نقرأ في تقديم كتاب «حدود زجاجية» أن «غويتصولو لم يكن يوماً كاتباً عادياً، ليس فقط لأن كتبه كانت معروفة في مخافر الشرطة أكثر منها في المكتبات خلال فترة الديكتاتورية في إسبانيا، بل أيضاً لكونه أدرك مبكراً أن امتطاء صهوة الكتابة يفرض عليه التحلي بقيم المحاربين النبلاء والسفر إلى أشهر مناطق التوتر لمعرفة ما يجري على أرض الواقع، ومصافحة المنكوبين قبل الكتابة عن أحزانهم». وفي الوقت الذي جسدت فيه نصوص هذا المؤلف قدرة غويتصولو على التحليل السابح ضد التيار، عبر رؤية نقدية للأحداث، تربط بين عالم ما بعد انهيار برجي التجارة العالمية ونزيف الشرق الأوسط، فإننا سنتعرف، في «عصافير تلوث عشها»، على أساس الإبداع عند هذا الكاتب الإسباني، من خلال قراءة نقدية تستحضر كل أغصان وأوراق وجذوع شجرة الأدب الوارفة، التي تتنامى وتتشابك على مر العصور. و»هي شجرة لا تشبه كل الأشجار»، كما يكتب الناقد والروائي المغربي محمد برادة في مقدمة الكتاب، «إنه يحددها ويميزها بصفات وظلال وتلوينات تجعل منها الشجرة الحاملة لبصمات وآثار تنضح بالجرأة والابتكار، وتتدثر بلغة مضيئة، كاشفة، مكسرة للرتابة والبلاغة اللفظوية». سيتقدم برادة في تقديمه لآراء غويتصولو، فيكتب : «والذين يدخلون غابة الكتابة بصدق، هم الذين يسقون تلك الشجرة الفارعة المتحدية لبقية الأشجار «العادية». ومن تم لامناص من أن يختار الكاتب بين أن يكون واحدا من القطيع المجتر لعلف الأسلاف، وبين أن يكون منشقا متحملا وصفه بالإجرام، لأنه يستفز ويبتدع لغة تحرك السواكن وتوقظ الوعي وتخلخل البرك الآسنة. ومن هذا المنظور، لايكون الناقد - القارئ متقوقعا داخل مقولات وأحكام سابقة جاهزة، وإنما هو يبحر مع النصوص مستحضراً كل الثقافات». بعد التقديم، سنكون مع تصدير، ينطلق فيه عبد الكريم جويطي، مترجم الكتاب، من هذه «السمة الساخرة لوصف الكتاب الذي يسيئون بأعمالهم الإبداعية إلى أوطانهم»، قبل أن يتساءل، قائلا : «ماذا بوسع هؤلاء فعله إذا كانت النتانة تفوح من العش، على حد تعبير غويتصولو، وأنهم من يقوم بصدق، من حين لآخر، بعملية إزالة الروائح الكريهة، ومقاومة النتانة والوخم ؟». ثم يتوسع جويطي، في عرض أولي للأفكار التي سيطورها غويتصولو في ما بعد، فيقول : «لقد قيد للمبدعين الحقيقيين، وعلى مر العصور، أن يشهروا حبهم القاسي في وجه أوطانهم وأن يضعوا أنفسهم على طرفي نقيض مع الأساطير المؤسسة للهويات الوطنية، والتوافقات الكاذبة، والتوحيد القسري، ومستوطنات العقاب، زارعين الشك في قلب اليقينيات الصلدة، ومحطمين الترهات التي تقدم على أنها حقائق دامغة، وفاضحين الأنظمة القمعية ... إنهم وحدهم من يرون العالم وهو يمشي مختلا نحو مزيد من الفظائع والإبادات الجماعية ومعسكرات الاعتقال واضطهاد الأقليات والمهمشين. ولأنه من السهل دائما مهاجمة من يفضح نتانة العش عوض الانكباب المضني على تنظيفه، فقد تعرض هؤلاء وبشكل متواتر لتحامل ذويهم الذين اعتبروا كتاباتهم عملا إجراميا مخلا بالأمن والاستقرار». ثم يأتي الدور على غويتصولو، فيطرح سؤاله، «هل بإمكان من يتخذ موقفاً أن يشارك في عمل سياسي أو أخلاقي مدان بحسب التوافق الأخلاقي الاجتماعي أن يبدع عملا أدبيا مقبولا؟... وبمعنى آخر، هل يملك الإتقان الفني للعمل ملكة تعليق حكمنا الأخلاقي العجيبة اتجاه من ولده ؟». سيشدد غويتصولو على أن «الواجب الأولي للكاتب هو أن يعيد إلى المجموعة الثقافية واللغوية التي ينتمي إليها لغة جديدة وأكثر غنى من تلك التي تلقاها إبان الشروع في مهمته»، ف»الكاتب الذي يأخذ عمله مأخذ الجد يواجه، فعلا، ومع البدء، وجود شجرة سيتطلع لتمديدها، وخصوصا، لإغناء حياتها، وبقدر ماتكون هذه الشجرة باسقة، يانعة، مرهفة، متعددة الغصون، بقدر ماستكبر إمكانيات لعبه ومغامراته، وبقدر مايتسع الحقل الذي سيباشر بداخله اكتشافاته وأسفاره. بينما يمكن التعرف بسهولة على كاتب من الدرجة الثانية بمحاكاته الاختزالية ارتباطه بنموذج أو تيار معين، فإن الكاتب، الذي يتطلع لترك أثر، أو خلق غصن أو تفريع للشجرة لن يخضع لأي تأثير خاص، لأن نهمه الأدبي سيمنعه من التوقف عند كاتب معين أو قالب وحيد».