بعد سقوط بنعلي ومبارك، تحركت شوارع عدد من البلدان العربية لإسقاط أنظمتها، وهذا فيه حيف كبير، لأن المنطق يفرض أن تعطى هدية مجانية للشعوب المنتفضة. فبعد سقوط بنعلي ومبارك بانتفاضات دامية وسقوط أكثر من ألف ضحية في البلدين، كان ينبغي أن يتنحى حاكم عربي بدون ثورة، أو يتم اختياره بالقرعة، المهم أن يكون ذلك بدون دماء. هذه الطريقة معمول بها في الأسواق التجارية الكبرى، حيث يمكنك أن تشتري منتوجين، ويُعطاك منتوج ثالث مجانا، وذلك من أجل تشجيع الاستهلاك، لذلك يجب إسقاط حاكم عربي مجانا كهدية للشعوب العربية المنتفضة، والتي عانت طويلا من أسوأ ظروف القهر والتنكيل. هناك أشياء أخرى كثيرة محيّرة في الانتفاضات العربية. ففي مصر، وجد المصريون أنفسهم يحاصرون قصورا رئاسية هي نفسها التي حاصرها آباؤهم أو أجدادهم من قبل، والتي كان يسكنها الملك فاروق. والغريب أن القصور عندما كان يسكنها الملك فاروق كانت في ملكية الشعب، وعندما سكنها حسني مبارك حولها إلى اسمه الشخصي وأسماء عائلته. مسألة محيرة أخرى ظهرت مع سقوط مبارك، وهي أن كثيرا من الأغاني «الثورية» التي تم بثها على شاشات التلفزيون تم غناؤها بعد سقوط الملك فاروق، ثم بثت بعد سقوط «الشاب حسني».. يا لها من مفارقات قاسية تلك التي يرميها التاريخ على وجوهنا. الشيء الأكثر غرابة في انتفاضة مصر هو استمرار المسيرات الاحتجاجية المليونية بعد سقوط مبارك. ويبدو أن من سقط في مصر هو الشعب وليس الرئيس، لأن هذا الأخير ذهب إلى منتجع شرم الشيخ، وهو دائما يفضل الحكم من ذلك المكان حتى بدون ثورة، ومن هناك صار يقود هجوما ضد الشعب ويعطي الأوامر لأتباعه داخل الحكومة والجيش والأمن والحزب ورجال الأعمال، خصوصا وأن الحكومة التي شكلها هي التي ظلت تحكم، وهذه واحدة من أغرب ثورات العالم، حيث تحكم حكومة من العهد البائد في العهد الجديد. مبارك أيضا بدأ يروج الإشاعات حول حالته الصحية المتدهورة حتى لا يخرج الناس مطالبين برحيله خارج مصر، ونجح في ذلك أيّما نجاح. وفي تونس، اكتشف الناس أن رئيسهم وزوجته لم يكونا حاكمين بقدر ما كانا لصين حقيقيين، وأنهما كانا ينهبان كل شيء، من أموال وذهب وماس ومجوهرات، ويخزنانه، في أماكن سرية. كما أن الكثير من الآثار، التي تعود إلى الحقبة الرومانية وما قبلها، تحولت إلى قطع ديكور في قصور وفيلات عائلة بنعلي وزوجته، وكلهم من الجوعى الذين لم يكونوا يجدون في السابق لقمة العيش، فصاروا يؤثثون مساكنهم بتماثيل لرؤوس القياصرة. الشعوب عندما تتأخر في الانتفاضة وتترك الحبل على الغارب، فإن الذين يحكمونها يتصورون أنفسهم آلهة، ولهذا السبب تماما قال الفرعون لشعبه «أنا ربكم الأعلى». الشعوب يجب أن تتحرك باستمرار وتخيف حكامها بالثورة حتى يعرف الحكام أنهم بشر وأن زوالهم ممكن في أي وقت. في انتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن، تبين أيضا أن الأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات انتهى دورها في إشعال الاحتجاجات. فاليوم يملك كل مواطن عربي فتيل غضبه في يده، يطفئه متى يشاء ويشعله متى يشاء. في كل هذه الانتفاضات، بدا مثيرا ذلك الجبن الخطير الذي يبديه من يسمون أنفسهم فنانين ومبدعين وكتابا. وقليلون منهم كانت لهم الشجاعة للاحتجاج والنزول مع الناس للتظاهر، أما الآخرون فإما أنهم فضلوا الانتحار مع النظام أو دخلوا جحورهم في انتظار أن يعرفوا من الغالب لكي يطبقوا مقولة «الله ينصر من اصْبح». هناك شيء آخر محير لدى الحكام العرب، وهو أنهم مستعدون للموت عوض التخلي عن كرسي الحكم. ففي تونس، لم يرحل بنعلي إلا بعد أن هدده الجيش بأنه سيقدمه إلى المحاكمة، وربما يتم إعدامه. وفي مصر، ظل مبارك مثيرا للشفقة وهو يتلوى مثل أفعى مرقطة حول عرش السلطة إلى أن دخل معه الجيش في تسوية غامضة ومشبوهة. وفي ليبيا، يرتكب القذافي المجنون جرائم ضد الإنسانية لكي يستمر في ممارسة جنونه على شعب ليبيا البطل. الحاكم العربي يفضل الموت أو إبادة الشعب على الابتعاد عن كرسي السلطة.