لعل محمد الأشعري، الذي تحمل حقيبتي الثقافة والإعلام على عهد البصري، قبل أن يسلم حقيبة الإعلام إلى الاستقلالي العربي المساري ويحتفظ بحقيبة الثقافة لعشر سنوات كاملة، كان أول وزير في تاريخ الحكومات المغربية يوجه رسالة إلى وكيل الملك يطالبه فيها بتصديق ما نشرته أسبوعية «المشعل»، التي لم يسمها، وفتح تحقيق معه حول مصادر ثروته الشخصية. البعض اعتبر رسالة الوزير «الشاعر»، صاحب زاوية «عين العقل» في أسفل الصفحة الأولى من جريدة «الاتحاد الاشتراكي» أيام المعارضة، جرأة غير معهودة في الوزراء السابقين. والبعض الآخر انبرى يدافع عن الوزير الاتحادي السابق، معطيا الدروس لزملائه في المهنة، مصدقا رسالة الوزير بحذافيرها، مع أن الأشعري لم يكلف نفسه عناء إثبات ما ينفيه بالحجج والوثائق، كما هي الأعراف الصحافية. بل استعان بأسلوبه القديم أيام «عين العقل» ودبج رسالة إلى القضاء يعرف قبل غير أنها ليست سوى إنشاء سيقرؤه القضاة وسينسونه على الفور. ببساطة لأنه ليس بينهم واحد اسمه القاضي «غارسون»، المتخصص في مطاردة السياسيين والكشف عن مصادر ثرواتهم. هل يتصور سعادة الوزير السابق أن هناك في المغرب قاضيا واحدا قادرا على أخذ رسالته مأخذ الجد، وفتح تحقيق في مصادر ممتلكاته. هل هناك قاض واحد في المغرب مستعد للقيام بهذا العمل والمخاطرة بمنصبه، وهو يعرف أن الشخص الذي سيحقق في ثروته ليس سوى أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الذي يوجد على رأسه وزيره في العدل. ليس لأن الوزير السابق نشر رسالة يطلب فيها من القضاء تصديق الصحافة وفتح تحقيق معه يجب أن نعتبر كلامه منزها عن المغالطة والمزايدة. خصوصا ونحن على مرمى حجر من الانتخابات الجماعية التي يستعد لها الحزبيون بالغيطة والطبل. لقد كان على الأشعري أن يرد على المشككين في ثروته بنشر تصريح مفصل بممتلكاته. لا برسالة يتحدث فيها عن بيت يوجد في الهضبة وغير ذلك من التفاصيل التي تضبب الصورة أكثر مما توضحها. لو كان الأشعري فعلا يريد أن يخرس ألسن الصحافيين الذين يتحدثون عن ضيعته التي يربي فيها الخيول، (ليس تلك التي كتب حولها ديوانه الأول «صهيل الخيول الجريحة» طبعا)، وشقته التي باعها قبل سنة ب300 مليون في شارع فرنسا بأكدال، وغير ذلك من الأخبار التي تتعلق بممتلكاته الخاصة، لكان نشر لائحة مفصلة بحساباته البنكية وجردا مستخلصا من المحافظة العقارية يحصر الأمتار أو الهكتارات التي يملكها والمسجلة باسمه أو اسم زوجته. كان عليه أن يشرح للرأي العام ماذا كان يملك عندما طلب منه عبد الرحمان اليوسفي أن يذهب لاقتناء لباس جديد يليق بحفل تنصيبه وزيرا في حكومته، وبعدها عندما ثبته المستشار أندري أزولاي في منصبه مع مجيء حكومة جطو، وصار يرافق المستشار خلال وصلات ركضه أيام السبت على رمال شاطئ «فال دور» بالصخيرات أكثر من حضوره لاجتماعات حزبه بأكدال. إن الحل الوحيد لكي «يخرس» الأشعري ألسنة السوء التي تلوك موضوع ممتلكاته، هو أن ينشر تصريحا بالممتلكات في الصحافة، يبين فيه بالتدقيق ما الذي كان يملكه قبل دخول الحكومة وما الذي أصبح يملكه بعد مغادرتها. ولو أن ممتلكات الأشعري قبل أن يدخل الحكومة يعرفها الجميع، ولا حاجة للتركيز عليها كثيرا. فالرجل كان يسكن في العكاري بالرباط حيث كان يكتري بيتا متواضعا. وكل ممتلكاته سيارة متهالكة من نوع «فيات أونو»، تحكي ألسن السوء أنه عندما ركنها أمام باب وزارة الثقافة حين جاء إليها أول مرة بعد تسلمه لحقيبتها، جاءت سيارة «الديباناج» وأخذتها، بعد أن خلطها «الديباناج» بسيارة أحد الموظفين «الكحيانين» بالوزارة. والواقع أنه ليس عيبا أن يكون المرء قادما إلى الحكومة من حي شعبي، وأن يتعلم الأكل بالشوكة والسكين بعد أن يكون قد قضى سنوات طويلة