت مبادرته قد استهدفت المناطق التي لا إمكانيات لها والمهجورة من طرف الدولة»، مضيفا: «لذلك فأنا أتفق مع أهداف عيوش مائة بالمائة، لكنني أتساءل: أليست مبادرة عيوش زائدة.. أليست هي ما يطبق في رياض الأطفال، على المتمدرسين من ثلاث إلى ست سنوات؟ هل هذه المُدرِّسة تتحدث مع الطفل بلغة غير الدارجة؟». ثم بسرعة قياسية سيعود العروي للبحث عن أرضية مشتركة بينه وبين عيوش: «إذا كانت المربية في روض الأطفال تتحدث إلى الطفل بلغة سيبويه، فأنا أقول: نعم يجب أن نصلح الأمر»، مضيفا، في سياق آخر: «ليس من المعقول في شيء أن نتحدث لطفل صغير عن «المفعول المطلق» أو «جمع المذكر السالم».. تلقين دروس كهاته يصعب استيعابها حتى ممن يبلغ 10 سنوات من العمر». ثم يستطرد العروي: «يجب، في بداية تعليم الكتابة للطفل، اعتماد التبسيط، وتجنب اللجوء إلى استعمال المثنى، وإلغاء الحركات الأخيرة، بحيث نقول جاء الرَّجلْ، بدلا من جاء الرَّجُلُ.. لقد كان مطلوبا من معهد التعريب أن يذهب في اتجاه تبسيط النحو والكتابة والإملاء». خبراء عيوش وخبرة العروي الفرق بين مرجعية عبد الله العروي، باعتباره رجل مفاهيم ومشاريع فكرية تعتمد على التبئير والعمق، ونور الدين عيوش، بصفته متخصصا في الإشهار الذي قوامه الاختصار والتبسيط من أجل الإدهاش، بدا واضحا عندما ذهب العروي إلى أن وضع مسألة تدريس الدارجة على مِحك التجربة العلمية، هو أمر «يجب أن يتناوله بالدراسة اثنا عشر تخصصا علميا منها: الفونولوجيا (علم النظم الصوتية) وعلم اللهجات (dialectologie) واللسانيات، وعلم الاجتماع...»، متسائلا: «أليس من حق الصُّم أن يذهبوا إلى المدرسة؟ هذا هو الخطأ الذي وقعت فيه منظمة اليونيسكو التي اشتغلت فيها، وهذا الخطأ يكمن في أن اليونيسكو تظن أن هناك تسلسلا طبيعيا بين الشفوي والكتابي.. وعندما يذهب الطفل إلى المدرسة يتعلم الرموز بالعين، وليس بالضرورة أن يلهجها له المعلم». وفي سياق انتقاده لليونيسكو، أضاف العروي: «الخطأ الذي وقع فيه خبراء اليونيسكو هو عندما حاولوا قياس المغرب على دول إفريقية يحصل تلاميذها على معدلات أحسن من تلاميذ المغرب، من دون أن يفرقوا بين هؤلاء التلاميذ الذين يتم تعليمهم في المرحلة الابتدائية شفويا، ينتقلون إلى الكتابة باستعمال اللغة الإنجليزية أو الفرنسية». موضحا أن «التعليم الشفوي متعلق باليد: تعلم الخياطة، مثلا، كما أن اللغة الأم تستعمل لتعليم أناس جاهلين بالكتابة (illettré)». وفي الوقت الذي كان العروي ينبه إلى أن الحديث عن استبدال تدريس العربية بالدارجة، هو أمر يحتاج، قبل المجازفة بالحديث عنه، إلى إخضاعه، على الأقل، لإثنى عشرة مبحثا علميا، انبرى عيوش للدفاع عن مشروعه حول الدارجة، بالإحالة على المتخصصين الذين استشارتهم مؤسسته في الموضوع، والذين أكدوا، حسبه، على أهمية تدريس الطفل في البداية بالدارجة، «لأن هذا الطفل عندما يكون في بطن أمه يسمع أصوات محيطه، وعندما يخرج للحياة يتحدث تلك اللغة»، مضيفا: «نحن لنا تجربة في مدارسنا؛ فالأساتذة يتم اختيارهم من نفس محيط التلميذ، ويتم تكوينهم لمدة 15 يوما، والنتيجة هي أن هذه المدارس لم تتجاوز نسبة الهدر المدرسي فيها 2 في المائة». اللاتكافؤ في الخطاب بين المفكر (العروي)، الذي ينطلق من خبرته العلمية، بما فيها تلك التي كونها من خلال الاشتغال مع اليونيسكو وجعلته ينتقد خبراء هذه المؤسسة ومقارباتهم، وبين رجل الإشهار (عيوش)، الذي يكتفي بالإحالة على خبراء اعتمدتهم مؤسسته، والذين قام العروي، في سياق البوليميك، والاستفزاز الناعم، إلى التشكيك في نواياهم وأهدافهم «باغيين يوجدو خدمة لروسهم».. هذا اللاتكافؤ يدفعنا إلى التساؤل: ألم يكن حريا بنور الدين عيوش أن يستقدم إلى البلاطو ثلاثة أو أربعة من الخبراء الذين اشتغلوا مع مؤسسته لمناظرة العروي بندّية علمية، لم تتوفر فيه هو خلال مناظرة الأربعاء؟