في وسع المراقب للشأن التركي أن يلمس الجذور الثقافية لتعاظم مكانة الجيش في تركيا، حيث تحض الثقافة التركية على الاحترام الشديد للعسكر و المبالغة في تقديرهم، لحد النظر إلى رجال الجيش بوصفهم غزاة فاتحين وصناع مجد هذا البلد على مدار التاريخ إلى الحد الذي يحض غالبية الآباء الأتراك على مداعبة أطفالهم متمنين لهم أن يصيروا «باشوات»، أي جنرالات في الجيش التركي العظيم. غير أن هناك أيضا من الركائز الموضوعية وراء قوة ونفوذ الجيش سياسيا، من أبرزها: وقوع تركيا في منطقة هشة من الناحية الجيو- سياسية كتلك التي تعرف بمثلث الأزمات البلقاني – القوقازي-الشرق أوسطي، فرض عليها ضرورة المضي بغير كلل في نهج تحديث وتطوير قواتها المسلحة لتكون قادرة على تحمل مسؤولية صيانة المصالح والتطلعات الإستراتيجية للدولة التركية إلى جانب الدفاع عن وحدة وتماسك أراضيها ومواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية التي قد تلحق بها. الأمر الذي جعل من القوات المسلحة التركية ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بعد الولاياتالمتحدة وثامن أكبر جيش في العالم من حيث عدد الجنود الموضوعين في الخدمة، إذ يبلغ عدده 514 ألف جندي في الخدمة و380 ألفا في الاحتياط. حرص الجيش التركي على الاضطلاع بدور عالمي مؤثر يعزز نفوذه الداخلي ومكانته الإقليمية، حيث شارك منذ الحرب الكورية (1950-1953) وحتى اليوم في عدد من مهام حفظ السلام العالمية سواء تحت مظلة الأممالمتحدة أو الحلف الأطلسي، وذلك من خلال المساهمة في مهمات قتالية أو أنشطة المحافظة على الأمن والسلم الدوليين. ومنها على سبيل المثال: الصومال (1993-1994)، البوسنة (1993-1994) ثم من العام 1996 وحتى اليوم، لبنان منذ نهاية العام 2006 وحتى اليوم ضمن قوات يونيفيل التابعة للأمم المتحدة، ألبانيا منذ العام 1997 وحتى العام 2001، ثم كوسوفو العام 1999 وحتى اليوم، أفغانستان عامي 2002 و2003، ومن 2005 حتى اليوم بما يقارب 1800 جندي. هذا علاوة على القيام بمهام لوجيستية مهمة لمساعدة القوات الدولية المرابطة في أفغانستان. لا يتوانى الجيش عن الاضطلاع بأعمال الإغاثة والإنقاذ خاصة إبان الكوارث الطبيعية كالزلزال الذي ضرب تركيا في العام 1999، ثم خلال الفيضانات التي تعرضت لها المناطق المحيطة باسطنبول في شهر مارس/آدار من العام2009، حيث أبلت القوات المسلحة بلاء حسنا فيما يتعلق بأعمال البحث والإنقاذ والإيواء واتخاذ الإجراءات المناسبة للتقليل من تداعيات تلك الكوارث. علاوة على المشاركة في إرسال المساعدات وطائرات الشحن والدعم بقيادة الناتو الى المناطق المنكوبة حول العالم جراء كوارث طبيعية، مثل كارثة كاترينا في الولاياتالمتحدة العام 2005، زلزال باكستان المدمر العام 2005، ثم الإسهام في عمليات غوث اللاجئين في دارفور. يشكل الدعم الغربي، خصوصا الأمريكي، أحد أبرز مصادر قوة ونفوذ الجيش سياسيا، فباعتماد تركيا التعددية الحزبية وإجرائها أول انتخابات ديمقراطية في العام 1950، اكتسبت علاقاتها بالغرب أبعادا جديدة ومهمة، لاسيما بعد أن صارت عضوا في حلف شمال الأطلسي وعنصرا أساسيا في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي السوفيتي، إذ أسهم ذلك في دعم دور العسكر في الحياة السياسية بعد أن نظرت واشنطن وعواصم الناتو إلى تركيا كحليف استراتيجي، ولم تتوان في دعم جيشها حتى أصبح أكبر جيش في الناتو بعد الجيش الأمريكي، كما حظي القادة العسكريون الأتراك، الذين أثبتوا بدورهم وفي العديد من المناسبات وفاءهم لواشنطن بمساندة ملموسة من الأمريكيين، الذين جنحوا لتأييد جميع الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا وتفننوا في التماس الأعذار لمدبريها وإبداء التفهم لمقاصدهم. .. ولكن قبل كل هذه الأسباب، التي تمثل مصادر قوة ونفوذ الجيش سياسيا، يبقى المصدر الأول للقوة هو «رئاسة الأركان العامة للجيش» الذي يتمتع بوضع خاص في الدستور التركي، ففي جميع الدول تكون رئاسة الأركان العامة للجيش مرتبطة بوزارة الدفاع وبوزير الدفاع، وتتم جميع التعيينات والترقيات والإحالة إلى التقاعد، أو الفصل من الجيش من قبل هذه الوزارة. غير أن المؤسسة العسكرية التركية –التي يرأسها رئيس الأركان –لا ترتبط بوزارة الدفاع، بل برئيس الوزراء من الناحية الشكلية والنظرية فقط، وإلا فهي مؤسسة مستقلة قائمة بذاتها، وتقوم باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالجيش من تعيين أو ترقية أو طرد أو شراء أسلحة، دون أن يكون لوزير الدفاع أو لرئيس الوزراء أي علاقة أو تأثير على هذه القرارات، وان كان لهما حق الموافقة الشكلية عليها. نصف قرن من الانقلابات كان عام 1923 نقطة تحول في تاريخ الإسلام عموما وتركيا على وجه التحديد، ففي ذلك التاريخ وبطريقة ديمقراطية جدا ومن داخل البرلمان العثماني صدر قرار إلغاء نظام الخلافة وقيام الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وعبر السنين واصلت الجمهورية الجديدة استخدام سياسة الحديد والنار، وظل حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك يحكم تركيا حتى عام 1945 برئاسة عصمت إينونو وريث أتاتورك وشريكه في مناورات إسقاط الخلافة، وفي نفس العام اتخذ أحد نواب هذا الحزب في البرلمان قرارا بالخروج من الحزب وتشكيل حزب جديد مع عدد من زملائه، كان هذا النائب المتمرد هو عدنان مندريس، وكان اسم الحزب الجديد هو الحزب الديمقراطي، ولم تمض بضعة أعوام حتى فاز حزب مندريس بأغلبية ساحقة مكنته من الحكم عام 1950، ولم تكن أهم وعود حملته الانتخابية تتجاوز سقفا غاية في التواضع، حيث انحصرت في أن يعود الأذان باللغة العربية بدلا من التركية، وأن يسمح للأتراك بقراءة القرآن باللغة العربية كما أنزل على رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يكد عدنان مندريس يتولى الحكم حتى شرع في تنفيذ وعود حملته الانتخابية، كما سمح بإعادة فتح أول معهد لتدريس علوم الشريعة إضافة إلى بعض مراكز تعليم القرآن الكريم. استمر مندريس يحكم لمدة سبعة أعوام. وبالرغم من النجاحات الاقتصادية والتنموية التي تحققت في عهده، إلا أن القوى العلمانية الرافضة لتوجهاته قامت بالتجمع وتأليب الجيش والتظاهر وإثارة أعمال الشغب، الأمر الذي أدى إلى تحرك الجيش ومن ثم شاهد العالم الانقلاب العسكري الأول في تركيا يوم 27 مايو/أيار عام 1960، بعدما وجهت إليه اتهامات بتوسيع هامش الحرية للقوى الدينية والسعي للتقارب مع الاتحاد السوفيتي السابق، ورغم أن مندريس لم يكن في الأصل إسلاميا فإن مجرد محاولته تخطي شكل العلمانية الذي شرعه أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه. وبعد عام واحد فقط وبانتخابات (ديمقراطية) عاد حزب الشعب الجمهوري للحكم وعاد عصمت إينونو يحكم من جديد، وفي عام 1965 وفي انتخابات نيابية فاز حزب جديد هو حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل، الذي اشتهر بلقب «ملك السدود» إذ تخصص في هذا المجال واكتسب بسبب نجاحاته الهندسية شهرة كبيرة لعبت دورها لاحقا في صعود نجمه السياسي، وكان من زملائه في الجامعة كل من تور غوت أوزال ونجم الدين أربكان، انشغل ديميريل بالتنمية وبناء الطرق والسدود وتطوير الصناعة، واستمر يحكم حتى 1970، ثم فقد الحكم بسبب صراعات الإسلاميين حول الأحقية في وراثة حزب مندريس، ليأتي الانقلاب الثاني في 12 مارس/آذار 1971، لحماية المصالح الأمريكية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية التي تصدت لها القوى اليمينية، الإسلامية والقومية، بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التي كانت تتخوف من أن يتحول التيار اليساري إلى قوة مؤثرة في الشارع التركي، خاصة بعد أن قام اليساريون الذين تدربوا في مخيمات المنظمات الفلسطينية في لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الأمريكية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلي في اسطنبول. وفي خضم فترة من عدم الاستقرار السياسي في عام 1973، حدث التحالف الأول من نوعه بين نجم الدين أربكان الإسلامي وبولنت أجاويد الأتاتوركي، وحينما تصاعدت الأحداث في جزيرة قبرص واشتد النزاع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين وبدأت تباشير الحرب الأهلية، والتي كانت ستؤدي إلى إبادة وتهجير العنصر التركي الأمر الذي كان يعني نهاية وجود المسلمين في الجزيرة، في تلك الفترة الحرجة والخلافات السياسية تعطل تشكيل الحكومة، قفز نجم الدين أربكان فوق كل التوقعات ليتحالف مع حزب الشعب الجمهوري وريث الأتاتوركية بقيادة بولنت أجاويد من أجل تشكيل الحكومة للخروج بالبلاد من حالة الفراغ الدستوري، وحالما تشكلت تلك الحكومة فإن أول قرار اتخذته كان إنزال الجيش التركي في قبرص الأمر الذي أدى إلى إنقاذ الأقلية التركية في الجزيرة وإلى قيام جمهورية قبرص التركية.