متنقلا بين مطاعم باب الحد يأكل طواجين «الكعاوي». ليس عيبا أن يتعلم اقتناء ربطات العنق من المحلات الفاخرة يتعدى ثمن «الربطة» الواحدة منها راتبه السابق في وزارة الفلاحة كتقني في السلم الخامس. ليس عيبا أن يستطيب جلسته المريحة داخل سيارة مرسيديس وزارية لعشر سنوات كاملة، بعد أن كان منتهى طموحه ألا تتوقف به سيارته «الفيات» في منعرجات زرهون. لكن العيب هو أن يقرر سعادة الوزير السابق أن يرسم عن نفسه عبر تلك الرسالة التي نشرتها له جريدة حزبه صورة مواطن بسيط لا يملك في هذه الدنيا غير منزله الذي اشتراه بقرض بنكي. إن هذه الصورة الشعبية للوزير السابق الذي لا يخشى المحاسبة، ويتجرأ على مطالبة القضاء بالتحقيق معه في مصدر ممتلكاته، تهدف في الواقع إلى مغالطة الرأي العام أكثر من توضيح الصورة له، خصوصا في هذه الفترة الانتخابية العصيبة التي يدخلها حزب الاتحاد الاشتراكي بمعنويات هابطة. ولكل وزير سابق أو حالي طريقته الخاصة في الاستعداد للانتخابات المقبلة. وإذا كان الأشعري الاشتراكي يطلب من القضاء الذي يوجد على رأسه رفيقه الاشتراكي محاسبته على ممتلكاته، فإن كريم غلاب الاستقلالي لا يكتفي بتسخير صحيفة حزبه وبعض الصحافيين من فصيلة «كاري حنكو» في حملته، بل يذهب إلى حد تسخير أموال دافعي الضرائب في حملته الانتخابية للفوز بعمادة مدينة الدارالبيضاء، ورئاسة بلدية سباتة التي يوجد على رأسها منذ سنوات. وحسنا فعل أعضاء بلدية سباتة عندما رفضوا بالإجماع منح جمعية محسوبة على غلاب، رأت النور مؤخرا وفي فمها ملعقة من ذهب، دعما ماليا قدره خمسون مليون سنتيم. ولعلكم رأيتم جميعا وزير التجهيز كريم غلاب في نشرات التلفزيون يزور مراكز ترقيم السيارات في الدارالبيضاء، التي ينوي الترشح للفوز بمنصب عمدتها ضد ساجد. وكأن مراكز ترقيم السيارات لا توجد في الرباط ولا في فاس ولا في غيرها من المدن المغربية الأخرى. واضح إذن أن غلاب، الذي تتبعه كاميرات الإعلام العمومي مثل ظله حيثما ذهب، يستغل مشاريع وزارته الممولة بالمال العمومي لكي يلمع صورته استعدادا للانتخابات المقبلة. ولذلك يجب على زميله في الحكومة وزير الداخلية أن ينبهه إلى خطورة ما يقوم به على مصداقية الحكومة ومشروعها الذي يتحدث عن تخليق الحياة السياسية. وربما لا يجب أن يتوقف تدخل وزير الداخلية على مجرد تنبيه زميله في النقل والتجهيز إلى خطورة استغلال برامج الحكومة وإعلامها العمومي للدعاية لشخصه، بل يجب عليه أن يكون صارما ويمنع مهرجان «ربيع سباتة» الذي يستعد غلاب لتنظيمه في بلديته ما بين 19 و22 مارس. ففي هذه الفترة الانتخابية لا يجب أن تتوقف مشاريع التزفيت التي تطلقها البلديات لذر الرماد في عيون المنتخبين، وإنما يجب أن تتوقف أيضا كل مظاهر الاحتفال التي يكون وراءها رؤساء بلديات يستعدون لدخول غمار الانتخابات بأموال دافعي الضرائب. وحسب برنامج «ربيع سباتة»، فغلاب ينوي تمتيع سكان مقاطعته بسهرات لنجوم الغناء الشعبي، وحفلات في الشوارع وعروض مسرحية مجانية. طبعا كل هذا سيدفع غلاب تكلفته من ظهر سكان المقاطعة، وكأن هؤلاء السكان وفرت لهم البلدية ورئيسها كل مقومات الراحة والسعادة، ولم يبق لهم سوى ربط نصفهم السفلي بالحزام والخروج إلى شوارع المقاطعة للرقص فوق القعدة مع «شيخات» غلاب. خلاصة القول، لكل وزير سابق أو لاحق، سواء كان اتحاديا أو استقلاليا، طريقته في التحضير لحملته الانتخابية. لقد استفادوا من درس البحراوي ولم يعودوا متحمسين لجمع الناس في فيلاتهم لإطعامهم ب»البسطيلة» المحشوة بالوعود المعسولة. لقد صاروا أكثر ذكاء، بحيث يستعملون أموال الشعب في تغليط الشعب، عملا بالحكمة المغربية المأثورة «من ليحيتو لقم ليه». والحديث هنا طبعا عن لحية أخرى غير لحية الأشعري.