رغم تلاقي المؤسّسة العسكرية على رفض مثل هذه المبادرات، إلى جانب حزبَي الشعب الجمهوري والعمل القومي، فإنّ أردوغان يُصرّ على دمج الأكراد بصورة كاملة في بنية الدولة التركية، ووضع حدّ للعنف الكرديّ، الذي يثير بدوره عنفا تركيا. وفي هذا السياق، يقول عدد من الخبراء في العلاقات التركية -الكردية إن تركيا رصدت في الفترة الأخيرة تطورات ميدانية في مناطق التماس بين إقليم كردستان العراق ومناطق الوسط العراقي تنذر باحتمال تفجّر حرب أهلية جديدة وشيكة بين العرب والأكراد، بعدما بلغت الخلافات بين أربيل وبغداد ذروة التوتر، ومن شأن العودة إلى الحرب الأهلية إحداثُ بلبلة حقيقية في الداخل التركي وفي منطقة كردستان تركيا بصورة خاصة. ويبدو أنّ التحرّك التركي الجديد يأخذ في الاعتبار مجموعة عوامل ضاغطة لعلّ أبرزها: -عامل الانسحاب الأمريكي من العراق، الذي سوف يبلور مشهدا سياسيا وأمنيا متحرّكا، على أساس توازُن القوى بين شيعة الجنوب، سنة الوسط، وأكراد الشمال؛ -عامل النزعة المركزية الكردية والتشدّد الإثنو -ثقافي والإثنو -غرافي لأكراد الشّمال العراقي لجهة المضي قدما في مشروع إقليم كردستان؛ -عامل صراع السلطة -الثروة، ومخاوف من أن يتفاقم تأثيره، بما يؤدي إلى الحرب الأهلية العراقية، على غرار نماذج الحروب الأهلية، التي سبق أن اندلعت في أفغانستان بعد خروج القوات السوفياتية، وفي أنغولا بعد خروج القوات البرتغالية، وما شابهها من الحروب الأهلية التي اندلعت بعد خروج القوات الأجنبية منها. نعود إلى المبادرة الأردوغانية، لنقول إن الحكومة التركية نجحت في استباق خطة عبد الله أوجلان التي تحتوي على النقاط الآتية: -إعلان هدنة دائمة متبادلة بين تركيا ومنظمة حزب العمال الكردستاني. -إعداد دستور ديمقراطي جديد يأخذ في الاعتبار حقوق الأكراد وحرياتهم. -تشكيل لجنة تقصي حقائق بشأن الجرائم الغامضة التي ارتكبت في حق الأكراد في جنوب شرق الأناضول، ولم يتم التوصل إلى تحديد منفذيها. -منح حق التدريس باللغة الكردية والسماح بفتح مدارس كردية. -منح عناصر حزب العمال الكردستاني من الذين غادروا معسكراتهم حق العمل السياسي. -إلغاء الدولة التركية نظام حرّاس القرى، ومعظمهم من المواطنين الأكراد الذين يقاتلون إلى جانب الدولة التركية والجيش التركي ضد عناصر حزب العمال الكردستاني. -تشكيل «لجنة حكماء» في تركيا تعمل على تقديم مساهمات في مجال حل المسألة الكردية. -تشريع قانون يفسح المجال أمام الكوادر المسلحة لمنظمة «حزب العمال الكردستاني» ونبذ السلاح وترك المعسكرات على أن لا يندرج هذا القانون ضمن مسميات «العفو العام». وهكذا تبقى المسألة الكردية موضوعا شائكا ربما سيتطلب سنوات عدة قبل الوصول إلى حل نهائي له. كما أن المنحى الذي سيسلكه هذا الحل سوف تظهر ملامحه النهائية حسب النشاطات السياسية للأطراف المعنية بهذه القضية. وبما أن الطرح الأمني التقليدي الذي ميز سياسات الدولة السابقة قد وصل إلى الباب المسدود، ومع كل ما جره ذلك من تبعات ومصادر لزعزعة الاستقرار الاجتماعي السياسي للبلاد، فإن مبادرة حزب العدالة والتنمية جاءت كخيار سياسي جديد يسمح بمزيد من التحرك السياسي ويضمن استمرار التعددية الشاملة للمجتمع التركي. فموقف الحزب الداعي إلى المزيد من الإصلاح الديمقراطي في التعاطي مع المسألة الكردية سوف يعزز من موقفه على الساحة السياسية الداخلية ويظهره بمظهر الحزب المؤيد للتغيير السياسي. بعبارة أخرى، فان حزب العدالة والتنمية استطاع بمهارة أن يجعل من مسألة أمنية شائكة ومعقدة فرصة لتحقيق رؤية تعددية تضمن استمرارية الوحدة القومية. وبينما سيكون علينا الانتظار لبعض الوقت لنرى ما إذا كانت مبادرة الإصلاح الديمقراطي التي ينادي بها حزب العدالة والتنمية سوف تؤتي ثمارها، استطاع هذا الحزب بالفعل أن يترك بصمته في كيفية التعاطي مع المشاكل الاجتماعية السياسية في تركيا. فهذا النوع من المشاكل يتطلب خيالا سياسيا خصبا قادرا على تعزيز التعددية العرقية داخل إطار من الوحدة القومية، ويجعل من هذه التوليفة