أخيرا قدم وزير العدل استقالته. فقد كان الجميع ينتظرها. وبالنسبة للمعارضة فقد جاءت هذه الاستقالة في وقتها، خصوصا وحزب وزير العدل يتلقى الضربات السياسية من كل جانب. وقبل أن تذهب بكم الظنون كل مذهب وتتصوروا أن الوزير المقصود بالاستقالة هو عبد الواحد الراضي دعونا «نبشركم» بأن المقصود هو وزير العدل الإسباني «ماريانو فيرنانديز». ففي حكومتنا الموقرة تعتبر الاستقالة جريمة نكراء، وكلما سمع وزيرنا الأول بخبر وزير يستقيل في إحدى حكومات العالم الفسيح إلا ونفث داخل ثيابه وقال «برا يا الباس». ماذا اقترف وزير العدل الإسباني من أخطاء حتى يبادر إلى تقديم استقالته وهو لم يسخن كرسيه بعد في وزارة العدل. الحكاية وما فيها أن بعض الأشرار من الصحافيين الإسبان يعرفون أن هواية وزير العدل المفضلة هي الصيد. لذلك «سمرو» عليه نهاية الأسبوع ما قبل الأخير. واكتشفوا أن وزير العدل «عرض» على القاضي الشهير بالتزار غارسون، الذي يبدو أن زيارته الأخيرة لعين الذياب بكورنيش الدارالبيضاء لم تدخل عليه بالخير، لكي يشاركه رحلة صيد الغزلان. وبما أن «صياد الغزال يلقاها يلقاها» (عوضنا صياد النعام بصياد الغزال لأن صيد النعام ممنوع في إسبانيا) فقد اكتشف الصحافيون أن القاضي بالتزار غارسون فجر ملف المسؤول السياسي اليميني مباشرة بعد رحلة الصيد هذه، مما يدل على أن وزير العدل سلم القاضي الشهير معطيات بخصوص المسؤول السياسي المتابع في فضيحة رشاوى من العيار الثقيل يمكن أن تجر معها رؤوسا كبيرة إلى المحكمة. المشكلة ليست هنا. المشكلة أن الصحافيين اكتشفوا أن وزير العدل الذي يمثل القانون كان يصطاد الغزلان بدون أن يكون متوفرا على رخصة. عندما انتشر الخبر، اختفى وزير العدل عن الأنظار، وأصيب القاضي بالتزار غارسون بحالة اكتئاب حادة كان ضروريا معها إدخاله إلى غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات بمدريد. فالقاضي المشهور بمطاردته للإرهابيين والديكتاتوريين وكبار المهربين شعر بالشمتة وهو يجد نفسه في رحلة للصيد مع وزير للعدل يصطاد الغزلان بدون رخصة قانونية. هذا مثال لقاض نزيه ونظيف «عندو النفس» جدير بالتأمل. وليس مثل بعضهم عندنا يمكن أن «تجفف» وزارة العدل ببذلتهم أدراج المحكمة دون أن يجرؤوا حتى على رفع أعينهم إلى الأعلى وهم يتلقون التعليمات عبر هواتفهم. في إسبانيا أجبرت المعارضة والصحافة المستقلة وزير العدل على الاستقالة، لأنه أعطى مثالا سيئا عن العدالة. فمن غير المقبول أن يستمر وزير العدل في السهر على ضمان احترام القانون في الوقت الذي يهينه هو شخصيا ويتجاوزه. وخلال الأيام الأخيرة وقعت أشياء في المغرب لو وقع نصفها في إسبانيا أو أية دولة ديمقراطية أخرى لاستقالت الحكومة بأسرها وليس فقط وزير العدل. وفي المنطقة وحدها التي يمثلها وزير العدل في البرلمان ويرأس إحدى جماعاتها القروية، مات حوالي 22 مواطنا بسبب الفيضان، ولجأ حوالي 5000 مواطن إلى غابة المعمورة للاحتماء بأشجارها، ولازالوا هناك إلى اليوم يشربون مياه البرك الملوثة ويعيشون على الالتقاط تماما مثل قبائل الأدغال. ولا بد أن عبد الواحد الراضي يعرف أطراف تلك الغابة عز المعرفة، بحكم ممارسته الطويلة لهواية صيد «الحلاليف» مع صديقه القديم وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري بين أطرافها. وطبعا لا ضرورة إلى الإشارة إلى أن الوزير القوي لم يكن محتاجا إلى ترخيص لكي يصطاد «الحلوف» مثل ما وقع لوزير العدل الإسباني. فإدريس البصري كان يصطاد البشر في سيارات «فيات كحلة» التي كان يستعملها جهاز المخابرات التابع له بالمئات، فهل كان سيحير في «الحلوف» إذا كان لا يحير حتى في البشر. وبسبب تخصيص الجماعة التي يترأسها وزير العدل بسيارات الإنقاذ وزوارق «الزودياك» وشاحنات مؤسسة محمد الخامس للتضامن وزيارات المسؤولين الأمنيين والعموميين، خرج بعض