خص إدموند بورك هذه المسألة بتحليل عميق في كتابه «تمهيد الحماية بالمغرب»، فتحت عنوان عصر الوكلاء التجاريين (The era of the Traveling selesmen) سجل أن الفشل في التدبير الحكومي لما بعد سنة 1900، يعود لانعدام الكفاءة لدى السلطان الشاب عبد العزيز، إذ قدم الباحث «بورك» المولى عبد العزيز في صورة الشخص عديم التجربة والساذج، الذي كان ضحية عديمي الذمة من السماسرة والمحتالين الأوربيين، الذين كانوا وراء توريطه في تبذير خزينة الدولة لاقتناء مختلف المخترعات الأوربية غير المجدية، والتي كان ينقلها وكلاء تجاريون إلى المشور بوفرة وإسراف (دراجات هوائية، سيارات، زوارق بمحركات، بلغت قيمتها 30 مليون فرنك بين سنتي 1900و 1903)، كل ذلك أدى إلى استنفاذ موارد الخزينة، فكون عبد العزيز، يضيف بورك، كان ضعيفا ومبذرا هي حقيقة لا غبار عليها، لكن هذه القراءة تنزع للتبسيط واختزال تفسير التقهقر العام الذي عرفه المخزن العزيزي لعامل واحد. وبالمقابل يؤكد الباحث أن التيارات الكبرى للعصر، وهي الإمبريالية، والتغلغل الرأسمالي الأوربي، والصراعات السياسية، وتأثير الأفكار «الإصلاحية» التي تزايدت بالمغرب هي التي ساعدت في تراجع مكانة الدولة المغربية بعد سنة 1900. للحصول على مساعدة الأموال الأجنبية، مر المخزن من وساطة الدور التجارية بطنجة، التي كان وكلاؤها كثيرو التنقل إلى البلاط حيث كانوا معروفين، وكانت هذه الدور تمثل مختلف مجموعات الرأسمال الأوربي. وبجلبها المبيعات للحكومة الشريفة أنذرت باقتراب ساعة الاقتراض، وفرضت وساطتها. وكان بنكان يهوديان يحتلان مركز الصدارة في سوق طنجة. أولهما موسى برينتي، الذي كان تحت الحماية البريطانية، ويعمل تقريبا منذ تأسيسه سنة 1844 مع انجلترا فقط، مستندا بالدرجة الأولى إلى البنك الإنجليزي المصري بلندن وجبل طارق. والثاني موسى إسحاق ناحون، وكان تحت الحماية الإيطالية، وعلى علاقة بإسبانياوفرنسا على وجه الخصوص. وكان يمثل بنك إسبانيا و»الكريدي ليوني». فضلا عن هذين البنكين انضمت ثلاث دور أوربية إلى مانحي القروض المخزنية وهي: الدار الألمانية هيسنر يوهاكيمسون، والداران الفرنسيتان برانشفيك وشارل كوتش وشركاؤه. تأسست دار هيسنر في السبعينيات من القرن التاسع عشر، وسرعان ما أصبحت من أقوى الدور بالمغرب. ورغم أنها كانت وكيلا لعدد من الشركات الملاحية الألمانية، إلا أنها تخلت تدريجيا عن التجارة لتهتم بالعمليات المالية مع حكومة المخزن. وباعتبارها ممثلة لشركة «كروب» فإنها كانت أحد المزودين الدائمين بالعتاد الحربي، كما شاركت بصفتها وكيلا عاما في المغرب ل»الدويتش بنك» منذ سنة 1897 في عقود سك العملة، وكان من أهم المشتغلين معها يهودي مغربي تحت الحماية الألمانية اسمه بنحاس طوليدانو، الذي ينتمي لإحدى الأسر الغنية التي تربطها علاقات وثيقة بالبلاط السلطاني. كما كان هناك وكيل تجاري عبري آخر، وهو بنجمان برانشفيك، الذي استقر بالمغرب منذ سنة 1875 ممثلا لمؤسسة إيريني برون من سان شامون وليون، وفضلا عن داره التجارية في طنجة كان يتوفر على مؤسسة في الدارالبيضاء بالاشتراك مع يهودي مغربي تحت الحماية المغربية هو سالفدور حسان قنصل البرتغال بطنجة، وممثل دار جول فيل من مرسيليا، إذ أقام هذا الأخير مراكز لوكالته أيضا في كل من فاس ومراكش ووكالات في ليون ولايبسيك، مكلفة بتنفيذ عقود المقتنيات لفائدة المغرب المستوردة من فرنسا وألمانيا. وتكمن أهمية وكالة اليهودي برانشفيك في علاقته الوطيدة بالمخزن بحكم مساهمتها في الشركة الحاصلة على تفويض التبغ والكيف، كما كان الابن جورج وثيق الصلة بحاشية السلطان عبد العزيز، التي كان يتردد عليها كثيرا بالبلاط، متعاقدا على صفقات تجاوزت 500000 فرنك سنويا. أما شركة شارل كوتش وشركائه التي أنشئت في فبراير 1892 برأسمال 100000 فرنك من قبل جول جالوزو مؤسس «مخازن البرانتان»، فهي تعد وريثة المؤسسات التي أقامها جالوزو في طنجة منذ 1887. ونوع شارل كوتش بمساعدة صهره وشريكه فاباريز أنشطته الاقتصادية، من أنشطة صناعية ومستودع للفحم، مع تمثيل شركات الملاحة وشركات التأمين ودور تجارية في بوردو ومرسيليا. مقيما وكالات لشركته في كل من طنجة والعرائش والقصر الكبير وتطوان والجديدة ومراكش. وكانت لهذه الدار علاقات وثيقة ودائمة مع المخزن وحصلت منه على عدة أوامر لاقتناء العتاد الحربي منذ 1899، كما تضاعفت مبيعاتها بعد وفاة الصدر الأعظم باحماد. إذ بمساعدة الجاي، وهو كاتب وزير الحرب مولاي المهدي المنبهي، حرص فاباريز على جعل الصناعة الفرنسية تستفيد من نزوات السلطان، وإلحاق مجموعة من الفرنسيين ببلاط المولى عبد العزيز»قادرين على إرضاء السلطان وشحذ شغفه بالأشياء الصناعية بقصد التمهيد شيئا فشيئا لصفقات أضخم»، كان أهمهم : صانع الشهب ابراهام والمهندس كروزو بوسو وعدد من الميكانيكيين وكهربائيين اثنين ومصور هو كابرييل فير. وشكلت وفاة الوزير القوي باحماد فرصة ذهبية لهؤلاء الوكلاء، لأن العاهل الشاب ما أن استقل بنفسه حتى أطلق العنان لميله للإسراف، واجتهد حينها الوكلاء التجاريون الغربيون وأعوانهم المغاربة في جلب المزيد من المقتنيات والألعاب للقصر. مغرقين بذلك الخزينة في دوامة من السلفات بغرض الضغط لاحقا على السلطان بمناسبة سداد الديون، للحصول امتيازات صفقات التجهيز أو إقناعه بجدوى قروض كبيرة، التي جنى من خلالها الوكلاء التجاريون عمولات ضخمة.