ختمت حديثي في زاوية الأسبوع الماضي عن رواية «أبدا من دون ابنتي» بأن أكثر ما كان يقلق الثورات هو الفن والأدب. وهو استنتاج كنت أرجو أن يكون خاطئا، ولكنه الصواب. ويستغرب المرء عندما يطلع على تاريخ الأدب ويجد تلك المفارقة المذهلة بين وجود أدب راق في أوضاع متخلفة، ولم يتعرف الناقدون والبحاثة في الأدب على هذه الحقيقة إلا في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما فاز غابرييل غارسيا ماركيز بنوبل الأدب على روايته «مائة عام من العزلة»، يومها تساءل الناس: أيخرج أدب بهذا المستوى من قارة يخنقها العسكر ويكتفي فيها المواطن بحلم واحد فقط، هو أن يبقى على قيد الحياة، فيما أي حديث عن الحرية وحقوق الإنسان ترف زائد يثير الضحك؟ وجه الغرابة أن أرقى الأعمال الأدبية في تاريخ الإنسانية ارتبطت بأوضاع متخلفة من القمع والتسلط وغياب المواطنة، وليس بالديمقراطية والحرية. إنها حقيقة غريبة ولكن يجب الاعتراف بها. لقد أعطت روسيا القيصرية مبدعين كبارا لا زالت المدارس الأدبية اليوم عالة عليهم، مثل تولستوي وبوشكين وباسترناك وغوغول، الذي قال النقاد الغربيون إن جميع كتاب القصة القصيرة في الغرب خرجوا من معطفه، إشارة إلى مجموعته القصصية «المعطف». وعلى فرض أن دوستويفسكي صاحب «الإخوة كارامازوف» هو أكبر الأدمغة المنتجة للحبكات القصصية في تاريخ الرواية، حسبما يقوله كثيرون من النقاد الغربيين، فإن على القارئ أن يعرف أنه عاش في بلد لم يكن يستطيع أن يتنفس بدون إذن القيصر، ولم يعش في بيئة نامية وتحت نظام سياسي ديمقراطي. وفي الوقت الذي حصلت فيه الثورة في روسيا تراجع الفن والأدب والمسرح إلى الوراء، فاسحا الطريق أمام خطباء الحزب الشيوعي، وطيلة نحو سبعين عاما من عمر الاتحاد السوفياتي لم يتعرف العالم كله على مبدع واحد يستحق الاحترام، بل أكاد أزعم أن أي كاتب عربي لا يعرف واحدا أنجبته روسيا، أما الكتاب الحقيقيون الذين كان لهم أثر طيلة العقود السبعة من عمر الشيوعية فهم أولئك الذين عاشوا في الجمهوريات التابعة لموسكو، أي في ظل القمع والتسلط الروسي، مثل رسول حمزاتوف من داغستان وإيفو أنديتش من البوسنة، وهؤلاء أكدوا القاعدة ولم يخرقوها، قاعدة أن الأدب الراقي يولد في وضعية القمع والتخلف. وربما لا نعرف كاتبا روسيا في تلك المرحلة عدا سولجينيستين، وهذا لأنه عاش طيلة حياته منفيا خارج الاتحاد السوفياتي بسبب رفضه لديكتاتورية ستالين وحزبه الشيوعي. وأعطت إسبانيا في مرحلة الديكتاتورية الفرانكوية كتابا وشعراء كبارا لا يزال العالم يتغنى بهم ليوم الناس هذا، أمثال فيديريكو غارسيا لوركا ولوبي ذي فيغا، وأنتجت الشيلي، في عصر القمع والرجل الواحد، شاعرا مثل بابلو نيرودا، والأرجنتين في عصر الدكتاتورية كاتبا مثل خورخي لويس بورخيس وروائيا مثل خوليو كورثازار، بينما أنجبت البرازيل روائيا كبيرا مثل كارلوس فوينتس. ولعل أدب أمريكا اللاتينية هو أكثر ما حير نقاد الأدب في العقود الأخيرة من القرن الماضي، عندما اكتشفوا، بعد ترجمته إلى لغات البلدان الأوربية، أن وراء تلك المجتمعات أدبا كبيرا لم يجدوا له تصنيفا فوضعوه تحت مسمى «الواقعية السحرية»، أي تلك التي تنفلت من أشكال الواقعية الأدبية التي تعرف عليها الأدب الأوربي، واندهشوا كيف يولد ذلك الأدب في قارة متخلفة كانت بلدانها توصف بكونها «جمهوريات الموز»، أي أسواقا تتبضع منها الولاياتالمتحدة ودول أوربا وتبيع لها الأسلحة الفاسدة، دون أن تكون لها هوية محددة. وربما يثيرنا هذا الترابط بين الأدب الراقي وبين الوضع المتخلف، ولكن حقيقة الأدب دائما كانت في الرفض لا في المسايرة. وقد اشتهر ناظم حكمت في تركيا لأنه كان رافضا للإقطاع في تركيا في سنواتها الأخيرة قبل أن تتفكك مثل قالب من الحلوى، وما تبقى من تاريخ الأدب الإنساني اليوم هو ما كتب رفضا لواقع قائم لا ما كتب في صف الثورات دفاعا عنها، وأبرز شعراء العرب في الجاهلية والعصر الأموي هم الذين خرجوا على القبيلة وضربوها بالحجارة، هؤلاء الذين سماهم تاريخ الأدب العربي صعاليك.