كغيرها من القوانين والخطط الوطنية، تطل علينا من أدراج الحكومة الفلسطينية، ودونما سابق إنذار، مخططات مكانية ترسم ملامح التنظيم المستقبلي لأراضي الدولة الفلسطينية المرتقبة على حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما بات يعرف بالمخطط الوطني المكاني. وحسب وزارة التخطيط والتنمية الإدارية الفلسطينية، فإن المخطط يأخذ بعين الاعتبار البعد المكاني في توجيه التنمية، ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، ويتضمن رسم السياسات والخطوط العريضة الموجهة لتوزيع الاستثمارات، مكانيا وقطاعيا، وتحديد اتجاهات النمو الحضري المتوقع. ويشتمل أيضا على مخطط وطني عام متكامل للطرق والمواصلات وباقي مرافق البنية التحتية الأساسية الأخرى. حسب اتفاقية أوسلو، فقد تم تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى أراضي (أ) و(ب) و(ج)، حيث تخضع أراضي (أ) لولاية السلطة الفلسطينية إداريا وأمنيا، وتشكل (17 في المائة) من مساحة الضفة الغربية، وهي مناطق التجمعات السكانية، أما أراضي (ب) فتخضع إداريا لولاية السلطة الفلسطينية، وأمنيا للولاية الإسرائيلية، وتشكل (20 في المائة) من مساحة الضفة الغربية؛ بينما أراضي (ج)، التي تشكل قرابة (63 في المائة) من أراضي الضفة الغربية، تخضع إداريا وأمنيا للسلطات الإسرائيلية. خارطة الاستيطان الإسرائيلي ومن اللافت أن (97 في المائة) من المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية مقامة على الأراضي (ج)، (تستحوذ على (82 في المائة) من مجموع العمران على تلك الأرض، ويبقى للعمران الفلسطيني (18 في المائة) منه، و(1.2 في المائة) على الأراضي (أ)، و(1.9 في المائة) منها على الأراضي (ب)، أي أن مجموع الأراضي التي يبتلعها الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية من أراضي السيادة الإدارية الفلسطينية (أ) و(ب) يقدر بحوالي (16.600) دونم، الأمر الذي يعني بكل بساطة أنه ليست هناك أرض فلسطينية خارج حسابات الاستيطان. وفقا للمخطط المكاني المقترح، فإنه سيتم تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى أراض سكنية، وأخرى خضراء، وأخرى ذات إطلالة طبيعية، وأخرى أثرية، وأخرى زراعية، حيث سيأخذ المخطط بالاعتبار احتياجات الأجيال القادمة من مساحات خضراء ومحميات طبيعية، ويمنع أي مواطن فلسطيني من البناء في تلك المساحات التي يقع معظمها في الأراضي (ج) كثيفة المستوطنات، وبعضها الآخر في الأراضي (أ) و(ب) بمحاذاة التجمعات السكانية التي لم تسلم من الاستيطان. تساؤلات مشروعة وهنا، لا بد من إثارة بعض التساؤلات المشروعة: أولا: لماذا لم تتم استشارة المجالس المحلية والبلدية بتفاصيل الجزئيات الواقعة ضمن أراضي تلك القرى والبلديات لتقليل الضرر الواقع على أصحاب الأراضي التي ستفقد، نتيجة هذا المخطط، الجزء الأكبر من قيمتها السوقية بسبب استحالة أو تعقد إجراءات البناء فيها؟ ثانيا: لماذا لم يتم إشراك خبراء من ذوي الاختصاص في مجال الاستيطان الإسرائيلي لتحييد الأراضي المهددة بالاستيطان من تلك المخططات؟ ثالثا: لماذا يتم وضع استراتيجية زراعية بعيدة المدى في الوقت الذي نفتقر فيه إلى أي استراتيجية قصيرة المدى؟ رابعا: ما هي الضمانات التي تسوقها الحكومة لمنع الاستيطان الإسرائيلي على تلك الأرض بعد منع الفلسطينيين من البناء عليها؟ ألم تكن لنا في اتفاقيات أوسلو وباريس عبرة؟ خامسا: حين يطل علينا القائمون على المشروع بتصريحات مفادها أن المناطق الخضراء الممنوعة من البناء من قبل الفلسطينيين لن تتجاوز مساحتها (4 في المائة) من مساحة الضفة الغربية، ألم يتنبه أولئك إلى أن (650) ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون حاليا على أقل من (4 في المائة) من مساحة الضفة الغربية؟ سادسا: ألم يكن من الأجدى على الجهات الأجنبية الممولة لهذا المشروع أن تبدأ بتمويل تأسيس ما نفتقده من شركات تسويق زراعي وتأمين زراعي وإقراض زراعي وبحث وتطوير زراعي، بدلا من الرهان على مخططات مكانية قد تسهّل على الجانب الإسرائيلي الاستيلاء والاستيطان على هذه الأرض؟ سابعا: هل تم الأخذ بالاعتبار الارتفاع الكبير أصلا في أسعار الأراضي السكنية في محيط المحافظات والبلديات الفلسطينية، والارتفاعات المتوقعة عليها نتيجة زيادة ندرة ومحدودية تلك الأرض التي سيتحول جزء منها إلى مساحات خضراء ومحميات طبيعية؟ لن أشكك هنا في سلامة نوايا الحكومة الفلسطينية من ذلك المخطط، لكني أشكك في نوايا المانحين وفي شمولية الرؤية لدى القائمين عليه. الجدل القائم.. عن أي مكان نتحدث؟ لا يجب أن تمر التصريحات الأخيرة لنائب وزير الجيش الإسرائيلي داني دانون حول استبعاده لحل الدولتين، وإيمان حكومته الراسخ بأن المسألة لا تعدو كونها مسألة وقت حتى تصل إسرائيل إلى التفوق الديمغرافي المنشود على أراضي الضفة الغربية، وبالتالي تحويل من سيتبقى من فلسطينيين إلى مستوطنين في تجمعات سكانية محدودة، يتولى الأردن تنظيم شؤونهم الإدارية، دون أي سيادة أمنية للأخيرة على الأرض. لا أعتقد أن المسألة بحاجة إلى تفكير أو تحليل عميق لأصل إلى نتيجة مفادها أن المخطط المكاني المزعوم قد يصب (دونما نية مبيتة) في مصلحة الخطط الإسرائيلية الاستيطانية على أراضي الضفة الغربية، عندها عن أي مكان سنتحدث؟ أشكال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مفتوحة ومتنوعة، وليس الصراع الديمغرافي بأقلها أهمية. تسجيل الأراضي هناك حقيقة على الأرض مفادها أن الاحتلال الإسرائيلي لا يستوطن أراضيَ مسجلة رسميا بأسماء أصحابها، وهي الأراضي التي اصطلح على تسميتها بأراضي (الطابو)، وهو ما حمى أراضي جنين من الاستيطان الإسرائيلي بعد أن قامت السلطات الأردنية بأعمال التسوية (الطابو) لمعظم أراضيها خلال حكمها للضفة الغربية ما قبل الرابع من حزيران عام 1967. تلك الحقيقة لا تعني بالضرورة عدم قدرة الاحتلال الإسرائيلي على الاستيلاء على تلك الأراضي بالقوة لأغراض الاستيطان، بل هي نظرة إلى الأمام بخطوات استباقية تُخرج الجانب الإسرائيلي من أي مساءلة دولية قد تتعرض لها مستقبلا في حال ما إذا تم البدء بفتح ملف الاستيطان في عملية التسوية النهائية للقضية الفلسطينية أو في حال تغيّر موازين القوى في المنطقة. ومن المؤسف في هذا الإطار أن نجد (64 في المائة) من أراضي (أ) و(ب) الخاضعة إداريا لولاية السلطة الفلسطينية، ما زالت غير مشمولة بأعمال التسوية، مما يجعل عملية تسجيلها بجهود شخصية من مالكيها أمرا شبه مستحيل نظرا إلى تعقيد الإجراءات القضائية، من جهة، وارتفاع التكاليف، من جهة أخرى. والأمر لا يختلف كثيرا في حال الأراضي (ج) الخاضعة إداريا لولاية سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث عمليات التسوية والتسجيل تتم من خلال الجانب الإسرائيلي، وبتكلفة أعلى من تكلفة تسجيل