الشباب الذين حرمت جماعاتهم من الدعم غاضبين، وقاموا بالسطو على إحدى الشاحنات وسلبوا «قوالب» الإعانات و«خناشي» الطحين وعلب الشاي. فما كان من وزارة الداخلية إلا أن اعتقلتهم اتخذت قرار توقيف الإعانات عن المناطق المتضررة، وعلقت المساعدات، دون أن تنسى «تعلاق» المعتقلين في مخافر الأمن والدرك وتعذيبهم بالكهرباء. وكأن هؤلاء أرادوا أن يقولوا للمنكوبين «إلى ما كفاكومش الما ديال الفيضان، غادي نزيدوكم الضو ديال الداخلية». إن مجرد نزول وزير العدل على متن سيارته «الكات كات» لابسا «بوطه» إلى جماعته القروية، دون تكليفه لنفسه زيارة الجماعات المجاورة، رغم أنه يمثل المنطقة ككل في البرلمان، وظهوره إلى جانب مسؤولي العمالة والولاية والوقاية المدينة بمظهر سيدنا نوح الذي سينقذ جماعته من الطوفان، يعتبر استغلالا فاضحا لنفوذه كوزير في الدعاية لشخصه، خصوصا وأن الانتخابات الجماعية على الأبواب. هذه وحدها كانت كافية لكي يقدم وزير العدل استقالته من منصبه. وقبل أسبوع فجر مدير مستشفى تطوان فضيحة من العيار الثقيل عندما رفض الامتثال لطلبات الوكيل العام للملك الذي كان يصر بشكل متكرر على استضافة أحد بارونات المخدرات المحكومين بالسجن، بذريعة أن «الشارف» يحتاج عناية طبية نفسية في المستشفى عوض البقاء في السجن. وبسبب الضغوطات التي مارسها الوكيل العام للملك على مدير المستشفى، قدم هذا الأخير استقالته وتحدث إلى الصحافة عن محنته مع هذا المسؤول القضائي الذي يريد أن يحمله مسؤولية استضافة بارون مخدرات سبق له أن استفاد من «السكن» في المستشفى عوض السجن، واستغل «حسن الضيافة» للفرار نحو إسبانيا والبقاء فيها لتسع سنوات كاملة. عادة عندما يقوم السجين بالفرار من السجن يمارس القضاء سلطته في تشديد الحكم وحرمان السجين من الاستفادة من التسهيلات التي يستفيد منها السجناء المثاليون. لكن في حالة البارون «الشارف»، أصر الوكيل العام للملك شخصيا على أن يستفيد هذا الأخير من الإعفاء من المسؤولية الجنائية، وينزل ضيفا على المستشفى حتى يستطيع الدخول والخروج منه متى أحب. صمت وزير العدل على هذه السابقة كان سيكلفه منصبه لو أنه كان في دولة كإسبانيا. وعوض أن تستدعي الوزارة الوكيل العام للملك للتحقيق معه بشأن طلباته المتكررة لصالح «الشارف»، تم استدعاء مدير المستشفى للتحقيق معه حول «مزاعم» الضغوطات التي تعرض لها من طرف الوكيل العام للملك. فيما تكفلت إحدى اليوميات، التي أصبح فيها لوزارة العدل ملحقون صحافيون يدافعون فيها عن وجهة نظرها، بنفي تعرض مدير المستشفى لضغوطات من طرف الوكيل العام للملك. مع أن هذا الأخير يؤكد ويكرر في كل حواراته الصحافية أنه تعرض لضغوطات. والغريب في الأمر أن وزارة العدل المعنية بالموضوع «باركة ومحصنة» فيما الجريدة إياها «شاداها النعرة». وعلى رأي المثل «مالين الميت صبرو والعزاية كفرو». عندنا في المغرب، أجمل بلد في العالم، لا يجبر كل هذه الأشياء وزير العدل على تقديم استقالته، فقد كان هو من وعد بعظمة لسانه بأنه سيقدمها من الحكومة في حالة ما إذا اختاره رفاقه في الحزب لكي يكون أمينا عاما عليهم. وها قد مرت أشهر على اختيار الرفاق في الاتحاد الاشتراكي لعبد الواحد الراضي أمينا عاما للحزب، ومع ذلك لم يف هذا الأخير بوعده ولم يقدم استقالته. بالعكس، ضرب مسمار جحا في الحكومة بعد أن ثبت أقدامه في الحزب. إن أقبح شيء في السياسة هو الكذب، وعدم الوفاء بالوعود. والسياسي الذي يقطع على نفسه وعدا ولا يلتزم به يصبح سياسيا غير جدير بالاحترام. وبسبب قلة احترام الكثير من السياسيين لأنفسهم فقدت السياسة أنبل معانيها، وهي الصدق والالتزام. لهذه الأسباب فقدت السياسية والسياسيون قيمتهم في عيون المغاربة. وفي اليوم الذي سيستعيد فيه السياسيون احترامهم لأنفسهم، سيستعيد المغاربة احترامهم لسياسييهم. «وقتاش هاداك النهار»، الله أعلم.