مرة أخرى، يقف العلماء على خط التماس مع الشؤون الاقتصادية. والعلماء هنا ليسوا أولئك الذين يعتكفون شهورا وسنوات في المختبرات ليكتشفوا لنا لقاحا أو دواء ضد أمراض فتاكة، ولا أولئك الذين يكدون من أجل ابتكار آخر تكنولوجيا المعلوميات التي جعلت العالم قرية صغيرة... إلخ، إن الأمر يتعلق بعلماء الدين أو لنسميهم شيوخ الشؤون الدينية، لذلك سأستعمل كلمة «علماء» بين مزدوجتين. لقد أعلن مفتي مصر الشيخ الطنطاوي، في الأيام القليلة الماضية أن توزيع القروض البنكية ليس حراما، وأكد أن «فوائد البنوك حلالا شرعا وتحديد نسبة الفائدة يضمن حقوق المودعين»، كما أكد أن «المضاربة في البورصة مباحة باعتبارها من الأمور المستحدثة. ويبدو أن هذا النقاش الذي طفا على السطح مؤخرا جاء في غير زمانه ويذكرنا بما عرفته الأنظمة البنكية في الدول الإسلامية خلال حقبة الستينيات من تجاذبات أفضت إلى حل وسط يقضي بخلق «بنوك إسلامية». ويبدو أن هذا النقاش أصبح متجاوزا لأن الأنظمة البنكية بالدول الإسلامية شقت طريقا طويلا نحو الحداثة والعصرنة، وبالمغرب، مثلا، نال مؤخرا النظام البنكي المغربي أعلى النقط من طرف وكالات التنقيط الدولية وعلى رأسها «موديز». وعلى امتداد كل تلك الحقب الفاصلة بين الاستقلال واليوم، بدا «العلماء» المغاربة وكأنهم غير معنيين بهذا النقاش، مما أعطى دائما الانطباع بأن «علماءنا» حسموا في موضوع البنوك مادامت المجالس العلمية هي كذلك هيئات لها حسابات بنكية... وكان على المغاربة أن ينتظروا استجابة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي لبعض المغاربة الذين سألوه عن شرعية القروض البنكية العقارية، ورغم أن إجابته كانت بجواز التعامل بهذه القروض، فإن «علماءنا» الأجلاء اعتبروا ذلك تدخلا في شؤونهم الداخلية وأسقطوا فتوى القرضاوي وأكدوا أنهم هم الجهة المخول لها بالإفتاء في المغرب. وفي الوقت الذي كان فيه المغاربة ينتظرون «علماءهم» الأجلاء وفتواهم، فضل هؤلاء التواري في الظل واللوذ بالصمت الذي طال أكثر من اللازم، والنتيجة أن المغاربة لا يعرفون موقف «علمائهم» الذين أسقطوا فتوى القرضاوي.. ولا ندري كيف سيتعاملون مع فتوى الطنطاوي، والواضح أن ما يحسنون فعله هو الصمت. والسؤال الحقيقي المطروح على هؤلاء «العلماء» الأجلاء هو هل بإمكانهم أن يطلقوا فتوى مخالفة لما قاله القرضاوي والطنطاوي، أي بفصيح العبارة هل سيجرؤون على القول إن التعامل مع البنوك غير شرعي وإن الفوائد البنكية ربا؟ أعتقد جازما (وهذا تحد شخصي) أنهم لن يجرؤوا على ذلك، وأغلب الظن أنهم سيستمرون طويلا في صمتهم عملا بمقولة «كم حاجة قضيناها بتركها». «علماؤنا» لم نسمعهم كذلك عندما تم الإعلان عن إطلاق منتوجات بديلة وهي تسمية «مْزوقة» لإخفاء الطابع الإسلامي عنها، كما لم نعرف أسباب صمتهم عن غلاء هذه المنتوجات مقارنة بالقروض التقليدية، وهل ذلك طريقة لجعل الناس يصرفون النظر عنها؟! والواقع أنني أثمن هذا الصمت المطبق ل«علمائنا» لأن لتدبير الشؤون الاقتصادية، في رأيي، أخصاء، وأنا أومن حتى النخاع بمسألة التخصصات، لذلك لم أستسغ خرجتهم الإعلامية لمهاجمة فتوى القرضاوي الذي لم يضف أي شيء لواقع معيش بالمغرب، فعلا هو ألغى أو منع أو حتى حرم... العمل بقروض العقار، لذلك كانت انتفاضة «العلماء» المغاربة جعجعة بدون طحين وأحرجوا أنفسهم لأنهم أصبحوا مطالبين بفتوى محلية، وهو ما عجزوا عنه حتى الآن لأسباب يعرفها الجميع. فهؤلاء «العلماء»، وهم موظفون لدى الدولة، لن يجرؤوا بالتأكيد على الدخول مع هاته الأخيرة في تناقضات، وبصراحة لا يجب أن يفعلوا، فيكفي أنه في الشؤون الدينية لم تحسم عدة أمور، ومنها بعض الظواهر المجتمعية التي طفت على السطح مؤخرا وكانت حديث الرأي العام، دون أن يعرف هذا الأخير رأي «علمائه» الأجلاء فيها، لذلك سيفعلون خيرا بتركهم الاقتصاد لأهل الاختصاص.