الأنظمة العربية ليست مغفلة، بل هي توظف كل شيء لكي تستمر، والغريب أنها استطاعت توظيف حتى الانتفاضات العربية، التي سميت تجاوزا «ثورات»، لكي تجعلها في مصلحتها عوض أن تجرفها هي أيضا. جاءت الانتفاضة الأولى في تونس، وكانت الأشياء طبيعية جدا، يعني أن عربة مجرورة انقلبت فانقلب معها زين العابدين وزوجته وإخوتها وأفراد عائلتهما، لكن هل سقط النظام التونسي القديم؟ هذا سؤال محير، لأن سدنة النظام القديم هم أنفسهم الذين لازالوا يكيدون كيدا إلى اليوم، وفوق هذا وذاك نظموا أنفسهم في حزب جديد، والويل لمن يقترب منهم لأن ذلك سيعتبر تعديا على الحريات وعودة بالبلاد إلى النظام القديم، مع أنهم كانوا أعمدة النظام القديم وسدنته. التونسيون، الذين كانوا يطمحون إلى تغيير حقيقي، لازالوا حائرين إلى اليوم لأن ثورتهم تحتاج إلى ثورة، لكن المشكلة أن الثورة القائمة الآن يقوم بها أنصار النظام القديم، ومن يشك في ذلك فليسأل قادة حزب «النهضة» كيف يحكمون، وأكيد أنهم سيجيبونه بأنهم لا يحكمون، بل يجلسون في كراسي الحكم فقط، أما الحاكمون الحقيقيون فهم في الظل. الانتفاضة الثانية التي عرفها العرب هي انتفاضة المصريين، وهؤلاء كانوا يطمحون منذ زمن بعيد إلى تغيير الأشياء ومنع تحول حسني مبارك إلى فرعون جديد، خصوصا وأنه كان يعدُّ ابنه جمال لوراثته بعد أزيد من ثلاثين سنة من الحكم، تماما كما فعل الفرعون خوفو مع ابنه الفرعون رعْ. نظريا، كان يبدو أن المصريين نجحوا في ثورتهم، لكن الحقيقة أنه بعد تنحي مبارك تسلم العسكر السلطة؛ ومن أجل تجنيب البلاد حمام دم مخيفا، تتحطم فيه صورة الجيش إلى الأبد، قرر الجنرالات عقد تسوية سياسية، وها هي البلاد اليوم مقبلة على مصير مجهول، وها هم المصريون لا يعرفون ما سيفعلونه مع أباطرة نظام حسني مبارك، إلى درجة أن الرئيس مرسي، في خطاب شاهده العالم، يذكر أعداءه بالاسم ويقول إنه يعرفهم، وهذه مسخرة، لأن الثورة الحقيقية لا تهدد أعداءها، بل تزيحهم من طريقها بسرعة وبشكل نهائي، هذا إذا لم تنصب لهم المشانق في الساحات العامة أو تجعل المقاصل تقطع أعناقهم، كما فعلت الثورة الفرنسية مع أعدائها. في مصر، يقال إن هناك أموالا طائلة يتم توظيفها من أجل إبقاء النظام القديم، والدليل على ذلك أنه لم تتم إدانة أي متهم من نظام مبارك بتهم ثقيلة ونهائية، وحتى مبارك نفسه، المتهم رسميا بقتل مئات المصريين، يرفل في نعيم منتجع شرم الشيخ، وهو تقاعد رائع. في مصر أيضا، لا يفهم الناس كيف أن شاحنات تقوم في عز الليل بحمل أطنان من الأزبال من مطارح القمامة في القاهرة وغيرها وإعادة توزيعها على شوارع البلاد لكي يشعر الناس بأن ثورتهم لها رائحة الأزبال، ثم يترحمون على النظام الزائل أو الذي يُفترض أنه أُزيل. أما في ليبيا فالقضية «حامْضة» أكثر من اللازم، والليبيون لا زالوا يتساءلون كم أدوا من ثمن لكي يقف إلى جانبهم حلف شمال الأطلسي، وكم عليهم أن يضخوا من بترول في معدة كل من فرنسا وأمريكا وبريطانيا ثمنا لتحرك طائرات هذه البلدان لوقف زحف عسكر القذافي على المنتفضين. الوضع في ليبيا الآن محيّر لأنه حتى البلدان العربية التي ساندت الانتفاضة، وهي بلدان خليجية بالأساس، تخوض حربا شرسة حتى لا يقف الليبيون وينظروا نحو المستقبل بثبات، لأنه لو نجح الليبيون والتونسيون والمصريون في ثوراتهم، فإن ذلك سيعطي شعوبا أخرى آمالا كبيرة في الانتفاضة، وهذا سيهدد بالأساس بلدانا غنية ومريضة تتوارث كراسي الحكم كما تتوارث البطيخ. لا زال الليبيون يتساءلون، أيضا: لماذا عاش الجنرال بنعلي وحظي بلجوء رائع في السعودية؟ ولماذا يستمتع مبارك بآخر أيامه في منتجع شرم الشيخ؟ ولماذا حظي رئيس اليمن بعلاج دقيق وضيافة كريمة في السعودية؟ بينما قُتل القذافي كجرذ في قناة مياه مهجورة؟ في اليمن حدث ما هو أغرب من كل شيء، فإلى حد الآن لا يزال هناك شباب داخل السجون لأنهم شاركوا في الانتفاضة. إنه شيء لا يمكن أن يحدث في أية ثورة، وأكثر من هذا فإن الرئيس اليمني الحالي لا يزال يهدد بكشف فساد رموز النظام القديم، لأنهم هم الذين يتحكمون في رقبته ورقبة اليمن. إنها «ثورات» فشلت لأنها لم تنصب المشانق.