تحتفي المجموعة القصصية «الجدار ينبت هاهنا» للقاص المغربي مبارك حسني بالفضاءات المنسية التي تستحضرها الذاكرة، حين يندلع لهيب الحنين في القلب، وكأن الكاتب من خلال هذه المجموعة يكتب -بالدرجة الأولى- نوستالجياه الخاصة، وأمازيغيته المجهضة على أرصفة مدينة غول كالدارالبيضاء. ففي قصة «أمام أبواب الليل» يكتب عن الصمت بعد الغروب الذي يخيم على القرية، وخلود الأهالي للمساكن والنوم المبكر، وسكن «عقا أموزون» في مكان مخصص كمخزن للقبيلة من أجل إنجاز لوحته التشكيلية... ولأن للبعد ألمه الخاص ولهفته، فالذئب في قصة «حكاية الذئب المنبوذ» يتوق إلى دخول الغابة، التي يتطلع إليها من بعيد في حسرة، وطالما حلم ببعض دفئها في ليالي الشتاء، وحين تغادرها الحيوانات والطيور بعد اندلاع النار فيها، يقتحمها -وبنوع من الوجد الصوفي- غير عابئ بفنائه ! في «الجدار ينبت هاهنا» يستظل الشاب المجهد بجدار نابت في الخلاء هاربا من جحيم شمس الظهيرة، يستريح مبهورا بسحر السماء الأولى، ويحاول أن يتذكر إن كان هذا الجدار سبق أن رآه في طفولته، ويكاد هذا الحنين يفتك به حين يرى أفعى تخرج من تحت الجدار النابت في الخلاء، ويتبخر كل شيء، ولا يجد أمامه سوى الدفاع عن الحقيقة الوجودية الكبرى... عن حياته. في «رفقة في مساء» يكتب مبارك حسني عن التفاصيل السحرية، وبنفس روعة سعيد الكفراوي، وعن تفاصيل المنسي واليومي والمهمل.. تلك الأشياء التي لا ننتبه إليها عادة، فبطل القصة المريض يستمع إلى الراديو (محمد رويشة)، ويرحل معه إلى أيام هوى غابت... إنه الحنين الآسر، الذي يجعل لأبسط حركة إيقاعا ساحرا، مثل صوت ارتطام ذيل البغل بقصدير باب الكوخ طاردا الذباب، فيتذكر الجيران ومفردات حيواتهم الموغلة في البساطة، ويأتي جاره «باسو» حاملا له الحساء الذي يفضله ويشعل النار، وحين يمزق صمت الليل الجبلي الجليل نهيق حمار، يسمع صوت ارتطام قوي لحجر برقبة الحمار وشتائم «باسو» الأمازيغي، ويأخذ مكانه إلى جانب العربيّ العطار (با العربي) متناسيين خلافاتهما، ويتناولان بقايا الشاي من براده دون حرج، ويغمض عينيه متناسيا كل شيء إلا صداقتهما المتفردة... صداقة أمازيغي وعربي. للكتابة نصيب في المجموعة، ففي «لقاء في ليل بعيد» يكتب السارد وهو الكاتب نفسه- عن الجد الذي يزوره رغم أنه ميت.. لأنه الحفيد الوحيد الذي احتضن تلك الورقة العتيقة التي بخط يد الجد دون بقية الأحفاد والأبناء.. فهما يشتركان في حرقة الكتابة، ويعطيه جرابا باليا، يضع فيه الكتب، ويحس بالسعادة حين يرى شخصيات يعرفها تخرج من الجراب. «رغبات نائية» تحتفي بالكتابة، وبالهامش، حيث العزلة القاسية كما البرد، والخوف على ساعي البريد من الضياع، لكن الكلمات لا تغادر، بل تعبر عن الرغبات الدفينة لإنقاذها، وتنضاف إلى ركام أوراق لا تبرح مكانها، وفي قصة «نص الكون» يكاد يجن السارد لأنه لم يجد ورقة بيضاء يكتب عليها. أيضا تحضر المرأة وتيمة الحب في «الجدار ينبت هاهنا»، فإذا كان السارد قد غرق في تفاصيل «حكاية المرأة في مذكرة» والتي تطرق باب كوخه ليلا، رغم الريح الشتوية والعسس، لكونها لا تخرج نهارا، لأنها غريبة عن القرية وغير متزوجة، ويواسي نفسه بالكتابة في انتظارها «مجزأً بين ما كتب وما وقع»، فإن الكاتب في «جرح في الليل» يرصد قسوة العيش، التي تخلف قسوة القلب، فيعامل الزوج زوجته بفظاظة، وبسبب الجرح الذي سببه لها في عنقها من أجل البغل، يضطر إلى حملها على ظهره... إلى بيت الممرضة، لإنقاذ حياتها. «الجدار ينبت هاهنا» نصوص ذات ألق خاص لأنها ترصد عوالم نادرا ما يطرق أبوابها الكتاب المغاربة... نصوص ترشح بالحنين وعطر الأماكن المنسية.