ونحن في مقتبل العمر ألفنا مجموعة من الوجوه كانت حاضرة على الدوام لتذكرنا بحقيقة المأساة والعزلة التي كنا نعيشها، فمن منا لا يتذكر «مامي» وهي تنتشي بسيجارتها من نوع «فافوريت» وتقول : «حن يا حنّان».. ومن منا لا يتذكر «حمّو الكرّاب» ومغامراته التي لا تنتهي مع الزبائن.. ومن منا لا يتذكر أيضا «عمي مكي»، الذي كان يُحضر لنا عددا متنوعا من الأكلات الخفيفة والحلويات بأثمنة بخسة أمام مؤسساتنا التعليمية.. ومن منا لا يتذكر «نوعا» ذلك الفتى الأشقر الجميل الذي كان يحسن السباحة، والذي كان يعيش واقعا يصنعه بنفسه ولنفسه بعيدا عن حماقات المجتمع الذي كان يحتضنه.. ومن منا لا يتذكر مقهى «قرطبة» لصاحبها «سي لحسن»، التي كانت المتنفس الوحيد للساكنة في غياب المؤسسات الثقافية والترفيهية.. ومن منا لا يتذكر جمعية «أعن أخاك»، التي كانت متنفسا فريدا من نوعه من أجل التحصيل والمعرفة والتنوير. أما الوجه الجميل لهذه الأحياء المهمشة فكان هو التضامن الاجتماعي العفوي لساكنته. فمن منا لا يتذكر الناس الطيبين الذين ألفناهم بيننا، والذين كانوا يمدوننا بالعطف والحنان والأمان في زمن القهر والخوف والمعاناة. نتذكر «الحاج الحمري» وطيبوبته، الفقيه الحكيم الذي تتلمذت على يده وعمري لا يتجاوز الرابعة بأحد مساجد الحي، ثم والدي «الحاج بن الطيبي»، وعائلة «فاطنة بوشعيب»، وعائلة «فريحة»، وعائلة «لكبير»، وعائلة «مهيدرة»، وآخرين. كانوا جميعا يتصارعون من أجل البقاء. نتذكر، حين كنا صغارا، كانت بيوت الحي كلها بيوتنا، وكانت أمهات الحي كلهن أمهاتنا، وكان آباء الحي كلهم آباؤنا. كنا نعيش حياة جميلة، رغم قساوتها، فأين نحن من هذه الحياة اليوم؟ في يوم ليس كباقي الأيام، وعمري لم يتجاوز حينها التاسعة، قررت منظمة الكشفية المغربية فتح فرع لها بحينا، وهي تابعة، كما هو معروف، لحزب الاستقلال. انخرطنا بكل عفوية فكان الدعم والتأطير حاضرين، خاصة في ظل الفراغ القاتل الذي كانت تعيشه الساكنة على جميع المستويات، فكانت فكرة الانخراط صائبة. كان الزمن منتصف السبعينيات. انخرطت بداية كجرموز، كنا نطوق أعناقنا بمناديل حمراء ونشارك في اجتماعات مثل الراشدين، نتأطر من خلالها ونردد مجموعة من الأناشيد كنشيد الكشاف الذي يقول: «نحن بنوا كشفية، نحن بنوا كشفية مغربية، دوما نعمل بجد في كل ناحية...». كان الجرموز بعد أن يتقدم في السن يصبح كشافا، وبعد ذلك رائدا، ولن يتم هذا إلا بعد عملية التوشيح. فعلا كانت منظمة الكشاف المغربي فضاء ترفيهيا وتأطيريا بامتياز؛ فشكرا للذين أطرونا، شكرا لنور الدين الزمراني، وشكرا لنور الدين المرابط، وشكرا لحسن المرابط، وشكرا للصنهاجي، والحداوي، وآخرين... من حسن حظنا كذلك أننا كنا ندرس في مؤسسات تعليمية عمومية ذاع صيتها وطنيا وأفرزت مجموعة من الأطر الوازنة، التي لها الآن مكانة متميزة داخل المغرب وخارجه، ومن بين هذه المؤسسات التعليمية مدرسة «عمر بن عبد العزيز» الابتدائية، ومدرسة «التقدم» الابتدائية أيضا، وإعدادية «التقدم» المعروفة الآن بإعدادية «عمرو عالم»، وثانوية «دار السلام» الغنية عن التعريف. فعلا كانت مؤسسات نموذجية، سواء بالنسبة لمناهجها التعليمية أو أطرها المحنكة، فكانت الحكامة في هذه المؤسسات ظاهرة للعيان. بعد سنوات تأثرت بالفكر الاشتراكي، خاصة بعد انخراطي في المركز الثقافي للاتحاد السوفياتي سابقا بالرباط، فكنت جد مقتنع بهذا النظام السياسي من خلال أدبيات الفكر الماركسي وما حققته الثورة البلشفية من انتصارات ضد الظلم والقهر والميز، وهذا ما دفعني إلى التفكير جليا في متابعة دراستي الجامعية بإحدى دول المعسكر الشرقي مستقبلا.