قبل أربع سنوات غادرَنا عبد الفتاح الفاكهاني، بعد أن ترك إحدى أكثر الشهادات صدقا حول سنوات الرصاص: «Le couloir»، كتاب أخذ فيه مسافة محترمة مع «تجربة الحلم والغبار» كما سماها عبد القادر الشاوي. الفاكهاني ابتعد بما يكفي في الزمان والمكان وفي رأسه، كي يرى الماضي بلا أوهام، كما لو كان يشاهد شريط حياته في التلفزيون ويبتسم، ومن صفحة إلى أخرى نسمع أنينا مكتوما بين السطور. الشابّ المراكشي ضيعته العاصمة. جاءها طالبا في نهاية الستينيات وغادرها قياديا في منظمة «إلى الأمام». بمجرد ما أنهى دراسته في مركز تكوين الأساتذة، أصبح مدرسا للغة الفرنسية في خريبكة. وفي صباح 8 مارس 1972 أوقفته الشرطة والطباشير في يده، كما يتذكر تلاميذ إعدادية ابن مالك. قضى عاما في السجن، وحين خرج وجد نفسه قياديا في «إلى الأمام» جنب أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي وبقية الشلة، وكان عليه أن يختار بين المنظمة السرية وزوجته، والثورة خصم الحب أحيانا. عام 1977، ألقي القبض على الفاكهاني ثانية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، هذه المرة بتهمة «التآمر والمس بأمن الدولة»، مع عامين إضافيين وخمسة آلاف درهم كغرامة بتهمة «التطاول على القاضي». بعد خمسة عشر عاما، عندما غادر السجن مفلسا وبلا عمل، فكر في الغرامة وتنفس الصعداء: «لحسن الحظ أنني لم أعد مطالبا بدفع الخمسة آلاف درهم لمحكمة الدارالبيضاء، لقد أسقطها العفو الملكي الذي لم أطلبه»... بدل البطولات الورقية، يتأمل الفاكهاني ندوب الروح وهشاشة الكائن البشري دون تمجيد زائف. في «درب مولاي الشريف» يعترف تحت التعذيب الوحشي، ويعطيهم الأسماء والعناوين: «لم أعش في حياتي إهانة كهاته. الأنكى أنني أنا شخصيا من ألّف منشورا صغيرا حول الصمود أثناء التعذيب!». وحين يغادر السجن يرتبك وسط الحشود: «هناك أناس كثيرون في المدينة. أشعر بالخوف. كيف يمكن أن أشق طريقي بينهم؟ في أزقة مراكش المكتظّة، أمشي بخطوات بطيئة خشية أن أصطدم بالمارة». لا يريد الفاكهاني أن يصنع من نفسه بطلا كما يفعل كثيرون، لقد عاش تجربة وقرر أن يرويها للأجيال وللتاريخ، وللابن الذي أنجبه على عجل بعد خروجه من المعتقل، والذي ظل يسأل ببراءة كلما رأى أقدامه الخشنة: «ما الذي جعل أصابع رجليك هكذا؟ وما هذه العلامات على راحة قدميك؟». وكي لا يلطخ براءته، يستعيد لوحده حصص التعذيب في «درب مولاي الشريف» على يد اليوسفي قدّور وبقية وحوش مغرب الرصاص. الفاكهاني يذكر أسماء الجلادين نكاية بتوصيات «هيئة الإنصاف والمصالحة»، ويستحضر الرفاق في سجن القنيطرة، وعلى رأسهم الراحلين إدريس بنزكري وأبراهام السرفاتي، الذي حيى «وحدة الشعبين المغربي والصحراوي» وأشاد ب»الجمهورية العربية الصحراوية» أثناء محاكمة 1977، رغم أن كثيرين لم يكونوا متفقين معه، لكن مواقف الزعيم ملزمة ولا أحد تجرأ على مخالفتها، ما جعل الأحكام على قدر بالغ من القساوة. في «الكولوار»، يقدم الفاكهاني بورتريهات بعض الفنانين والكتاب كما عايشهم داخل السجن: محمد شبعة الذي كان يرسم خطوطه التجريدية في الزنزانة ويعطي المعتقلين دروسا في الخط العربي، وعبد اللطيف اللعبي «الشاعر الحالم» وحكاياته مع معتقل طريف ينحدر من أزرو اسمه احساين، وعبد القادر الشاوي الذي شارك معه في معرض تشكيلي داخل السجن، مازال الفاكهاني يحتفظ بالدفتر الذي كتب فيه الرفاق انطباعاتهم عن لوحاتهما، وبوسيف الركاب الذي عرّفه بعد خروجهما من السجن على زوجته خديجة التي سيعيد ترميم حياته معها... عام 1989 غادر الفاكهاني السجن، لكن السجن لم يغادره. قضى شهورا في مراكش بلا عمل، قبل أن يحزم حقائبه عائدا إلى الرباط، حيث تدبّر شغلا في الصحافة: متعاون مع جريدة «العلم»، يترجم مقالات يتم قياسها بالسنتمتر آخر الشهر. بعد أربع سنوات، كان لا بد أن يصفق الباب وراءه، لينتهي به المطاف في «وكالة الصحافة الفرنسية» مع إينياس دال الذي لن ينسى المغرب الحر دوره في مساعدة ضحايا سنوات الجمر، ما تسبب في طرده من الرباط. لم يفقد الفاكهاني صوته السياسي في «الكولوار»، كل ما في الأمر أن نبرته أصبحت مغرقة في الحكمة، وبقي متفائلا رغم كل شيء. حينما سأله ابنه في نهاية الكتاب: «هل ترى اليوم أن الأمور صارت أفضل؟»، ردّ عليه بلا تردد: الحرية أفضل شيء في الحياة يا ولدي...