الحل الأمثل للحفاظ على الوحدة الوطنية لتركيا. فما من شك أن هذا هو السبيل الوحيد لخلق مستقبل مشرق قادر على تخطي كل تلك الصعاب، مع التركيز على أن مستقبل الجميع واحد وأن هناك ذاكرة جماعية توحد صفوفهم وتجعل منهم دولة واحدة وشعبا واحدا يعيش على أرض واحدة. «الفتى الشجاع» يهزم العسكر يوما بعد يوم بدأت تركيا تتغير وتنفض عنها الثوب التغريبي الطارئ لتعود إلى أصولها معتزة بهويتها وبحضارتها وبمكانتها التاريخية بين أمم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وحتى أوربا.. هذه هي تركيا الجديدة التي يقودها بسياسة تثير الإعجاب، رجب طيب أردوغان «الفتى الشجاع» كما يعني اسم أردوغان في اللغة التركية («أر» تعني القوى أو الشجاع، و»دوغان» تعني الطفل أو الفتى)، وقد أصبح مثارا للجدل، ليس في بلاده فحسب. ورغم أن المعجبين بشخصيته يزداد عددهم من موقف إلى آخر، فإن منتقديه ينحسرون ويتقهقرون، ففي تركيا أصبح هذا الرجل هو النجم الأول، ويذهب كثير من الأتراك إلى أن البلاد لم تعرف بعد زعيمها التاريخي مصطفى كمال أتاتورك رجلا مثله، وزاد آخرون بالتأكيد أن أردوغان استطاع دون أن يطلق رصاصة واحدة أو يقوم بانقلاب، أن يطيح ب»صنم» أتاتورك، وينال من مؤسسة الجيش التركي الحارس الأمين والمدافع الأول عن مذهبه العلماني المجلل بالقداسة كما يقولون. بيد أن ردة فعل الجيش التركي المعروف بقوته وسطوته في البلاد، لا تزال مجهولة بعد. في الوقت الذي حاولت فيه أن تحذره برسائل مختلفة أبرزها وأخطرها، كان في شهر ابريل/نيسان 2007، عندما كان حزب العدالة يحاول انتخاب عبد الله جول رئيسا للجمهورية، حيث بعثت المؤسسة العسكرية برسالة قوية اللهجة للغاية إلى طيب رجب اردوغان، أنذرته فيها من أنه قد ضل طريقه بعيدا عن التوجهات العلمانية للبلاد. أما تاريخيا، فيعرف للمؤسسة نفسها، إطاحتها بأربع حكومات منتخبة ديمقراطيا، منذ تأسيس دولة تركيا الفتية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، غير أن العامين الأخيرين قد شابهما التوتر في علاقة حكومة أردوغان بالجيش الذي ظل يعد القوة الحقيقية صاحبة القرار في تركيا منذ وصول الكماليين إلى السلطة وإلغاء الخلافة الإسلامية في عشرينيات القرن الماضي (العشرين)، وهي العلاقة التي أصبحت محل لغط بعد اكتشاف ضلوع بعض قياداته في منظمة أرغنيكون السرية، وهي التي كانت وراء الكثير من الاغتيالات وأعمال الفوضى في البلاد، خصوصا أن هناك وثيقة تابعة لهيئة الأركان ترجع للعام 2003 تحدثت عن الإعداد لحملة اغتيالات ومظاهرات استهدفت إسقاط حكومة حزب العدالة. ولكن يبقى السؤال الذي يصعب أن تجد له إجابة يقينية على الإطلاقهو : هل ولى زمن العسكر؟ الواقع يقول إن هناك عددا كبيرا من الضباط الأتراك يقبعون في السجون بتهمة صلتهم بمحاولة تنفيذ انقلاب عسكري (منظمة أرغنيكون السرية)، وهو ما تسبب في أزمة عصيبة لهؤلاء الضباط الذين يشكلون النواة الصلبة للعلمانيين الأتراك. ولربما كانت هذه النتيجة العصيبة هي ما اعتبره أردوغان التغيرات التاريخية التي تشهدها البلاد، لكن هل ولى عهد هيمنة العسكر في تركيا إلى الأبد أم إلى حين؟ .. ولربما كانت المرة الأولى التي يقوم فيها المسؤولون المدنيون باتخاذ إجراء ضد العسكريين من خلال قانون نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية في تمريره في يونيو/حزيران 2009، ويسمح بموجبه بمحاكمة الضباط العسكريين أمام محاكم مدنية، بعد أن مثل الجيش لسنوات عديدة العقبة الرئيسية أمام قيام ديمقراطية مستقرة في تركيا، في ظل إطاحته أربع حكومات منذ العام 1960 بالرغم من وجود سياسيين في المعارضة أشد تحمسا من الجنرالات للقيام بانقلابات. فهل ما يحصل من هذه السياسات، ولاسيما المصالحة مع حزب العمال الكردي، هو مشروع حكومة أردوغان أم مشروع الدولة التركية بما فيها الجيش ومؤسسات أخرى؟ وهل تمت هذه التوجهات الحكومية الخارجية بتنسيق كامل بين الجيش والحكومة رغم ما يعرف من خلافات تاريخية، أم أن الحكومة أصبحت تفرض رؤاها على قيادة الجيش؟