لا يبدو أن هناك رغبة في الضرب على يد السماسرة ولا في تنبيه ومراقبة المرشحين ولا في ملء الهفوات التقنية المتمثلة في إمكانية الحصول على ورقة التصويت أو شراء العاملين في مكاتب الترشيح بحكم انخراطي في المعترك السياسي، عبّرت لبعض الأصدقاء والأهل والمعارف عن نيتي التفكير في الترشح للانتخابات المحلية المقبلة (12 يونيو 2009). ما آثار دهشتي هو السيل الجارف من الأسئلة التي طرحت علي والتي لا علاقة لها بمدى أهليتي للعمل على المستوى المحلي أو بمدى قدرتي على تعبئة المواطنين لكي يصوتوا لصالحي، أو مدى قدرتي على صياغة برنامج أو إرسالية وتسويقهما بلغة ووسائل يفهمها الجميع... لا يهتم لا العامة ولا النخبة على المستوى المحلي بهذه الأمور لأنها تافهة أو ثانوية وفيها «بزاف ديال القراية والفرانسوية» (كما يردد دائما أحد الأصدقاء). الأسئلة التي تقض مضاجع الرأي العام المحلي هي كالتالي: هل ستشتري الأصوات؟ ما هي اللوائح التابعة لأحزاب أخرى التي ستموّلها والتي ستضمن أن من فاز على رأسها سيبيع لك صوته لكي تصبح رئيسا؟ من سيعمل لحسابك كسماسرة لشراء الأصوات؟ هل ستعتمد فقط على المتعلمين (القاريين) أو هل لديك جيش من بائعات الخبز والخيط والصوف و«النجّاجات» و«الكسّالات» وأصحاب الطاكسيات والشاحنات ومنشطات محو الأمية وأمناء الحرف والفقهاء والأئمة والسحرة والمنحرفين والمجرمين والمشعوذين المتجذرين في أوساط الشعب لكي يساعدوك على الوصول إلى من هم على استعداد لبيع أصواتهم ويبقون على «عهدهم» بأن يصوتوا عليك إن «أعطوك الكلمة»؟ حين أجيب قائلا إنني لا أريد أن أشتري الأصوات وإنني أريد أن أقوم بحملة نظيفة وأن أحاول إقناع الناس بأفكاري وبرنامجي، يضحك الكثير قائلا إنني أحلم وإنه من الأفضل علي الرجوع إلى عالم الجامعة والصحافة والفكر والخبرة. بالنسبة إلى هؤلاء، فأنا ساذج لا أعرف الواقع، ولا أفقه من أين تؤكل الكتف السياسية وأن مقاربة «لقراية» والعلم ومحاولة التأثير عن طريق الخطاب والتواصل ولى عهدها إلى غير رجعة حين كان الشعب يؤمن بأن بعض الأحزاب (التي لازالت تنعت نفسها بالديمقراطية) كانت في صفه وتدافع عن مصالحه. الآن وقد صارت هذه الأحزاب أسوأ مما كان ينعت بالأحزاب الإدارية، حيث التشبث بالسلطة وحيث إنها وضعت مبادئها في الثلاجة ولا تخرجها إلا حين تريد أن تحرج المخزن أو تتفاوض معه أو لا يخرجها بعض أعضائها إلا حين يستبعدون من الاستوزار، فإن الحابل اختلط بالنابل وليس من خطاب يفهمه الناس (أو الأقلية التي تصوت) إلا الورقتين «القرفية والزرقاء». الغريب في الأمر أن الكل يعرف هذا: الحكومة، والنخبة السياسية والأحزاب السياسية والرأي العام، وهناك صمت مطابق حولها وكأن هذا من الطابوهات الاجتماعية أو السياسية التي لا يجب الحديث عنها. في رأيي هذه مؤامرة ضد المستقبل وضد الوطن وضد الأجيال الناشئة، يساهم فيها الجميع إما بفعلهم أوعدم فعلهم أو سلوكهم أو تواطئهم ...إذا كانت الانتخابات محسوما في أمرها مسبقا فإننا لم نتقدم قيد أنملة بالنسبة إلى الزمن الذي كانت فيه النتائج تطبخ في مقرات وزارة الداخلية. إذا كان هذا أمر يروق الكل لأنه يقينا شر المفاجآت السياسية، فإننا أصبحنا من عباقرة ازدواجية الخطاب وانفصام الشخصية السياسية، حيث نغنّي أنشودة الديمقراطية ودولة الحق والقانون وسلطة الشعب والشفافية أمام العالم وعلى شاشات التلفزيون ونعيث في الأرض فسادا حين نواجه الواقع. ثنائية العام والخاص التي نجدها في سلوكنا السوسيولوجي اليومي تجد صدى كبيرا لها في سلوكنا السياسي الانتخابي. الكثير يقول: وماذا عسى الدولة أن تفعل؟ إنها تضع القوانين ولا تتدخل في الانتخابات؛ ما عدا ذلك فمن الصعب عليها أن تضبط من يبيعون ويشترون في الانتخابات وهم في حالة تلبس. هذا صحيح، ولكن الدولة تعرف السماسرة وكيف يعملون وتعرف السياسيين الذين يعتمدون على شراء الذمم، وأدنى ما يمكن فعله هو ضبط تحركات السماسرة وتنبيه المرشحين المحليين. لماذا يتم الضغط على بارونات المخدرات والمافيوزات بألا يترشحوا ولا يتم الضغط على السماسرة الذين يستعملون بيوتهم ونساءهم عشية ويوم الانتخابات لتنظيم وشراء آلاف الأصوات؟ هل تظن الدولة والحكومة أن من أنفق ملايين الدراهم لكسب رئاسة مجلس أو مدينة سيكون همه هو خدمة مصالح المواطنين؟ هناك كذلك من يقول إن الأحزاب مكرهة على استعمال المال لأنه إن لم يفعل بعضها فسوف يجد نفسه أمام نتائج لا تؤهله للعب دور مهم في تسيير الشأن المحلي وتسيير الحكومة. في النهاية، يقول هؤلاء، ما يهم هو عدد المستشارين وعدد رؤساء الجماعات وعدد المجالس الإقليمية ومجالس الجهة والغرف التي تتحكم فيها. في النهاية لا يتم إبعاد حزب لأنه استعمل المال ولا يتم حتى نعته بفاسد ولا تتم الإشادة بحزب لأنه قاد حملة نظيفة. حتى من كانوا تقدميين إلى وقت ليس بالقريب، ولكن ليس بالبعيد كذلك، صاروا من رواد مقولة سلطة المال. يحكى أن أحد السياسيين «التقدميين» الذين ألهموا الأجيال في أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات والذي بعد تقلده مناصب وزارية إبان التناوب و«قلب الفيستة» بطريقة لا نظير لها، قال إبان انتخابات 2007، حين نصحه مساعدوه بأن الناخبين في دائرته مستاؤون من عمله ومن عدم وفائه بوعوده، «اتركهم ينتفضون سآتي وأشتري ذممهم في آخر لحظة»، وهو ما وقع بالفعل. التقدميون كذلك صاروا يعرفون من أين تؤكل الكتف السياسية. ولكن لماذا لا تنتفض الأحزاب وعوض التعويل على الأعيان وبارونات الإفساد الانتخابي للحصول على درجة متقدمة تقرر تقديم مرشحين أكفاء، مكوّنين ونزهاء؟ الجواب بسيط، وهو أن هذا أمر محفوف بالمخاطر وغير مضمون وأن بارونات الانتخابات ستنجح تحت أي لون سياسي مهما كان. لهذا فإني أظن أن دار لقمان ستبقى على حالها. أغلبية ساحقة ستمتنع عن التصويت لأن نفس الوجوه ونفس الممارسات تبقى سيدة الموقف. أما الأقلية التي ستصوت، فجزء كبير منها سيباع ويشترى في بورصات الانتخابات التي ستنتعش ابتداء من يونيو وحتى شتنبر. لا يبدو أن هناك رغبة في الضرب على يد السماسرة ولا في تنبيه ومراقبة المرشحين ولا في ملء الهفوات التقنية المتمثلة في إمكانية الحصول على ورقة التصويت أو شراء العاملين في مكاتب الترشيح، بمن فيهم ممثلو الأحزاب الأخرى، أو تهريب المستشارين وحجزهم حتى يوم التصويت على الرئاسة... آنذاك، لا يجب أن تصيبنا الحسرة والندم؛ آنذاك لا يجب علينا أن نتساءل لماذا لم يصوت الشباب ولم يترشح المتعلمون والمثقفون ولماذا وصلت نسبة الامتناع عن التصويت إلى 60 أو %70، اللهم إذا كنا نبحث عن موضوع يشغل بالنا وبال صالوناتنا وصفحات جرائدنا لفترة قبل أن نخوض غمار انتخابات أخرى نستعمل فيها نفس الوسائل ونفس المقاربات.