الأراضي الخاضعة لولاية السلطة الفلسطينية، مما يعني أن إمكانية تسجيل تلك الأراضي متاحة، لكن ضمن إجراءات وترتيبات أكثر تعقيدا. أولوية وطنية مغيّبة أعتقد جازما بأن عزل أجزاء من الأراضي الفلسطينية تحت اسم الأراضي الخضراء أو المحميات الطبيعية ومنع عمليات البناء فيها ضمن المخطط المكاني المقترح، في وقت لم تقدم فيه السلطة الفلسطينية أي جهد جاد على مدى العشرين عاما الماضية باتجاه تسوية الأراضي الخاضعة لولايتها وتلك الخاضعة لولاية الاحتلال الإسرائيلي ضمن حدود الضفة الغربية تحديدا، سيخدم بالضرورة مخططات الاستيطان الإسرائيلي الرامية إلى بتر كل ما يثبت وجودنا على الأرض، عمرانيا أو إجرائيا. وأعتقد جازما أيضا بأن صراعنا على الأرض يجب أن يسلّح بإثباتات الملكية للأرض للأجيال القادمة (وهو ما يجب على السلطة الفلسطينية تنفيذه من خلال محاكم تسوية نفتقدها، وتوحيد قوانين تسجيل أراضي ال48 السارية لدينا بقانون فلسطيني موحد يسهل إجراءات التسوية والتسجيل)، وبأن يسلح أيضا بالتوسع العمراني الأفقي على أكبر رقعة أرض ممكنة، (وهو ما يجب على السلطة الفلسطينية أيضا تسهيله من خلال خدمات البنى التحتية لتلك الأراضي)، بدلا من سياسات الحد من منح تصاريح البناء على الأراضي المحرمة ضمن المخطط المكاني آنف الذكر. وتحضرني ضمن هذه الجزئية حالة مستوطنة (حومش) التي قامت على أراضي قرى برقة وبزاريا وسيلة الظهر وجبع شمال الضفة الغربية، والتي قام الاحتلال الإسرائيلي بإخلائها عام (2005) بعد ثلاثين عاما من الاستيطان والمعاناة. فبدلا من توجيه الجهود الرسمية لإعمار تلك المنطقة واستيطانها فلسطينيا، نجد أن تلك الأراضي قد وقعت ضمن المساحات الخضراء الممنوعة من البناء وفقا للمخطط الوطني المكاني، على الرغم من أن تلك المناطق تعرضت لعدة محاولات من قطعان المستوطنين لإعادة استعمارها مرة أخرى. أولويات المانحين في تقديري، فإن مشروع المخطط المكاني هو نتاج تمويل سخي من المانحين، لا أعتقد أنه انبثق من أولوية تنموية وطنية بحته، فعملية التنظيم المكاني للأرض للأجيال القادمة يجب أن تُسبق بتثبيت وجودنا على هذه الأرض، فالمخطط المكاني المقترح يراهن على حسن النوايا الإسرائيلية في حل الدولتين، وهو ما ثبت بطلانه على أرض الواقع، ويراهن على بصيرة ثاقبة للمانحين تخولهم رسم أولويات التنمية لدينا، ويبدو أننا بالغنا في حسن الظن. وضمن سعينا إلى تثبيت وجودنا على هذه الأرض، لا بد لنا من رؤية شمولية لأولويات الأطر السياسية والتفاوضية والاقتصادية والأمنية، ولا أرى المخطط المكاني في أي من تلك الأولويات، إلا ضمن الأراضي غير المهددة بالاستيطان داخل حدود البلديات والقرى الفلسطينية. وعليه، فإن الأولوية المكانية على الأرض تحتم علينا وضع استراتيجيات تعزز من صمودنا على أرضنا ضمن آليات تسجيل لأكبر مساحة ممكنة من الأرض، وبث الروح في ثقافة الإنتاج الزراعي من خلال تفعيل أكبر لدور وزارة الزراعة ومراكز البحث والتطوير الزراعي والمؤسسات المساندة للقطاع الزراعي، على غرار شركات تسويق زراعي عابرة للقارات بملكية مشتركة للقطاعين العام والخاص، وشركات تأمين زراعي، ومؤسسات الإقراض الزراعي، وغيرها من الخطوات التي كان يجب أن تسبق بمراحل مشروع المخطط الوطني ا لمكاني. هكذا يكون الاستيطان الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، فنحن من يجب أن يستوطن هذه الأرض لا غيرنا.